الخميس، 27 أبريل 2023

الإستعداد للموت وسؤال القبر المليباري

 

الإستعداد للموت وسؤال القبر

المليباري

نسخ وترتيب وتنسيق مكتبة مشكاة الإسلامية

http://www.almeshkat.net/books/index.php

التحذير من الاغترار بالدنيا

قال الله تعالى: )يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تُلهِكُم أَموَلُكُم وَلاَ أَولاَدُكُم عَن ذِكْرِ الله وَمَن يَفعَلْ ذَلِكَ فَأْوْلَئِكَ هُمُ الخَاسِرُونَ. وَأَنفِقُواْ مِن مَّا رَزَقنَكُم مِّن قَبلِ أَن يَأْتِي أَحَدَكُمُ المَوتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَو لاَ أَخَّرتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُن مّنَ الصَّالِحِينَ. وَلَن يُؤَخِّرَ الله نَفساً إِذَا جَاءَ أَجَلُهَا وَالله خَبِيرُ بِمَا تَعْمَلُونَ(.
وفي كتاب الترمذي قال النبي صلى الله عليه وسلم: "أكثروا ذكر هازم اللذات الموت".
وفي الصحيحين عن ابن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "ما حق امرئ مسلم له شيء يوصي فيه يبيت ليلتين إلا ووصيته مكتوبة عنده" وفي رواية مسلم: "يبيت ثلاث ليال" قال ابن عمر رضي الله عنهما ما مرت عليَّ ليلة منذ سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم قال ذلك إلا وعندي وصيتي.
وفي صحيح البخاري عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: "أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم بمنكبي وقال: كن في الدنيا كأنك غريب أو عابر سبيل وعدّ نفسك من أصحاب القبور" أي لا تركننّ إليها ولا تتخذها وطناً ولا تحدث نفسك بطول البقاء فيها ولا بالاعتناء بها ولا تتعلق منها بما لا يتعلق به الغريب في غير وطنه. لا تشتغل فيها به الغريب الذي يريد الذهاب إلى أهله، وكان ابن عمر رضي الله عنهما يقول: إذا أمسيت فلا تنتظر الصباح وإذا أصبحت فلا تنتظر المساء، وخذ من صحتك لمرضك ومن حياتك لموتك.
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "اثنتان يكرهما ابن آدم يكره الموت والموت خير للمؤمن من الفتنة ويكره قلة المال وقلة المال أقل الحساب".
وقال حاتم الأصم: لكل شيء زينة وزينة العبادة الخوف وعلامة الخوف قصر الأمل.
وقيل للحسن ألا تغسل قميصك فقال الأمر أعجل من ذلك.
أعلم أنه يسن لكل واحد من المكلَّفين إكثار ذكر الموت وينبغي أن يستعد له بالتوبة إلى الله تعالى ورد المظالم والمريض أكد لأنه يرق به قلبه ويخاف فيرجع عن المظالم ويقبل على الطاعات.
واعلم أن بني آدم طائفتان طائفة نظروا إلى شاهد خيال الدنيا وتمسكوا بتأميل العمر الطويل ولم يتفكروا في النفس الأخير، وطائفة عقلاء جعلوا النفس الأخير نصب أعينهم لينظروا ماذا يكون مصيرهم، وكيف يخرجون من الدنيا ويفارقونها وإيمانهم سالم وما الذي ينزل معهم من الدنيا في قبورهم وما الذي يتركونه لأعدائهم ويبقى عليهم وباله ونكاله وهذه الفكرة واجبة على كافة الخلق وهي على الملوك وأهل الدنيا أوجب لأنهم كثيراً ما أزعجوا قلوب الخلق وأدخلوا في قلوبهم الرعب فإن الحقِّ تعالى ذكره ملاكاً يعرف بملك الموت لا مهرب لأحد من مطالبته ونشبته وكل موكلي الملوك يأخذون جعلهم ذهباً وطعاماً، وهذا الوكيل لا يأخذ سوى الروح جعلاً وسائر موكلي السلاطين تنفع عندهم الشفاعة وهذا الموكل لا تنفع عنده شفاعة شافع وجميع الموكلين يمهلون من يوكلون به اليوم والساعة وهذا الموكل لا يهمل نفساً واحداً.

ويروى أنه كان ملك كثير المال قد جمع مالاً عظيماً واحتشد من كل نوع خلقه الله تعالى من متاع الدنيا ليرفه نفسه ويتفرغ لأكل ما جمعه، فجمع نعماً طائلة وبنى قصراً عالياً مرتفعاً سامياً يصلح للملوك والأمراء والأكابر والعظماء وركَّب عليه بابين محكمين وأقام عليه الغلمان والأجلاد والحرسة والأجناد والبوابين كما أراد وأمر بعض الأنام أن يصطنع له من أطيب الطعام وجمع أهله وحشمه وأصحابه وخدمه ليأكلوا عنده وينالوا رفده، وجلس على سرير مملكته واتكأ على وسادته وقال يا نفس قد جمعت أنعم الدنيا بأسرها فالآن أفرغي لذلك وكلي هذه النعم مهنأة بالعمر الطويل، والحظ الجزيل، فلم يفرغ مما حدث نفسه حتى أتى رجل من ظاهر القصر عليه ثياب خلقة ومخلاته في عنقه معلقة على هيئة سائل يسأل الطعام فجاء وطرق حلقة الباب طرقة عظيمة هائلة بحيث تزلزل القصر وتزعزع السرير وخاف الغلمان ووثبوا إلى الباب وصاحوا بالطارق وقالوا يا ضيف ما هذا الحرص وسوء الأدب اصب إلى أن نأكل ونعطيك مما يفضل، فقال لهم قولوا لصاحبكم أن يخرج إليّ فلي إليه شغل مهم وأمر ملم فقالوا له تنح أيها الضيف من أنت حتى نأمر صاحبنا بالخروج إليك، فقال: أنتم عرِّفوه ما ذكرت لكم فلما عرَّفوه قال هلا نهرتموه وجرتم عليه وزجرتموه ثم طرق حلقة الباب أعظم من طرقته الأولى فنهضوا من أماكنهم بالعصي والسلاح وقصدوه ليحاربوه فصاح بهم صيحة وقال: ألزموا أماكنكم فأنا ملك الموت وطاشت حلومهم وارتعدت فرائضهم وبطلت عن الحركة جوارحهم فقال الملك قولوا له ليأخذ بدلاً مني وعوضاً عني فقال ما آخذ إلا روحك ولا أتيت إلا لأجلك لأفرق بينك وبين النعم التي جمعتها والأموال التي حويتها وخزنتها فتنفس الصعداء وقال لعن الله هذا المال الذي غرني وأبعدني ومنعني من عبادة ربي وكنت أظن أنه ينفعني فاليوم صار حسرتي وبلائي وخرجت صفر اليدين منه وبقي لأعدائي فأنطق الله تعالى المال حتى قال لأي سبب تلعنني العن نفسك فإن الله تعالى خلقني وإياك من تراب وجعلني في يدك لتتزود بي إلى آخرتك وتتصدق بي على الفقراء وتزكي بي على الضعفاء ولتعمر بي الربط والمساجد والجسور والقناطر لأكون عوناً لك في اليوم الآخر جمعتني وخزنتني وفي هواك أنفقتني ولم تشكر حقي بل كفرتني فالآن تركتني لأعدائك وأنت بحسرتك وبلائك فأي ذنب لي فتسبني وتلعنني، ثم إن ملك الموت قبض روحه قبل أكل الطعام فسقط على سريره صريع الحمام:

تجهز إلى الأجداث ويحك والرمس

 

جهازاً من التقوى لأطول ما حبس

فإنك لا تدري إذا كنت مصبـحـاً

 

بأحسن ما ترجو لعلك لا تمسـي

سأتعب نفسي كي أصـادف راحة

 

فإن هوان النفس أكرم للنـفـس

وأزهد في الدنيا فإن مقـيمـهـا

 

كظا عنها ما أشبه اليوم بالأمـس

الاستعداد لنزول الموت

قال الله تعالى: )حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ المَوُتُ قَالَ رَبِّ ارجِعُونِ. لَعَلّى أَعمَلُ صَلِحاً فِيما تَرَكْتُ كَلاَّ إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِن وَرَائِهِم بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ. فَإِذَا نُفِخَ فيِ الصَّورِ فَلاَ أَنسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلاَ يَتَسَاءَلُونَ( إلى آخر السورة.
وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم غرز عوداً بين يديه وآخر إلى جبينه وآخر أبعد منه فقال: "أتدرون ما هذا?" قالوا: اللّه ورسوله أعلم قال: "هذا الإنسان وهذا الأجل وهذا الأمل فيتعاطى الأمل فيلحقه الأجل دون الأمل".
وروي عن ابن عباس رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال لرجل وهو يعظه: "اغتنم خمسا قبل خمس: شبابك قبل هرمك وصحتك قبل سقمك وغناك قبل فقرك، وفراغك قبل شغلك وحياتك قبل موتك" وكتب الإمام أبو حامد الغزالي إلى الشيخ أبي الفتح بن سلامة " قرع سمعي بأنك تلتمس مني كلاماً وجيزاً في معرض النصح والوعظ وإني لست أرى نفسي أهلا له فإن الوعظ زكاة نصابها الاتعاظ فمن لا نصاب له كيف يخرج الزكاة وفاقد النور كيف يستنير به غيره ومتى يستقيم الظل والعود أعوج".

وقد أوصى الله تعالى عيسى بن مريم عليهما السلام: يا ابن مريم عظ نفسك فإن اتعظت فعظ الناس وإلا فاستحي مني، وقال نبينا صلى الله عليه وسلم: "تركت فيكم ناطقاً وصامتاً" فالناطق هو القرآن والصامت هو الموت وفيهما كفاية لكل متعظ ومن لم يتعظ بهما كيف يعظ غيره، ولقد وعظت نفسي بهما وقبلت وصدقت قولاً وعملاً وأبت وتمردت تحقيقاً وفعلاً فقلت لنفسي أما أنت مصدقة بان القرآن هو الواعظ الناطق وأنه كلام اللّه المنزل الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه فقالت: بلى فقلت لها قد قال اللّه تعالى: )مَن كَانَ يُرِيدُ الحَيَاةَ للدُّنيَا وَزِنَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَالاَ يُبْخَسُونَ. أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَبْسَ لَهُمْ فيِ الآخِرَةِ إِلاَّ النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُواْ فِيهَا وَبَطِلٌ مَّا كَانُواْ يَعْمَلُونَ.(.
فقد وعد اللّه بالنار على إرادة الدنيا وكل ما لا يصحب بعد الموت فهو من الدنيا فهل تنزهت عن حب الدنيا وإرادتها ولو أن طبيباً نصرانياً وعدك بالموت أو بالمرض على تناول ألذ الشهوات لتحاميتها واتقيت وأنفت منها، أفكان النصراني عندك أصدق من اللّه تعالى فإن كان كذلك فما أكفرك أم كان المرض أشد عليك من النار فإن كان كذلك فما أجهلك فصدقت فما انتفعت بل أصرت على الميل إلى العاجلة واستمرت ثم أقبلت عليها فوعظتها بالواعظ فقلت لها قد اخبر الناطق عن الصامت.
قال الله تعالى:
)قُلْ إِنَّ المَوْتَ الذَّي تَفِرُّونَ مِنْهُ مُلاَقِيكُمْ ثُمَّ تُرَدُّونَ إلَى عَالِمِ الغَيْبِ وَالشَّهَادةِ فَيُنَبِئُكُم بِما كُنتُم تَعمَلُونَ(.
وقلت لها هبي أنك ملت إلى العاجلة أفلست مصدقة بأن الموت لا محالة يأتيك قاطعاً عليك ما أنت متمسكة به وسالباً منك كل ما أنت راغبة فيه وأن كل ما هو آت قريب وأن البعيد ما ليس بآت.
وقد قال الله تعالى
)أَفَرَأَيْتَ إِن مَّتَّعْناهُمْ سِنِينَ. ثُمَّ جَاءهُم مَّا كانُواْ يُوعَدُونَ. ما أَغْنَى عَنْهُم مَّا كانُوْا يُمَتَّعُوَن(.
فكأنك مخرجة بهذا الوعظ عن جميع ما أنت فيه قالت صدقت فكان منها قولاً لا يحصل وراءه ولم تجتهد قط في تزود الآخرة كاجتهادها في تدبير العاجلة ولم تجتهد في رضى الله تعالى كاجتهادها في طلب رضاها وطلب رضى الخلق ولم تستحي من الله تعالى كما تستحي من واحد من الخلق ولم تشمر لاستعداد الآخرة كتشميرها في الصيف لأجل الشتاء وفي الشتاء لأجل الصيف فإنها لا تطمئن في أوائل الشتاء ما لم تتفرغ عن جميع ما تحتاج إليه فيه مع إن الموت ربما يخطفها والشتاء لا يدركها والآخرة عندها يقين فلا يتصور أن تختطف منها، فقلت لها ألست تستعدين للصيف بمقدار طوله وتصنعين آلة الصيف بقدر صبرك على الحر قالت نعم قلت فاعصي الله بقدر صبرك على النار واستعدي للآخرة بقدر بقائك فيها فقالت هذا هو الواجب الذي لا يرخص في تركه إلا الحمق ثم استمرت على سجيتها ووجدتني كما قال بعض الحكماء في الناس من ينزجر نصفه ثم لا ينزجر نصفه الآخر وما أراني إلا منهم ولما رأيتها متمادية في الطغيان غير منتفعة بمواعظ الموت والقرآن رأيت أهم الأمور التفتيش عن سبب تماديها مع اعترافها وتصديقها فإن ذلك من العجائب العظيمة فطال تفتيشي عنه حتى وقفت على سببه وها أنا موص نفسي وإياك بالحذر منه هو الداء العظيم وهو السبب الداعي إلى الغرور والإهمال وهو اعتقاد تراخي الموت واستبعاد هجومه على القرب فإنه لو أخبر صادق في بياض نهاره أنه يموت في ليله أو يموت إلى أسبوع أو شهر لاستقام على الصراط المستقيم وترك جميع ما هو فيه مما يظن أنه يتعاطاه لله تعالى وهو فيه مغرور فضلاً عما ليس لله تعالى فانكشف لي تحقيقاً أن من أصبح وهو يؤمل أنه يمسي أو أمسى وهو يؤمل أنه يصبح لم يخل من الفتور والتسويف ولم يقدر إلا على سير ضعيف.

فأوصيك ونفسي بما أوصى به رسول الله صلى الله عليه وسلم حيث قال: "صل صلاة مودع" ولقد أوتي جوامع الكلم وفصل الخطاب ولا ينتفع بوعظ إلا به ومن غلب على ظنه في كل صلاة أنها آخر صلاته حضر معه خوفه من الله تعالى وخشيته منه ومن لم يخطر بمخاطره قصر عمره وقرب أجله وغفل قلبه عن صلاته وسئمت نفسه فلا يزال في غفلة دائمة وفتور مستمر وتسويف متتابع إلى أن يدركه الموت ويهلكه حسرة الفوت وأنا مقترح عليه أن يسأل الله تعالى أن يرزقني هذه الرتبة فإني طالب لها وقاصر عنها وأوصيه أن لا يرضى من نفسه إلا بها وأن يحذر مواقع الغرور فيها ويحترز من خداع النفس فإن خداعها لا يقف عليه إلا الأكياس وقليل ما هم والوصايا وإن كانت كثيرة والمذكورات وإن كانت كبيرة فوصية الله أكملها وأنفعها وأجمعها وقد قال الله عزِ وجلّ في محكم القرآن) وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُواْ الكِتابَ مِن قَبْلِكُمْ وإيَّاكُمْ أَنِ اتَّقوُا الله(.
فما أسعد من قبل وصية الله تعالى وعمل بها وادخرها لنفسه ليجدها يوم مردها ومنقلبها وقال يزيد الرقاشي كان في بني إسرائيل جبار من الجبابرة وكان في بعض الأيام جالساً على سرير مملكته فرأى رجلا قد دخل من باب الدار ذا صورة منكرة وهيئة هائلة فاشتد خوفه من هجومه وهيئته وقدومه فوثب في وجهه وقال له: "من أنت أيها الرجل ومن أذن لك في الدخول إلى داري فقال أذن لي صاحب الدار وأنا الذي لا يحجبني حاجب ولا أحتاج في دخولي على الملوك إلى إذن ولا أرهب سياسة السلطان ولا يفزعني جبار ولا أحد من قبضتي فرار فلما سمع هذا الكلام خر على وجهه ووقعت الرعدة في جسده وقال: أنت ملك الموت قال: نعم قال أقسم عليك باللّه إلا أمهلتني يوماً واحداً لأتوب من ذنبي وأطلب العذر من ربي وأرد الأموال التي أودعتها خزائني إلى أربابها ولا أتحمل مشقة عذابها، فقال كيف أمهلك وأيام عمرك وأيام عمرك محسوبة وأوقاتها مثبتة مكتوبة فقال أمهلني ساعة، فقال إن الساعات في الحساب وقد عبرت وأنت غافل وانقضت وأنت ذاهل وقد استوفيت أنفاسك ولم يبق لك نفس واحد، فقال من يكون عندي إذا نقلتني إلى لحدي فقال لا يكون عندك سوى عملك فقال ما لي عمل? فقال لا جرم يكون مقيلك في النار ومصيرك إلى غضب الجبار" وقبض روحه، فخر عن سريره وعلا الضجيج من أهل مملكته وارتفع ولو عملوا ما يصير إليه من سخط ربه لكان بكاؤهم عليه أكثر وعويلهم أوفر.

ذم طول الأمل

قال اللّه تعالى: )أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوَاْ أَن تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ الله وَمَا نَزَلَ مِنَ اْلحَقِّ وَلاَ يَكُونُواْ كَالَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ مِن قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ فَاسِقُونَ (

وعن أبي بن كعب رضي اللّه عنه قال: كان رسول اللّه صلى الله عليه وسلم إذا ذهب ثلث الليل قام فقال: "يا أيها الناس اذكروا اللّه جاءت الراجفة تتبعها الرادفة جاء الموت بما فيه"، وعن ابن عباس رضي اللّه عنهما أن رسول اللّه صلى الله عليه وسلم : كان يهريق الماء فيتيمم بالتراب فأقول يا رسول اللّه إن الماء منك قريب فيقول "ما يدريني لعلي لا أبلغه"، وعن أنس قال النبي صلى الله عليه وسلم: "يهرم ابن آدم ويشب فيه اثنتان الحرص على المال والحرص على العمر" وقال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم : "مثل ابن آدم إلى جنبه تسع وتسعون منية إن أخطأته المنايا وقع في الهرم". وروي أن الحسن قيل له أن فلاناً مات بغتة فقال ما يعجبكم من ذلك لو لم يمت بغتة مرض بغتة ثم مات. قال الغزالي رحمة اللّه عليه "عليك أن تجتنب طول أملك فإنه إذا طال هاج أربعة أشياء:

الأول ترك الطاعة والكسل فيها يقول سوف أفعل والأيام بين يدي.

والثاني ترك التوبة وتسويفها يقول سوف أتوب وفي الأيام سعة وأنا شاب وسني قليل والتوبة بين يدي وأنا قادر عليها متى رمتها وربما اغتاله الحمام على الإصرار واختطف الأجل صلاح العمل.

والثالث الحرص على جمع الأموال والاشتغال بالدنيا عن الآخرة يقول أخاف الفقر في الكبر وربما أضعف عن الاكتساب ولا بد لي من شيء فاضل أدخره لمرض أو هرم أو فقر هذا ونحوه يحرك إلى الرغبة في الدنيا والحرص عليها والاهتمام للرزق تقول إيش آكل وإيش ألبس هذا الشتاء وهذا الصيف ومالي شيء، ولعل العمر يطول فأحتاج والحاجة مع الشيب شديدة ولا بد لي من قوت وغنية عن الناس وهذه وأمثالها تحرك إلى طلب الدنيا والرغبة فيها والجمع لها والمنع لما عندك منها.

والرابع القسوة في القلب والنسيان للآخرة لأنك إذا أملت العيش الطويل لا تذكر الموت والقبر".
وعن علي بن أبي طالب رضي اللّه عنه "أخوف ما أخاف عليكم اثنان:طول الأمل واتباع الهوى ألا إن طول الأمل ينسي الآخرة واتباع الهوى يصدك عن الحق فإذن يصير فكرك في حديث الدنيا وأسباب العيش في صحبة الخلق نحوها فيقسو القلب فبسبب طول الأمل تقل الطاعة وتتأخر التوبة وتكثر المعصية ويشتد الحرص ويقسو القلب وتعظم الغفلة فتذهب والعياذ باللّه إن لم يرحم اللّه فأي حال أسوأ من هذه وأي آفة أعظم من هذه، وإنما رقة القلب وصفوته بذكر الموت ومفاجأته والقبر والثواب والعقاب وأحوال الآخرة".
ويروى إن ذا القرنين اجتاز بقوم لا يملكون شيئاً من أسباب الدنيا وقد حفروا قبور موتاهم على باب دورهم وهم في كل وقت يتعهدون تلك القبور وينظفونها ويزورونها ويتعبدون اللّه تعالى بينها وما لهم طعام إلا الحشيش ونبات الأرض، فبعث إليهم ذو القرنين رجلاً يستدعي ملكهم فلم يجبه، وقال ما لي إليه حاجة فجاء ذو القرنين إليه وقال كيف حالكم فأني لا أرى شيئاً من ذهب ولا فضة ولا أرى عندكم شيئاً من نعم الدنيا فقال نعم لأن الدنيا لا يشبع منها أحد قط فقال لم حفرتم القبور على أبوابكم فقال لتكون نصب أعيننا فالنظر إليها يتجدد ذكر الموت ويبرد حب الدنيا في قلوبنا فلا نشتغل بها عن عبادة ربنا فقال كيف تأكلون الحشيش فقال لأنا نكره أن نجعل بطوننا مقابر للحيوان ولأن لذة الطعام لا تتجاوز الحلق، ثم مد يده فأخرج منها قحف رأس آدمي فوضعه بين يديه وقال يا ذا القرنين تعلم من كان هذا، فقال: لا، قال: كان صاحب هذا القحف ملكاً من ملوك الدنيا وكان يظلم رعيته ويجور على الضعفاء ويستفرغ زمانه في جمع الدنيا فقبض اللّه روحه وجعل النار مقره وهذا رأسه ثم مد يده ووضع قحفاً آخر بين يديه وقال له أتعرف هذا فقال لا فقال كان هذا ملكاً عادلاً مشفقاً على رعيته محباً لأهل مملكته فقبض اللّه روحه وأسكنه جنته ورفع درجته، ثم وضع يده على رأس ذي القرنين وقال ترى أي هذين الرأسين يكون هذا الرأس فبكى ذو القرنين بكاء شديداً وضمه إلى صدره وقال له إن رغبت في صحبتي فإنني أسلِّم إليك وزارتي وأقاسمك مملكتي فقال هيهات ما ليفي ذلك رغبة فقال لم قال لأن جميع الخلق كلهم أعداؤك بسبب المال والمملكة وجميعهم أصدقائي بسبب القناعة والصعلكة وللّه در القائل:

دليلك أن الفقر خير من الغنـى

 

وإن قليل المال خير من المثرى

لقاؤك عبداً قد عصى اللّه بالغنـى

 

ولم تلق عبداً قد عصى اللّه بالفقر

قصر الأمل

اعلم أن تقصير الأمل مع حب الدنيا متعذر وانتظار الموت مع الاكباب عليها غير متيسر إذا كان مملوءاً بشيء لا يكون لشيء آخر محل فيه ولأن الدنيا والآخرة كضرتين إذا أرضيت إحداهما أسخطت الأخرى وكالمشرق والمغرب بقدر ما من أحدهما تبعد من الآخر.
قال اللّه تعالى:
)مَّن كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَن نُرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلَهَا مَذْمُوماً مَّدْحُوراً(.
وقال اللّه تعالى:
)فَلاَ تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلاَ يَغُرَّنَّكُم بِالله آلْغَروُرُ(.
وقال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم: "إن الدنيا حلوة خضرة وإن اللّه مستخلفكم فيها فينظر كيف تعلمون فاتقوا الدنيا واتقوا النساء فإن أول فتنة بني إسرائيل النساء". وقال النبي صلى الله عليه وسلم: "ما ذئبان جائعان أرسلا في زريبة غنم بأفسد لها من حرص المرء على المال والشرف لدينه" ، وعن أبي سعيد الخدري رضي اللّه عنه قال: قال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم: "إن مما أخاف عليكم من بعدي ما يفتح عليكم من زهرة الدنيا وزينتها" فقال رجل يا رسول اللّه أو يأتي الخير بالشر فسكت النبيُّ حتى ظننا أنه ينزل عليه فقال فمسح عنه الرحضاء وقال "أين السائل" وكأنه حمده، وقال "إنه لا يأتي الخير بالشر وأن مما ينبت الربيع يقتل أو يلم إلا أكلة الخضر أكلت حتى إذا امتدت خاصرتاها استقبلت عين الشمس فثلطت وبالت ثم عادت فأكلت وإن هذا المال خضرة حلوة فمن أخذه بحقه ووضعه في حقه فنعم المعونة، ومن أخذه بغير حقه كان كالذي يأكل ولا يشبع ويكون شهيداً عليه يوم القيامة" ويعني مثال كثرة المال كمثال ما ينبت في فصل الربيع فإن بعض النبات حلوة في فم الدابة وهي حريصة على أكله لكن ربما تأكل كثيراً فيحصل بها داء من كثرة الأكل فتموت من ذلك الداء أو تقرب، فإن لم تأكل الدابة إلا بقدر ما يطيقه كرشها فتأكل وتترك الأكل حتى ينهضم ما أكلت وحتى تبول وتروث روثاً وتحصل لها خفة من خروج الروث والبول منها فلا يضرها الأكل فكذلك من يحصل له مال كثير فإن الحص على المال وتكثير الأكل والشرب والتجمل فيقسو قلبه وتتكبر نفسه ويرى نفسه أفضل من غيره ويحتقر الناس ويؤذيهم ولا يخرج حقوق المال من الزكاة وأداء الكفارات والنذور وإطعام السائلين والأضياف وحقوق الجار فمن كانت هذه صفته لا شك أن المال شر له ويبعده عن الجنة ويقربه من النار ومن أدى حقوق المال ولا يحتقر الناس ولا يفتخر عليهم ولا يشتغل بجمع المال بحيث يفوت عنه طاعة ويحسن إلى الناس فماله خير له كما قال عليه السلام: "نعم المال الصالح للرجل الصالح" فإذا عرفت هذا فقد عرفت أن الخير والشر لا يحصل للرجل من المال بل نفس الرجل التي هي تصرف المال فيما فيه خير له أو شر له، قاله المظهري وقال صلى الله عليه وسلم: "لكل أمة فتنة وفتنة أمتي المال"

وقال صلى الله عليه وسلم: "إن اللّه تعالى يقول: ابن آدم تفرغ لعبادتي أملأ صدرك غنى وأسد فقرك وإن لم تفعل ملأت يدك شغلاً ولم أسد فقرك".

وحكي أن رابعة العدوية رضي اللّه عنها كانت تقول "لكل يوم ليلة وهذه ليلتي أموت فيها فلا تنام حتى تصبح وتقول للنهار كذا فلا تنام حتى تمسي.

وقال أبو بكر بن عياش: ختمت القرآن في هذه الزاوية ثمانية عشر ألف ختمة، وصام ابن المعتمر أربعين سنة وقام ليلها، ولم يضع سليمان التيمي جنبه عشرين سنة. وصلى عبد القادر الجيلاني رحمة اللّه عليه الصبح بوضوء العشاء أربعين سنة، ولزم الغزالي الأنقطاع ووظائف أوقاته على وظائف الخير بحيث لا يمضي لحظة منها إلا في طاعة من التلاوة والتدريس والنظر في الأحاديث خصوصاً البخاري، وإدامة الصيام والتهجد ومجالسة أهل القلوب إلى أن أنتقل إلى رحمة اللّه تعالى، ولم يضع النووي رحمه اللّه جنبه على الأرض نحو سنتين وكان لا يضيع له وقتاً في ليل ولا نهار إلا في وظيفة من الأشتغال بالعلم حتى في ذهابه في الطريق ومجيئه يشتغل في التكرار والمطالعة.
وحكاياتهم في المبادرة الى الخيرات كثيرة يكفي من وفقه اللّه ما ذكرنا وكل ذلك من نتيجة قصر الأمل.

اعلم أن مما يعينك على ذكر الموت :

أن تذكر من مضى من أقاربك وإخوتك وأصحابك وأترابك الذين مضوا قبلك كانوا يحرصون حرصك، ويسعون سعيك ويعملون في الدنيا عملك فقصفت المنون أعناقهم، وقلعت أعراقهم وقصمت أصلابهم، وفجعت فيهم أحبابهم فأفردوا في قبورهم موحشة وصاروا جيفاً مدهشة والأحداق سالت والألوان حالت والفصاحة زالت والرؤوس تغيرت ومالت مع فتان يقعدهم ويسألهم عما كانوا يعتقدون، ثم يكشف لهم من الجنة والنار مقعدهم إلى يوم يبعثون، فيرون أرضاً مبدلة وسماء مشققة وشمساً مكورة ونجوماً منكدرة وملائكة منزلة وأهوالاً مذعرة وصحفاً منتشرة وناراً زفرة وجنة مزخرفة فعد نفسك منهم ولا تغفل عن زاد معادك ولا تهمل نفسك سدى كالبهائم ترتع ولا تدري

)ذَرْهُمْ يَأْكُلُواْ وَيَتَمَتَّعُواْ وَيُلْهِهِمُ الأَمَلُ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ(.
)إِذِ الأَغْلاَلُ فِي أَعْنَاقِهِمْ وَالسَّلاَسِلُ يُسْحَبُونَ.فِي الْحَمِيِم ثُمَّ فِي النَّارِ يُسْجَرُونَ(

 

يا باني القصر الكـبـير

 

بين الدساكر والقصـور

ومجرد الجـيشَ الـذي

 

ملأ البسيطة والصدور

ومدوخ الأرض الـتـي

 

أعيت على مر الدهور

أما فرغـت فـلا تـدع

 

بنيان قبرك في القبـور

وانظر إليه تـراه كـي

 

ف إليك معترضاً يشير

واذكر رقادك وسـطـه

 

تحت الجنادل والصخور

قد بددت تلـك الـجـيو

 

ش وغيرت تلك الأمور

واعتضت من بين الحري

 

ر خشونة الحجرالكبير

وتركت مرتهـنـاً بـه

 

لا مال ويلك ولا عشير

حيران تعلن بـالأسـى

 

لهفان تدعو بالثـبـور

ودعيت باسمك بعـدمـا

 

قد كنت تدعى بالأمـير


سكرات الموت

 

قال اللّه تعالى: )كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَمَن زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلاَّ مَتَاعُ الْغُرُورِ(.
وقال تعالى:
)وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِ ذَلِكَ مَا كُنتَ مِنْهُ تَحِيدُ(.
روي البخاري في صحيحه أن عائشة رضي اللّه عنها قالت: "إن رسول اللّه صلى الله عليه وسلم كان بين يديه علبة فيها ماء فجعل يدخل يديه في الماء فيمسح بهما وجهه ويقول لا إله إلا اللّه إن للموت لسكرات ثم نصب يديه فجعل يقول إلى الرفيق الأعلى حتى قبض" وفي صحيحه: "لما ثقل صلى الله عليه وسلم جعل يتغشاه الكرب فجعلت فاطمة رضي اللّه عنها تقول واكرب أبتاه فقال صلى الله عليه وسلم
"لا كرب على أبيك بعد اليوم" ويروى أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل على مريض فقال "إني لأعلم ما يلقى ما فيه عرق إلا وهو يألم بالموت على حدته". ويروى عن مكحول عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال "لو أن شعرة من شعرات الميت وقعت على أهل السماوات والأرض لماتوا بأذن اللّه تعالى" وقال عمر بن الخطاب رضي اللّه عنه يا كعب حدثنا عن الموت فقال نعم يا أمير المؤمنين "هو كغصن كثير الشوك أدخل في جوف رجل فأخذت كل شوكة بعرق ثم جذبه رجل شديد الجذب فأخذ ما أخذ وأبقى ما أبقى" وكان علي رضي اللّه عنه يحض على القتال في سبيل اللّه ويقول "إن لم تقتلوا تموتوا والذي نفس محمد بيده لألف ضربة بالسيف أهون من موت على فراش". وقال شداد بن أوس: الموت أفظع هول في الدنيا والآخرة على المؤمن وهو أشد من نشر بالمنشير وقرض بالمقاريض وغلي في القدور ولو أن الميت نشر فأخبر أهل الدنيا بألم الموت ما انتفعوا بعيش ولا التذوا بنوم، ويروى أن إبراهيم صلوات اللّه عليه وسلامه لما مات قال اللّه عز وجل له "كيف وجدت الموت" قال كسفود جعل في صوف رطب ثم جذب فقال: "أما إنا قد هونا عليك".

وعن موسى صلوات اللّه عليه أنه لما صارت روحه إلى اللّه عز وجل قال له "يا موسى كيف وجدت الموت" قال: وجدت نفسي كشاة حية بيد القصاب تسلخ.

وذكر أبو بكر بن أبي شيبة عن جابر رضي اللّه عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "تحدثوا عن بني إسرائيل ولا حرج فإنهم كانت فيهم أعاجيب" ثم أنشأ يحدث قال "خرجت طائفة فأتوا مقبرة من مقابرهم فقالوا لو صلينا ركعتين ودعونا اللّه يخرج لنا بعض الأموات يخبرنا عن الموت، قال: ففعلوا فبينما هم كذلك إذ أطلع رجل رأسه من قبر تلاشى بين عينيه أثر السجود فقال: يا هؤلاء ما أردتم إلي فواللّه لقد مت منذ مائة سنة فما سكنت عني حرارة الموت حتى الآن فادعوا اللّه أن يعيدني كما كنتُ وكأن عمرو بن العاص رضي اللّه عنه يقول لوددت لو أني رأيت رجلاً لبيباً حازماً قد نزل به الموت فيخبرني عن الموت فلما أنزل به الموت قيل له يا أبا عبد اللّه كنت تقول أيام حياتك لوددت أني رأيت رجلاً لبيباً حازماً قد نزل به الموت يخبرني عن الموت وأنت ذلك الرجل اللبيب الحازم وقد نزل بك الموت فأخبرنا عنه. فقال: أجد كأن السماوات انطبقن على الأرض وأنا بينهما وكأن نفسي تخرج على ثقب إبرة".
ويروى أن إبراهيم الخليل قال لملك الموت هل تستطيع أن تريني الصورة التي تقبض فيها روح الفاجر? قال أتطيق ذلك? قال بلى فأعرض ثم التفت فإذا هو رجل أسود الثياب قاتم الشعر منتن الريح يخرج من فيه ومناخره لهب النار والدخان فغشى على إبراهيم ثم أفاق وقد عاد ملك الموت إلى صورته الأولى فقال يا ملك الموت لو لم يلق الفاجر إلا صورة وجهك لكان ذلك حسبه.
وروى عن أسلم مولى عمر بن الخطاب رضي اللّه عنهما قال: إذا بقي على المؤمن من ذنوبه شيء لم يبلغه عمله شدد عليه الموت ليبلغ بسكرات الموت وشدته درجته في الجنة وإن الكافر إذا كان عمله معروفاً في الدنيا هون عليه الموت ليستكمل ثواب معروفه في الدنيا ثم يصير إلى النار.
وروي البخاري أن عمر بن الخطاب رضي اللّه عنه قال: "لو أن لي طلاع الأرض ذهباً لافتديت به من قبل أن أراه". وقيل لم يلق ابن آدم أشد من الموت وما بعده أشد منه.
وفي الوسيط للواحدي بإسناده عن ابن عباس قال: قال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم : "الأمراض والأوجاع كلها بريد الموت ورسل الموت فإذا حان الأجل أتى ملك الموت بنفسه وقال أيها العبد كم خبر بعد وكم رسول بعد رسول وكم بريد بعد بريد أنا الخبر ليس بعدي خبر وأنا الرسول ليس بعدي رسول أجب ربك طائعاً أو مكروهاً فإذا قبض روحه وتصارخوا عليه قال على من تصرخون وعلى من تبكون? فواللّه ما ظلمت له أجلاً ولا أكلت له رزقاً بل دعاه ربه فليبك الباكي على نفسه فإن لي فيكم عودات وعودات حتى لا أبقي منكم أحداً".

وعن أنس بن مالك قال: "لقي جبريل ملك الموت بنهر فارس فقال يا ملك الموت كيف تستطيع قبض الأنفس عند الوباء هاهنا عشرة آلاف وهاهنا كذا وكذا? فقال ملك الموت تزوى لي الأرض حتى كأنهم بين فخذي فألتقطهم بيدي".
اعلم لو أنا انتظرنا ضربة شرطي لتكدر عيشنا وفي نفس يمكن مجيء الموت بشدائده وهو أمر من ضرب بالسيوف ونشر بالمناشير ويود لو قدر على صياح وأنين ويجذب روحه من كل عضد وعرق فتبرد قدماه، ثم فخذاه وهكذا حتى يبلغ الحلقوم فعنده ينقطع نظره إلى دنياه ويغلق عنه باب توبته فقد قال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم: "إن اللّه تعالى يقبل توبة عبده ما لم يغرغر".

يا فرقة الأحباب لا بد لي مـنـك

 

ويا دار دنيا إنني راحـل عـنـك

ويا قصر الأيام مالي وللـمـنـى

 

ويا سكرات الموت مالي وللضحك

فما لي لا أبكي لنفسي بـعـبـرة

 

إذا كنت لا أبكي لنفسي فمن يبكي

ألا أي حي ليس بالموت موقـنـاً

 

وأي يقين أشبه الـيوم بـالـشـك

عذاب القبر للكفار وبعض عصاة المؤمنين

قال اللّه سبحانه وتعالى: (النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوّاً وَعَشِيّاً وَيَوْمَ تَقُوْمُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوَاْ آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ).

وفي كتاب الترمذي كان عثمان بن عفان رضي اللّه عنه إذا وقف على قبر بكى حتى يبل لحيته فقيل له تذكر الجنة والنار ولا تبكي وتبكي من هذا? فقال: سمعت رسول اللّه صلى الله عليه وسلم يقول: القبر أول منزل من منازل الآخرة فأن نجا منه صاحبه فما بعده أيسر منه وإن لم ينج منه فما بعده أشد منه". وسمعت رسول اللّه صلى الله عليه وسلم يقول: "ما رأيت منظراً قط إلا والقبر أفظع منه". وفي كتاب أبي داود والنسائي عن البراء بن عازب عن رسول اللّه صلى الله عليه وسلم قال: يأتيه ملكان فيجلسانه فيقولان له: من ربك فيقول ربي اللّه فيقولان له ما دينك فيقول ديني الإسلام فيقولان له ما هذا الرجل الذي بعث فيكم فيقول هو رسول اللّه صلى الله عليه وسلم فيقولان وما يدريك فيقول قرأت كتاب اللّه فآمنت به وصدقت فذلك قوله تعالى: )يُثَبِّتُ الله الَّذِينَ آمَنُواْ بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ(.
قال فينادي مناد من السماء أن صدق عندي فافرشوه من الجنة وألبسوه من الجنة وافتحوا له باباً إلى الجنة فيأتيه من روحها وطيبها ويفسح له فيها مد بصره.
وأما الكافر فذكر موته قال ويعاد روحه في جسده ويأتيه ملكان فيجلسانه فيقولان من ربك فيقول هاه هاه لا أدري فيقولان ما دينك? فيقول هاه هاه لا أدري فيقولان ما هذا الرجل الذي بعث فيكم فيقول هاه هاه لا أدري فينادي مناد من السماء أن كذب فافرشوه من النار وألبسوه من النار وافتحوا له باباً إلى النار قال فيأتيه من حرها وسمومها قال ويضيق عليه قبره حتى تختلف عليه أضلاعه ثم يقبض له أعمى أصم معه مرزبة من حديد لو ضرب بها جبلاً لصار تراباً فيضربه بها ضربة يسمعها ما بين المشرق والمغرب إلا الثقلين فيصير تراباً ثم يعاد فيه الروح.
وفي كتاب الترمذي عن أبي سعيد الخدري قال دخل رسول اللّه صلى الله عليه وسلم لصلاة فرأى ناساً كأنهم يكثرون قال: أما إنكم لو أكثرتم ذكر هازم اللذات لشغلكم عما أرى فأكثروا ذكر هازم اللذات الموت فإنه لم يأتِ على القبر يوم إلا تكلم فيه فيقول أنا بيت الغربة وأنا بيت الوحدة وأنا بيت التراب وأنا بيت الدود فإذا دفن العبد المؤمن قال له القبر مرحباً وأهلاً أما إن كنت لأحب من يمشي على ظهري إلي فإذا وليتك وصرت إلي فسترى صنعي بك قال فيتسع له مد بصره ويفتح له باب من الجنة.
وإذا دفن العبد الفاجر أو الكافر قال له القبر لا مرحباً ولا أهلاً أما إن كنت لأبغض من يمشي على ظهري إلي فإذا وليتك اليوم صرت إلي فسترى صنعي بك قال فليتم عليه حتى يلتقي عليه وتختلف أضلاعه. قال وقال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم بأصابعه فأدخل بعضها في جوف بعض قال ويقبض له سبعون تنيناً لو أن واحداً منها نفخ في الأرض ما أنبتت شيئاً ما بقيت الدنيا فينهشنه ويخدشنه حتى يفضي به إلى الحساب.

قال وقال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم: "القبر روضة من رياض الجنة أو حفرة من حفر النار" ويروى أن رجلاً دخل على عمر بن عبد العزيز رضي اللّه عنه فرآه قد تغير لونه من كثرة العبادة فجعل يتعجب من تغير لونه واستحالة صفته فقال له عمر: يا ابن أخي وما يعجبك مني فكيف لو رأيتني بعد دخول قبري بثلاث وقد خرجت الحدقتان فسالتا على الخدين وتقلصت الشفتان عن الأسنان وخرج الصديد والدود من المناخر والفم وانتفخ البطن فعلا على الصدر وخرج الدبر من الصلب لرأيت إذ ذاك شيئاً أعجب مما رأيته الآن.
وكان بكر العابد يقول لأمه يا أمه ليتك كنت بي عقيماً إن لابنك في القبر حبساً طويلاً وإن له من بعد ذلك رحيلاً.
وقال حاتم الأصم من مر بفناء القبور ولم يتفكر في نفسه ولم يدع لهم فقد خان نفسه وخانهم. قال القشيري سمعت أبا علي الدقاق يقول دخلت على الإمام أبي بكر بن فورك عائداً فلما رآني دمعت عيناه فقلت له إن اللّه يعافيك ويشفيك فقال لي تراني أخاف من الموت إنما أخاف مما وراء الموت.

وسمعت بعض الفقراء يقول إن سبب زهد داود بن نصر الطائي أنه سمع نائحة تنوح: بأي خديك تبدي البلا وأي عينيك إذا سالا واعجبا لو وصف طبيب لك داءك ودواءك لاستمعت إليه ولأطعته وهذا دواء دائك العظيم الدفين الذي يصلي صاحبه نار جهنم فلا تسمع إليه حق الاستماع وربما إن طال المجلس نعست أو تكلمت مع أنه ورد ذم المتكلم. ولو كنت في لهو أو أمر دنيا لم تنعس بل ارتحت له وما ذاك إلا لخبث سريرتك وضعف إيمانك أين آباؤك وأين إخوانك وأحبائك سكنوا بطون الأرض وصاروا أكلاً للهوام ولا يقدرون على دفع ما يلقون من العذاب:

هو الدهر فاصبروا ما على الدهر معتب

 

ليس لنا من خطة الـمـوت مـهـرب

ولا بد من كأس الـحـمـام ضـرورة

 

ومن ذا الذي من كأسه لـيس يشـرب

وما يعـمـر الـدنـيا الـدنـية حـازم

 

إذا كان فيها عامر الـعـمـر يخـرب

وإن عـلـياً ذمـهـا فـي كـلامــه

 

وطلقها والجاهـل الـغـر يخـطـب

ولما أتى بالكـوز والـنـاس حـضـر

 

فقال لهم يا لـلـرجـال تـعـجـبـوا

ألا إن هـذا الـكـوز فـيه مـواعـظ

 

لمتعظ من ظلـمة الـقـبـر يرهـب

فكم فيه مـن ثـغـر وعـين كـحـيلة

 

وخد أسـيل كـان يهـوى ويطـلـب

وكم من عظيم القد صارت عـظـامـه

 

إناء ومنـه الـمـاء يا قـوم يشـرب

وينـقـل مـن أرض لأخـرى هـدية

 

فواعـجـاً بـعـد الـبـلا يتـغـرب

اللهم أصلحنا وأصلح فساد قلوبنا وأصلح فساد أعمالنا وأصلح فساد ولاة أمورنا وأصلحنا بما أصلحت به عبادك الصالحين.

أحوال الموتى

قال ابن عباس رضي اللّه عنهما: "مر النبي صلى الله عليه وسلم بقبرين فقال: إنهما يعذبان وما يعذبان في كبير أما أحدهما فكان لا يسبرئ من البول وأما الآخر فكان يمشي بالنميمة ثم أخذ جريدة رطبة فشقها نصفين ثم غرز في كل قبر واحدة فقال لعله أن يخفف عنهما ما لم تيبسا". ورؤى بعض الموتى في المنام فقيل له كيف كان حالك فقال صليت يوماً بلا وضوء فوكل عليَّ ذئب يروعني في قبري فحالي معه أسوأ حال. ورؤى آخر في النوم فقيل له ما فعل اللّه بك فقال: دعني فإني لم أتمكن من الغسل يوماً من الجنابة فألبسني اللّه ثوباً من النار أتقلب فيه ليلاً ونهاراً. ومر عيسى بن مريم عليه السلام بمقبرة فنادى رجلاً منهم فأحياه اللّه فقال من أنت فقال كنت جَّمالاً أنقل الناس فنقلت يوماً لإنسان حطباً وكسرت منه خلالاً وتخللت به فأنا مطالب به منذ مت. ورؤى سفيان الثوري في المنام وله جناحان يطير بهما في الجنة من شجرة إلى شجرة فقيل له بم نلت هذا فقال بالورع. ووقف حسان بن أبي سنان على أصحاب الحسن فقال أي شيْ أشد عليكم فقالوا الورع فقال ولا شيء أخف عليّ منه فقالوا فكيف? فقال لم أرو من نهركم أربعين سنة. وكان حسان بن أبي سنان لا ينام مضطجعاً ولا يأكل سميناً ولا يشرب بارداً ستين سنة فرؤي في المنام بعدما مات فقيل له ما فعل اللّه بك فقال خيراً إلا أني محبوس عن الجنة بإبرة استعرتها فلم أردها. وكان لعبد الواحد بن زيد غلام خدمه سنين ويعبد ربه أربعين سنة وكان في ابتداء الأمر كيالاً فلما مات رؤي في المنام فقيل له ما فعل اللّه بك فقال خيراً غير أني محبوس عن الجنة وقد خرج عليَّ من غبار القفيز أربعون قفيزاً.

ويروى أن رجلاً جاء إلى القبور فصلى ركعتين ثم اضطجع على شقه فنام فرأى صاحب القبر في المنام فقال هذا إنكم تعملون ولا تعلمون ونحن نعلم ولا نعمل ولأن تكون ركعتان في صحيفتي أحب إليّ من الدنيا وما فيها. وقال بعض الصالحين مات لي أخ في اللّه فرأيته في النوم فقلت له يا فلان عشت الحمد للّه رب العالمين قال لي لأن أقدر أن أقولها يعني الحمد للّه رب العالمين أحب إليّ من الدنيا وما فيها ثم قال ألم تر حيث كانوا يدفنوني فإن فلاناً جاء فصلى ركعتين لأن أقدر أن أصليهما أحب إليّ من الدنيا وما فيها. وذكر أبو سبرة أن منكراً ونكيراً أتيا رجلاً إلى قبره وقالا إنا ضاربوك مائة ضربة فقال الميت إني كنت كذا وكذا وتشفع ببعض أعماله الصالحة حتى حطا عنه عشراً ولم يزل يتشفع حتى حطا الجميع إلا ضربة فضرباه ضربة فالتهب القبر عليه ناراً فقال لم ضربتماني فقالا مررت بمظلوم فاستغاث بك فلم تغثه. وقال عبد اللّه بن عمر وجماعة من أهل بيته إنا كنا ندعو اللّه تعالى ليرينا عمر في المنام فرأيته في المنام بعد اثنتي عشرةٌ سنة كأنه قد اغتسل وهو متلفع بإزار فقلت يا أمير المؤمنين كيف وجدت ربك وبأي حسناتك جازاك فقال يا عبد الله كم لي منذ فارقتكم فقلت اثنتي عشرة سنة فقال منذ فارقتكم كنت في الحساب وخفت أن أهلك إلا أن اللّه غفور رحيم جواد كريم فهذا حال عمر ولم يكن له في دنياه شيء من أسباب الولاية سوى درة.
وروي أنه زنى أبو شحمة ولد عمر بن الخطاب رضي اللّه عنه فجلده مائة جلدة فمات فلما كان بعد أربعين يوماً قال حذيفة بن اليمان رأيت رسول اللّه صلى الله عليه وسلم في المنام وإذا الفتى معه وعليه حلتان خضراوان وقال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم أقرئ عمر مني السلام وقل له هكذا آمرك أن تقرأ القرآن وتقيم الحدود وقال الغلام يا حذيفة أقرئ أبي مني السلام وقل له طهرك اللّه كما طهرني والسلام.
وروى عن أبي بكر بن أبي الدنيا عن أصحابه أنه قال لنباش بعد توبته ما سبب توبتك ورجوعك إلى اللّه قال نبشت إنساناً فوجدته قد سمر بمسامير في جميع جسده ومسمار كبير في رأسه وآخر في رجليه وقال الآخر ما سبب توبتك قال رأيت جمجمة إنسان قد صب فيها الرصاص.
ويروى أن بعض النباشين نبش ذات ليلة قبراً فلما كشف عن الميت إذا بنار تحرق الميت فأهوت إليه منها شرارة فهرب وتاب إلى اللّه تعالى وقيل رؤي الأوزاعي في المنام فقال ما رأيت هاهنا درجة أرفع من درجة العلماء ثم المحزونين. ورؤي أبو عبد اللّه النداد في المنام فقيل له ما فعل اللّه بك فقال أوقفني وغفر لي كل ذنب أقررت به في الدنيا إلا واحداً استحييت أن أقر به فوقفني في العرق حتى سقط لحم وجهي فقيل له وما ذاك فقال نظرت إلى شخص جميل فاستحييت أن أذكره.
وروى عن هاشم بن حسان أنه قال مات لي ابن حدث فرأيته في النوم فإذا شيب رأسه فقلت يا بني ما هذا الشيب قال لما قدم علينا فلان زفرت جهنم لقدومه زفرة لم يبق أحد منا إلا شاب. وقيل لما مات كرز بن وبرة رؤي في المنام كأن أهل القبور خرجوا من قبورهم وعليهم ثياب جدد بيض وقيل ما هذا? فقالوا إن أهل القبور كسوا لباساً جدداً لقدوم كرز عليهم.
وروي أن بعض الصالحين قال كان لي ابن استشهد فلم أره في المنام إلى ليلة توفي عمر بن عبد العزيز رضي اللّه عنه إذ تراءى لي تلك الليلة فقلت يا بني ألم تك ميتاً فقال لا ولكني استشهدت وأنا حي عند اللّه تعالى أرزق فقلت ما جاء بك فقال نودي في أهل السماوات أن لا يبقى نبي ولا صديق ولا شهيد إلا ويحضر الصلاة على عمر بن عبد العزيز فجئت لأشهد الصلاة ثم جئتكم لأسلم عليكم.

وروي أن عبد الواحد بن عبد المجيد الثقفي قال رأيت جنازة يحملها ثلاثة رجال وامرأة فأخذت مكان المرأة وذهبنا إلى المقبرة فصلينا عليها ودفناها فقلت للمرأة من كان هذا منك قالت ابني أو لم يكن لك جيران قالت نعم ولكنهم صغروا أمره فقلت وإيش كان هذا فقالت هو مخنث قال فرحمتها وذهبت بها إلى منزلي وأعطيتها دراهم وحنطة وثياباً ونمت تلك الليلة فرأيت كأنه أتاني آت كأنه القمر ليلة البدر وعليه ثياب بيض فجعل يشكرني فقلت من أنت قال أنا المخنث الذي دفنتموني اليوم رحمني ربي باحتقار الناس إياي تزود لنفسك يا أخي بالتقوى ومن عرف ما بين يديه لم يؤثر الهوى ومن تفكر في رحيل من كان لديه صار النهوض مستيقناً عليه كم مغرور بشبابه وصحة حاله اختطفه الموت من خلاله كم من مائل إلى جمع ماله تركه تركة ومر بأثقاله هل رحم الموت مريضاً لضعف أوصاله هل ترك كاسباً لأجل أطفاله:

لقد أخبرتك الحدثات نـزولـهـا

 

ونادتك ألا إن سمعك ذو وقـر

تنوح وتبكي للأحبة إن مضـوا

 

ونفسك لا تبكي وأنت على الأثر

اللهم ارحمنا ولا تعذبنا وانصرنا ولا تخذلنا وعافنا ولا تمرضنا وأكرمنا ولا تهنا وآثرنا ولا تؤثر علينا إنك على كل شيء قدير.

أشراط الساعة وأحوالها

قال اللّه تعالى: )اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُّعْرِضُونَ.مَا يَأْتِيهِم مِنّ ذِكْرٍ مِّن رَّبِّهِم مُّحْدَثٍ إِلاَّ اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ.لاَهِيَةً قُلُوبُهُمْ (.
وروى الشيخان أن رسول اللّه صلى الله عليه وسلم قال: "إن من أشراط الساعة أن يرفع العلم ويكثر الجهل ويكثر الزنى ويكثر شرب الخمر ويقل الرجال ويكثر النساء حتى يكون لخمسين امرأة القيم".
وروي عن أبي هريرة رضي اللّه عنه قال: قال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم: "إذا اتخذ الفيء دولاً والأمانة مغنماً والزكاة مغرماً وتعلم لغير دين اللّه وأطاع الرجل امرأته وعق أمه وأدنى صديقه وأقصى أباه وظهرت الأصوات في المساجد وساد القبيلة فاسقهم وكان زعيم القوم أرذلهم وأكرم الرجل مخافة شره وظهرت القينات والمعازف وشربت الخمور ولعن آخر هذه الأمة أولها فارتقبوا ريحاً حمراء وزلزلة وخسفاً وقذفاً وآيات تتابع كنظام قطع سلكه فتتابع".
وعن أبي سعيد الخدري رضي اللّه عنه قال: ذكر رسول اللّه صلى الله عليه وسلم بلاء يصيب هذه الأمة حتى لا يجد الرجل ملجأ يلجأ إليه من الظلم فيبعث اللّه رجلاً من عترتي وأهل بيتي فيملأ به الأرض قسطاً وعدلاً كما ملئت جوراً وظلماً يرضى عنه ساكن السماء وساكن الأرض لا تدع السماء من قطرها شيء إلا صبته مدراراً ولا تدع الأرض من نباتها شيئاً إلا أخرجته حتى يتمنى الأحياء الموت، يعيش في ذلك سبع سنين أو ثماني سنين أو تسع سنين.
وفي صحيح مسلم عن حذيفة بن أسيد الغفاري قال أطلع النبي صلى الله عليه وسلم علينا ونحن نتذاكر فقال"ما تذاكرون" قالوا نذكر الساعة قال"إنها لن تقوم حتى تروا قبلها عشر آيات فذكر الدخان والدجال والدابة وطلوع الشمس من مغربها ونزول عيسى بن مريم ويأجوج ومأجوج وثلاثة خسوف خسف في المشرق وخسف في المغرب وخسف بجزيرة العرب وآخر ذلك نار تخرج من اليمن تطرد الناس إلى محشرهم".
وفي صحيح مسلم قال: "ثلاث إذا خرجن لا ينفع نفساً إيمانها لم تكن آمنت من قبل طلوع الشمس من مغربها والدجال ودابة الأرض".
واختلف في أول الآيات فقيل أولها طلوع الشمس من مغربها وخروج الدابة وجاء من رواية ابن أبي شيبة عن عبد اللّه بن عمر رضي اللّه عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال "وأيتهما كانت قبل صاحبتها فالأخرى على أثرها".
ودابة الأرض طولها ستون ذراعاً ذات قوائم ووبر وقيل مختلفة الخلقة تشبه عدة من الحيوانات تتصدع بجبل الصفا فتخرج منه ليلة جمع والناس نزول إلى منى وقيل تخرج من أرض الطائف ومعها عصا موسى وخاتم سليمان عليهما السلام لا يدركها طالب ولا يعجزها هارب تضرب المؤمن بالعصا فينكت في وجهه مؤمن وتطبع الكافر بالخاتم فينكت في وجهه كافر.

وفي صحيح مسلم عن النواس بن سمعان قال وذكر رسول اللّه صلى الله عليه وسلم الدجال فقال "إن يخرج وأنا فيكم فأنا حجيجه وإن يخرج ولست فيكم فامرؤ حجيج نفسه واللّه خليفتي على كل مسلم إنه شاب قطط عينه طافية كأني أشبهه بعبد العزى بن قطن فمن أدركه منكم فليقرأ عليه بفواتح سورة الكهف فإنها جوازكم من فتنته انه خارج خِلَّةٌ بين الشام والعراق فعاث يميناً وعاث شمالاً يا عباد اللّه فاثبتوا" قلنا يا رسول اللّه وما لبثه في الأرض قال "أربعون يوماً يوم كسنة ويوم كشهر ويوم كجمعة وسائر أيامه كأيامكم" قلنا فذلك اليوم الذي كسنة أتكفينا فيه صلاة يوم قال "لا أقدروا له قدره" قلنا يا رسول اللّه وما إسراعه في الأرض قال "كالغيث استدبرته الريح فيأتي القوم فيدعوهم فيؤمنون به فيأمر السماء فتمطر والأرض فتنبت فتروح عليهم سارحتهم أطول ما كانت ذرى وأسبغه ضروعاً وأمده خواصر ثم يأتي القوم فيدعوهم فيردون عليه قوله فينصرف عنهم فيصبحون ممحلين ليس بأيديهم شيء من أموالهم ويمر بالخربة فيقول لها أخرجي كنوزك فتتبعه كنوزها كيعاسيب النحل ثم يدعو رجلاً ممتلئاً شباباً فيضربه بالسيف فيقطعه جزلتين رمية الغرض ثم يدعوه فيقبل ويتهلل وجهه يضحك فبينما هو كذلك إذ بعث اللّه المسيح بن مريم فينزل عند المنارة البيضاء شرقي دمشق بين مهرودتين واضعاً كفيه على أجنحة ملكين إذ طأطأ رأسه قطر وإذا رفعه تحدر منه مثل جمان كاللؤلؤ فلا يحل لكافر يجد ريح نفسه إلا مات ونفسه ينتهي حيث ينتهي طرفه فيطلبه حتى يدركه بباب لد فيقتله ثم يأتي عيسى قوم قد عصمهم اللّه منه فيمسح عن وجوههم ويحدثهم في الجنة بدرجاتهم فبينما هو كذلك إذ أوحى اللّه إلى عيسى أني قد أخرجت عباداً لي لا يدان لأحد بقتالهم فأحرز عبادي إلى الطور ويبعث اللّه يأجوج ومأجوج وهم من كل حدب ينسلون فيمر أوائلهم على بحيرة طبرية فيشربون ما فيها ويمر آخرهم فيقول لقد كان بهذه مرة ماء ثم يسيرون حتى ينتهوا إلى جبل الخمر وهو جبل بيت المقدس فيقولون قد قتلنا من في الأرض هلم فلنقتل من في السماء فيرمون بنشابهم إلى السماء فيرد اللّه إليهم نشابهم مخضوبة خضوبة دماً ويحصر نبي اللّه وأصحابه حتى يكون رأس الثور لأحدهم خيراً من مائة دينار لأحدكم اليوم فيرغب اللّه عيسى وأصحابه فيرسل اللّه عليهم النغف في رقابهم فيصبحون فرسى كموت نفس واحدة ثم يهبط نبي اللّه وأصحابه إلى الأرض فلا يجدون في الأرض موضع شبر إلا ملأه زهمهم "وروي زهمهم بضم الزاي وفتح الهاء وموضع زهمة وهي الريح المنتنة" ونتنهم فيرغب نبي اللّه عيسى وأصحابه إلى اللّه فيرسل عليهم طيراً كأعناق البخت فتحملهم فتطرحهم حيث شاء اللّه "ويروي تطرحهم بالسهيل" ويستوقد المسلمون من قسيهم ونشابهم وجعباتهم سبع سنين ثم يرسل اللّه مطراً لا يكن منه بيت مد ولا وبر فيغسل الأرض حتى يتركها كالزلفة ثم يقال للأرض انبتي ثمرتك وردي بركتك فيومئذ تأكل العصابة منت الرمانة ويستظلون بقحفها ويبارك في الرسل حتى أن اللقحة من الإبل لتكفي الفئام من الناس واللقحة من البقر لتكفي القبيلة من الناس واللقحة من الغنم لتكفي الفخذ من الناس فبينما هم كذلك إذ بعث اللّه ريحاً طيبة فتأخذهم تحت آباطهم فتقبض روح كل مؤمن وتبقي شرار الناس يتهارجون تهارج الحمير فعليهم تقوم الساعة"

وأنشد بعضهم:

مثل لقلبـك أيهـا الـمـغـرور

 

يوم القيامة والسـمـاء تـمـور

قد كورت شمس النهار وأضعفت

 

حراً على رأس العبـاد تـفـور

وإذا الجبال تقلعت بأصـولـهـا

 

فرأيتها مثل السحـاب تـسـير

وإذا العشار تعطلت عن أهلـهـا

 

خلت الديار فما بهـا مـغـرور

وإذا النجوم تساقطت وتنـاثـرت

 

وتبدلت بعـد الـضـياء كـدور

وإذا الوحوش بعد القيامة أحضرت

 

وتقول لـلأمـلاك أين نـسـير

فيقال سيروا تشهدون فضـائحـاً

 

وعجائباً قد أحضـرت وأمـور

وإذا الجنين بأمـه مـتـعـلـق

 

خوف الحساب وقلبه مـذعـور

هذا بلا ذنب يخـاف لـهـولـه

 

كيف المقيم على الذنوب دهـور

النفخ في الصور

قال اللّه تعالى: ) وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَمَن فِي الأَرْضِ إِلاَّ مَن شَاءَ الله ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى فَإذَا هُمْ قِيَامٌ يَنظُرُونَ. وَأَشْرَقَتِ الأَرْضُ بِنُورِ رَبِّهَا وَوُضِعَ الْكِتَابُ وَجِيءَ بِالنَّبِيِّنَ وَالشُّهَدَاءِ وَقُضِيَ بَيْنَهُم بِالحَقِّ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ. وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَّا عَمِلَتْ وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَا يَفْعَلُونَ. وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوَاْ إِلَى جَهَنَّمَ زُمَراً حَتَّى إِذَا جَاءوهَا فُتِحَتْ أَبْوَبُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِّنكُمْ يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِ رَبِكُمْ وَيُنذِرُونَكُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا قَالُواْ بَلَى وَلَكِنْ حَقَّتْ كَلِمَةُ الْعَذَابِ عَلَى الْكَافِرِينَ. قِيلَ ادْخُلُوَاْ أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا فَبِئْسَ مَثْوَى آلْمُتَكَبِرِينَ. وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْاْ رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَراً حَتَّىَ إِذَا جَاءُوهَا وَفُتِحَتْ أَبْوَبُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا سَلاَمٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ. وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنَا وَعْدَهُ وَأَوْرَثَنَا الأَرْضَ نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشَاءُ فَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ. وَتَرَى الْمَلاَئِكَةَ حَافِّينَ مِنْ حَولِ الْعَرْشِ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَقُضِىَ بَيْنَهُم بِالْحَقِ وَقِيلَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ.(.
وفي كتاب النسائي عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم: "كيف أنعم وصاحب القرن قد التقم القرن وأصغى بسمعه وحنى جبهته ينتظر متى يؤمر بالنفخ فينفخ". قالوا يا رسول اللّه وكيف نقول قال: "قولوا سبحان اللّه ونعم الوكيل على اللّه توكلنا".
وفي صحيح مسلم عن عائشة رضي اللّه عنها قالت سمعت رسول اللّه صلى الله عليه وسلم يقول: "يحشر الناس يوم القيامة حفاة عراة غرلاً". قلت يا رسول اللّه النساء والرجال جميعاً ينظر بعضهم إلى بعض? قال: "يا عائشة الأمر أشد من أن ينظر بعضهم إلى بعض".

وفي كتاب الترمذي عن أبي هريرة رضي اللّه عنه قال: قال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم: "يحشر الناس يوم القيامة على ثلاثة أصناف صنفاً مشاة وصنفاً ركباناً وصنفاً على وجوههم". قيل يا رسول اللّه وكيف يمشون على وجوههم قال: "إن الذي أمشاهم في الدنيا على أقدامهم قادر على أن يمشيهم على وجوههم أما أنهم يتقون بوجوههم كل حدب وشوك".
وفي صحيح البخاري عن أبي هريرة رضي اللّه عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "يحشر الناس يوم القيامة على ثلاثة أصناف طرائق راغبين وراهبين واثنان على بعير وثلاثة على بعير وأربعة على بعير وعشرة على بعير وتحشر بقيتهم النار تقيل معهم حيث قالوا وتبيت معهم حيث باتوا وتصبح معهم حيث أصبحوا وتمسي معهم حيث أمسوا".
وفيه قال صلى الله عليه وسلم: "يقبض اللّه الأرض يوم القيامة ويطوي السماء بيمينه ثم يقول أنا الملك أين ملوك الأرض".
وفيه قال يحشر الناس يوم القيامة على أرض بيضاء صفراء كقرصة النقي قال سهل أو غيره وليس فيها معلم لأحد وصح أن رسول اللّه صلى الله عليه وسلم قال: "يبعث الميت في ثيابه التي مات فيها" قيل المراد بالثياب العمل وحمله أبو سعيد الخدري على ظاهره.
وفي صحيح مسلم عن المقداد بن الأسود قال: سمعت رسول اللّه صلى الله عليه وسلم يقول: "تدنو الشمس يوم القيامة من الخلق حتى تكون كمقدار ميل". قال سليم بن عامر فواللّه ما أدري ما يعني بالميل المسافة الأرض أو الميل الذي يكتحل به العين قال: "فيكون الناس على قدر أعمالهم في العرق فمنهم من يكون إلى كعبيه ومنهم من يكون إلى ركبتيه ومنهم من يكون إلى حقويه ومنهم من يلجمهم العرق إلجاماً وأشار بيده صلى الله عليه وسلم إلى فيه".
وفي مسند أبي بكر البزار عن جابر بن عبد اللّه قال: قال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم إن العرق يلزم المرء في الموقف حتى يقول يا رب إرسالك بي إلى النار أهون علي مما أجد وهو يعلم ما فيها من شدة العذاب.
وقال بعض السلف لو طلعت الشمس على الأرض كهيئتها يوم القيامة لأحرقت الأرض وأذابت الصخر ونشفت الأنهار.
 وقال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم: "سبعة يظلُّهم اللّه تعالى في ظله يوم لا ظل إلا ظله إمام عادل وشاب نشأ في عبادة اللّه ورجل قلبه متعلق بالمسجد إذا خرج منه حتى يعود إليه ورجلان تحابا في اللّه اجتمعا عليه وتفرقا عليه ورجل ذكر اللّه تعالى خالياً ففاضت عيناه ورجل دعته امرأة ذات حسن وجمال فقال إني أخاف اللّه ورجل تصدق بصدقة فأخفاها حتى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه".
قال الحسن البصري رحمه اللّه فما ظنكم بيوم قاموا فيه على أقدامهم مقدار خمسين ألف سنة لم يأكلوا فيها أكلة ولم يشربوا شربة حتى انقطعت أعناقهم عطشاً واحترقت أجوافهم جوعاً ثم انصرف بهم إلى النار فسقوا من عين آنية أي متناهية في الحرارة أوقدت عليها جهنم منذ خلقها.

شفاعة النبي صلى الله عليه وسلم

قال اللّه تعالى: )َمن ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِندَهُ إَّلاَّ بِإِْذنِهِ( .
وفي صحيح البخاري ومسلم عن أبي هريرة رضي اللّه عنه أتى النبي صلى الله عليه وسلم بلحم فرفع إليه الذراع وكانت تعجبه فنهس منها نهسة ثم قال: "أنا سيد الناس يوم القيامة وهل تدرون مم ذلك? يجمع اللّه الأولين والآخرين في صعيد واحد يسمعهم الداعي وينفذهم البصر وتدنو الشمس فيبلغ الناس من الغم والكرب ما لا يطيقون ولا يحتملون فيقول الناس ألا ترون ما بلغكم ألا تنظرون إلى من يشفع لكم إلى ربكم: فيقول بعض الناس لبعض أبوكم آدم فيأتون آدم فيقولون أنت أبو البشر خلقك اللّه بيده ونفخ فيك من روحه وأمر الملائكة فسجدوا لك اشفع لنا إلى ربك ألا ترى ما نحن فيه ألا ترى ما قد بلغنا فيقول آدم إن ربي قد غضب اليوم غضباً لم يغضب مثله قبله ولن يغضب مثله بعده وإنه قد نهاني عن الشجرة فعصيته نفسي نفسي نفسي اذهبوا إلى غيري اذهبوا إلى نوح فيأتون نوحاً فيقولون أنت أول الرسل إلى الأرض وقد سماك اللّه عبداً شكوراً أما ترى إلى ما نحن فيه ألا ترى إلى ما بلغنا ألا تشفع لنا إلى ربك? فيقول إن ربي قد غضب اليوم غضباً لم يغضب قبله مثله ولن يغضب بعده مثله وإنه كانت لي دعوة دعوت بها على قومي نفسي نفسي نفسي اذهبوا إلى غيري اذهبوا إلى إبراهيم فيأتون إبراهيم فيقولون يا إبراهيم أنت نبي اللّه وخليله من أهل الأرض اشفع لنا إلى ربك أما ترى ما نحن فيه فيقول لهم إن ربي غضب اليوم غضباً لم يغضب قبله مثله ولن يغضب بعده مثله وإني كذبت ثلاث كذبات نفسي نفسي نفسي اذهبوا إلى غيري اذهبوا إلى موسى فيأتون موسى فيقولون يا موسى أنت رسول اللّه فضَّلك اللّه برسالته وبكلامه على الناس اشفع لنا إلى ربك أما ترى إلى ما نحن فيه فيقول إن ربي قد غضب اليوم غضباً لم يغضب قبله مثله ولن يغضب بعده مثله وإني قد قتلت نفساً لم أؤمر بقتلها نفسي نفسي نفسي اذهبوا إلى غيري اذهبوا إلى عيسى فيأتون عيسى فيقولون يا عيسى أنت رسول اللّه وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه وكلمت الناس في المهد اشفع لنا إلى ربك ألا ترى ما نحن فيه فيقول عيسى إن ربي غضب اليوم غضباً لم يغضب قبله مثله ولن يغضب بعده مثله ولم يذكر ذنباً فيأتون محمداً صلى الله عليه وسلم".
وفي رواية "فيأتونني فيقولون يا محمد أنت رسول اللّه وخاتم الأنبياء وقد غفر لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر اشفع لنا إلى ربك ألا ترى إلى ما نحن فيه فانطلق وآتي تحت العرش فأقع ساجداً لربي ثم يفتح اللّه علي من محامده حسن الثناء عليه ما لم يفتحه على أحد قبلي ثم يقال يا محمد ارفع رأسك سل تعط واشفع تُشَفَّع فأرفع رأسي فأقول أمتي يا رب أمتي يا رب أمتي يا رب فيقول: يا محمد ادخل من أمتك من لا حساب عليهم من الباب الأيمن من أبواب الجنة وهم شركاء الناس فيما سوى ذلك من الأبواب ثم قال: والذي نفسي بيده إن ما بين المصراعين من مصاريع الجنة كما بين مكة وهجر أو كما بين مكة وبصرى".
وفي الصحيحين "يدخل الجنة من أمتي سبعون ألفاً بغير حساب هم الذين لا يسترقون ولا يتطيرون ولا يكتوون وعلى ربهم يتوكلون".
وفي رواية في صحيح مسلم سبعون ألفاً مع كل واحد منهم سبعون ألفاً قال في المفاتيح: التوكل نوعان خاص وهو أن يترك التداوي والاسترقاء والكي لغاية ثقته بأنه لا يصيبه إلا ما كتب اللّه له من النفع والضر وهو المراد هنا. وعام يجب على الكل وهو أن يعلم أن لا مؤثر إلا اللّه فالطعام لا يشبع والأدوية لا تشفي إلا بأمره، ومن له هذا الاعتقاد جاز له التداوي والاسترقاء. وكسب المال بالتجارة والحرف.

الحساب

قال اللّه تعالى: )وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ. وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِلْغَاوِينَ. وَقِلَ لَهُمْ أَيْنَ مَا كُنتُمْ تَعْبُدُونَ. مِن دُونِ الله هَلْ يَنصُرُونَكُمْ أَوْ يَنتَصِرُونَ. فَكُبِكْبُواْ فِيهَا هُمْ وَالْغَاوُنَ. وَجُنُودُ إِبْلِيسَ أَجْمَعُونَ.(.
وقال اللّه تعالى:
)فَلَنَسْئَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْئَلَنَّ الْمُرسَلِينَ. فَلَنَقُصَّنَّ عَلَيْهِم بِعِلْمٍ وَمَا كُنَّا غَائِبِينَ.(.
وفي صحيح مسلم عن شقيق بن عبد اللّه قال النبي صلى الله عليه وسلم: "يؤتي بجهنم يوم القيامة لها سبعون ألف زمام مع كل زمام سبعون ألف ملك يجرونها".
وفي صحيح البخاري "يجاء بنوح يوم القيامة فيقال هل بلغت فيقول نعم يا رب فيسأل أمته هل بلغكم فيقولون ما جاءنا من نذير فيقال من شهودك فيقول محمد وأمته فقال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم فيجاء بكم فتشهدون ثم قرأ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم:
)وَكَذَلِكَ جَعَلْنَكُمْ أُمَّةً وَسَطا(قال: عدولاً، ) لِّتَكُونُواْ شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً (
وقال مقاتل في قوله تعالى:
)وَامْتَازُواْ الْيَوْمَ أَيُّهَا الْمُجْرِمُونَ( أي اعتزلوا اليوم يعني في الآخرة من الصالحين وقال السدي كونوا على حدة.
وفي الصحيحين قال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم: "يقول اللّه يا آدم قم فابعث بعث النار فيقول لبيك وسعديك والخير في يديك وما بعث النار? فيقول من كل ألف تسعمائة وتسعة وتسعين قال فحينئذ يشيب الوليد وتضع كل ذات حمل حملها وترى الناس سكارى وما هم بسكارى ولكن عذاب ربك شديد" فاشتد ذلك عليهم فقالوا يا رسول اللّه أين ذلك الرجل فقال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم "تسعمائة وتسعة وتسعون من يأجوج ومأجوج ومنكم واحد" فقال الناس اللّه أكبر فقال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم "واللّه إني لأرجو أن تكونوا ربع أهل الجنة واللّه إني لأرجو أن تكونوا ثلث أهل الجنة والله إني لأرجو أن تكونوا نصف أهل الجنة" فكبر الناس فقال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم "ما أنتم يومئذ في الناس إلا كالشعرة البيضاء في الثور الأسود أو كالشعرة السوداء في الثور الأبيض".
وفي صحيح مسلم قال صلى الله عليه وسلم: "لتؤدن الحقوق إلى أهلها حتى يقاد للشاة الجلحاء من الشاة القرناء" قال الكلبي يقول اللّه عز وجل للبهائم والوحوش والطيور والسباع كن تراباً فسوى بهن الأرض فعند ذلك يتمنى الكافر أن لو كان تراباً لما قال اللّه تعالى:
)وَيَقُولُ الْكَافِرُ يَا لَيْتَنِي كُنتُ تُرَبَا(
وفي كتاب الترمذي وغيره عن أبي برزة الأسلمي رضي اللّه عنه قال: قال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم: "لا تزول قدما عبد يوم القيامة من بين يدي اللّه تعالى حتى يسأل عن أربع: عن عمره فيم أفناه وعن جسده فيم أبلاه وعن علمه فيم عمل به وعن ماله من أين اكتسبه وفيم أنفقه". وفي صحيح مسلم عن أنس رضي اللّه عنه قال كنا عند رسول اللّه صلى الله عليه وسلم فضحك فقال "أتدرون مم أضحك?" قلنا اللّه ورسوله أعلم قال "من مخاطبة العبد ربه يقول يا رب ألم تجرني من الظلم قال يقول بلى فيقول إني لا أجيز على نفسي إلا شاهداً مني فيقول كفى بنفسك اليوم عليك حسيباً وبالكرام الشاهدين عليك شهوداً قال فيختم على فيه ويقال لأركانه انطقي قال فتنطق بأعماله ثم يخلي بينه وبين الكلام فيقول بعداً لكن وسحقاً فعنكن كنت أناضل".
وفي الصحيحين عن عدي بن حاتم قال. قال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم: "ما منكم من أحد إلا سيكلمه ربه ليس بينه وبين ربه ترجمان فينظر أيمن منه فلا يرى إلا ما قدم وينظر أشأم منه فلا يرى إلا ما قدم وينظر بين يديه فلا يرى إلا النار تلقاء وجهه فاتقوا ولو بشق تمرة".

وفي الصحيحين عن عائشة رضي اللّه عنها قالت: قال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم: "من حوسب يوم القيامة عذب" فقلت أليس قد قال اللّه تعالى: )فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَاباً يَسِيرا( قال "ليس ذلك الحساب إنما ذلك العرض من نوقش الحساب يوم القيامة عذب".
فتفكر رحمك اللّه سؤال ربك لك بغير واسطة على كل قليل وكثير ونقير وقطمير وقول الملائكة يا فلان هلم إلى الموقف.

وقد روي عنه عليه السلام: إن للّه ملكاً ما بين شفرتي عينيه مسيرة مائة عام فما ظنك بنفسك إذا شاهدت مثل هؤلاء الملائكة أرسلوا إليك ليأخذوك إلى مقام العرض فترتعد فرائضك وتضطرب جوارحك وتتمنى حملك إلى جهنم ولا تعرض قبائحك على ربك تعالى فتوهم نفسك في أيدي الموكلين بك حتى انتهوا بك إلى عرش الرحمن فرموك من أيديهم وناداك اللّه عز وجل بعظيم كلامه يا ابن آدم ادن مني فدنوت بقلب خافق محزون وجل وطرف خاشع ذليل وأعطيت كتابك الذي لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها فليت شعري بأي قدم تقف بين يدي اللّه وبأي لسان تجيب وبأي قلب تعقل ما تقول وماذا تقول إذا قال: أما استحييت مني ظننت أني لا أراك.
وعن الفضيل: إني لا أغبط أن أكون ملكاً مقرباً ولا نبياً مرسلاً ولا عبداً صالحاً أليس هؤلاء يعاقبون في القيامة إنما أغبط من لم يخلق.
وأنشد بعضهم:

مثل وقوفك يوم الحشر عـريانـا

 

مستعطفاً قلق الأحشاء حـيرانـا

النار تزفر من غيظ ومن حـنـق

 

على العصاة وتلقى الرب غضبانا

اقرأ كتابك يا عبدي على مـهـل

 

وانظر إليه ترى هل كان ما كانا

لما قرأت كتابـاً لا يغـادر لـي

 

حرفاً وما كان في سر وإعلانـاً

قال الجليل خذوه يا مـلائكـتـي

 

مروا بعبدي إلى النيران عطشانا

يا رب لا تحزنا يوم الحسـاب ولا

 

تجعل لنا فينا اليوم سـلـطـانـا

فصل في الميزان

قال اللّه تعالى: )الْقَارِعَةُ. مَا الْقَارِعَةُ. وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْقَارِعَةُ. يَوْمَ يَكُونُ النَّاسُ كَالْفَرَاشِ الْمَبْثُوثِ. وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهنِ الْمَنفُوشِ. فَأَمَّا مَن ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ. فَأُمُّهُ هَاوِيَةٌ. وَمَا أَدْرَاكَ مَا هِيَهْ. نَارٌ حَامِيَةٌ.(.
وذكر أبو بكر البزار رضي اللّه عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:

"ملك موكل بالميزان فيؤتي بابن آدم فيوقف بين كفتي الميزان فإن ثقل ميزانه نادى ملك بصوت يسمع الخلائق سعد فلان سعادة لا يشقى بعدها أبداً وإن خفت ميزانه نادى ملك بصوت يسمع الخلائق شقي فلان شقاوة لا يسعد بعدها أبداً".


وفي سنن أبي داود عن عائشة رضي اللّه عنها أنها ذكرت النار فبكت فقال صلى الله عليه وسلم "ما يبكيك?" قالت ذكرت النار فبكيت فهل تذكرون أهليكم يوم القيامة فقال صلى الله عليه وسلم "أما ثلاثة مواطن فلا يذكر فيها أحد أحداً عن الميزان حتى يعلم أيخف ميزانه أم يثقل وعند الكتاب حين يقال هاؤم أقرؤا كتابيه حتى يعلم أين يقع كتابه أفي يمينه أم في شماله أم من وراء ظهره وعند الصراط إذا وضع بين ظهراني جهنم".


وفي الوسيط عن أبي هريرة رضي اللّه عنه قال: سمعت رسول اللّه صلى الله عليه وسلم يقول: "ليعتذرن اللّه إلى آدم ثلاث معاذير يقول اللّه يا آدم لولا أني لعنت الكذابين وأبغضت الكذاب والخلف وأوعدت لرحمت اليوم ولدك أجمعين من شدة ما أعددت لهم من العذاب ولكن حق القول مني لئن كذبت رسلي وعصي أمري لأملأن جهنم من الجنة والناس أجمعين. ويقول اللّه عز وجل: يا آدم اعلم أني لا أدخل من ذريتك النار أحداً ولا أعذب منهم بالنار أحداً إلا من قد علمت بعلمي أني لو رددته إلى الدنيا لعاد إلى شر مما كان فيه ولم يرجع ولم يعتب. ويقول عز وجل: "قد جعلت حكماً بيني وبين ذريتك قم عند الميزان فانظر ما يرفع إليك من أعمالهم فمن رجح منهم خيره على شره مثقال ذرة فله الجنة حتى تعلم أني لا أدخل منهم النار إلا ظالماً".

وفي الصحيح عن أبي هريرة رضي اللّه عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "أتدرون من المفلس" قالوا المفلس فينا من لا درهم له ولا متاع فقال "إن المفلس من أمتي من يأتي يوم القيامة بصلاة وزكاة وصيام ويأتي قد شتم هذا وقذف هذا وأكل مال هذا وسفك دم هذا وضرب هذا فيعطي هذا من حسناته وهذا من حسناته فإن فنيت حسناته قبل أن يقضي ما عليه أخذ من خطاياهم فطرحت عليه ثم طرح في النار".
وفي الصحيح "إن أول ما يقضى في الدماء".
وفي معالم التنزيل روي عن عبد اللّه بن مسعود قال: إذا كان يوم القيامة جمع اللّه الأولين والآخرين ثم نادى مناد من كان يطلب مظلمة فليجئ إلى حقه فليأخذه فيفرح المرء أن يكون له الحق على والده أو ولده أو زوجته أو أخيه فيأخذ منه وإن كان صغيراً ومصداق ذلك في كتاب اللّه عز وجل:
)فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلاَ أَنسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلاَ يَتَسَاءَلُونَ. فَمَن ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ. وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُوْلَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُواْ أَنفُسَهُمْ فِي جَهَنَّمَ خَلِدُونَ( .
ويؤتى بالعبد وينادي مناد على رؤوس الأولين والآخرين هذا فلان ابن فلان من كان له عليه حق فليأت إلى حقه ثم يقال آت هؤلاء حقوقهم فيقول يا رب من أين وقد ذهب الدنيا فيقول اللّه عز وجل للملائكة انظروا في أعماله الصالحة فأعطوهم منها فإن بقي مثقال ذرة من حسنة قالت الملائكة يا ربنا بقي له مثقال ذرة من حسنة فيقول اللّه عز وجل ضعفوها لعبدي وأدخلوه بفضل رحمتي الجنة ومصداق ذلك في كتاب اللّه عز وجل:

)إِنَّ الله لاَ يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِن تَكُ حَسَنَةً يُضَعِفْهَا(
وإن كان عبداً شقياً قالت الملائكة إلهنا فنيت حسناته وبقي طالبون فيقول اللّه عز وجل خذوا من سيئاتهم فأضيفوها إلى سيئاته ثم صكوا له صكاً إلى النار.


وذكر الترمذي من حديث عبد اللّه بن عمرو بن العاص رضي اللّه عنهما قال: قال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم:

"إن اللّه سيخلص رجلاً من أمتي على رؤوس الخلائق يوم القيامة فينشر عليه تسعة وتسعين سجلاً كل سجل مثل مد البصر ثم يقول اللّه أتنكر من هذا شيئاً،أظلمك كتبتي الحافظون? فيقول لا يا رب فيقول اللّه أفلك عذر فيقول لا يا رب فيقول بلى إن لك عندنا حسنة فإنه لا ظلم عليك اليوم فتخرج له بطاقة فيها أشهد أن لا إله إلا اللّه وأشهد أن محمداً رسول اللّه فيقول أحضر وزنك فيقول يا رب ما هذه البطاقة مع هذه السجلات فيقال: إنك لا تظلم قال فتوضع السجلات في كفة والبطاقة في كفة فطاشت السجلات وثقلت البطاقة قال فلا يثقل مع أسم اللّه شيء"

أي من كان معه ذكر اللّه فلا يقاومه شيء يترجح من المعاصي بل يترجح الذكر على المعاصي.
فتفكر رحمك اللّه في ميزانك واحترز من خسرانك واعلم أن من لا سيئة له فله الجنة ومن لا حسنة له فله النار ومن خلط فالعدل بالميزان فاتقوا اللّه عباد اللّه ومظالم العباد بأخذ أموالهم والتعرض لأعراضهم وتضييق قلوبهم وإساءة الخلق في معاشرتهم فإن ما بين العبد وبين اللّه خاصة فالمغفرة إليه أسرع.
وقيل إذا تعلق المظلوم بالظالم الأواب وهو الذي أقلع عن الذنب فلم يعد إليه ولم يتمكن من الاستحلال قال اللّه للمظلوم ارفع رأسك فيرفع راسه فإذا بقصر عظيم يلوح فيقول: ما هذا يا رب? فيقول: إنه للبيع فاشتره مني فيقول ما معي ثمنه فيقول: أن تبرئ مظلمة أخيك فالقصر لك فيقول قد فعلت يا رب.
وحكي أنه لما حضرت لقمان الحكيم الوفاة بكى فقال له ابنه ما يبكيك يا أبت? فقال يا بني لست أبكي على الدنيا ولا على نعيمها ولكن على ما أمامي من الشقة البعيدة والمفازة السحيقة والعقبة الكئود والزاد القليل والحمل الثقيل ولا أدري أيحط عني ذلك الحمل حتى أبلغ الغاية أم أثقل حتى أساق إلى النار فلهذا أبكي فمات رحمه اللّه.
وأنشد بعضهم:

أراني إذا حدثت نفسي بـتـوبة

 

تعرض لي من دون ذلك عائق

تقضت حياتي في اشتغال وغفلة

 

وأعمال سوء كلها لا تـوافـق

طردت وغيري بالصلاح مقرب

 

ودون بلوغي مسلك متضـايق

وكيف وزلات المسيء كثـيرة

 

أيقرب عبد عن موالـيه آبـق

إلى اللّه أشكو قلب سوء قد احتوى

 

عليه الهوى واستأصلته العـلائق

ولي حزن يزداد في كل لحـظة

 

ودمع جفوني للبكـاء يسـابـق

فإن تغفر الذنب الذي قد أتـيتـه

 

فذاك رجائي والظنون تـوافـق

علامة ما يولي من الفضل إن أنا

 

هجرت الدنا أو قلت إنك طالـق

هنالك يبدو كل سـر مـعـظـم

 

لعيني وتغشاني هناك الحـقـائق

 

المرور على الصراط والحوض

قال اللّه تعالى: )فَوَرَبِّكَ لَنَحْشُرَنَّهُمْ وَالشَّيَاطِينَ ثُمَّ لَنُحْضِرَنَّهُمْ حَوْلَ جَهَنَّمَ جِثِيّاً. ثُمَّ لَنَنزِعَنَّ مِن كُلِّ شيعَةٍ أَيُّهُمْ أَشَدُّ عَلَى الرَّحْمَنِ عِتِيّاً. ثُمَّ لَنَحْنُ أَعْلَمُ بالَّذِينَ هُمْ أَوْلَى بِهَا صِلِيّاً. وَإِن مِّنكُمْ إِلاَّ وَارِدُهَا كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْماً مَّقْضِيّاً. ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَواْ وَّنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيّاً.(
واختلف في ورودها فقيل هو الدخول فيها وهي خامدة فيعبرها المؤمنون وتنهار بغيرهم وقيل هو الجواز على الصراط فإنه ممدود عليها وصححه النووي رحمه اللّه.
وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة أو حذيفة بعد ما ذكر حديث الشفاعة التي لجأ الناس إليه صلى الله عليه وسلم فيها وهي الإراحة من الموقف والفصل بين العباد قال فيأتون محمداً فيقوم ويؤذن له وترسل الأمانة والرحم فتنبي الصراط يمناً وشمالاً فيمر أولكم كالبرق ثم كمر الطير وأشد الرجال تجري بهم أعمالهم ونبيكم صلى الله عليه وسلم قائم على الصراط يقول رب سلم ربِّ سلَّم حتى يجيء الرجل فلا يستطيع السير إلا زحفاً قال: وفي حافظتي الصراط كلاليب معلقة مأمورة بأخذ من أمرت فمخدوش ناج ومكدوس في النار والذي نفس أبي هريرة إن قعر جهنم لسبعون خريفاً.
قال في إكمال العلم تفسير الحديث الآخر: "إن الصخرة العظيمة لتلقى في شفير جهنم فتهوى فيها سبعون عاماً حتى تفضي إلى قرارها".
وفي صحيح البخاري قال: رسول اللّه صلى الله عليه وسلم "يخلص المؤمنون من النار فيحبسون على قنطرة بين الجنة والنار فيقتص لبعضهم من بعض مظالم كانت بينهم في الدنيا حتى إذا هذبوا ونقوا أذن لهم في دخول الجنة فو الذي نفس محمد بيده لأحدهم أهدى لمنزلة في الجنة منه لمنزلة كان في الدنيا.


وفي رسالة القشيري قال معاذ بن جبل: إن المؤمن لا يطمئن قلبه ولا تسكن روعته، حتى يخلف جسر جهنم.
وكان أبو ميسرة رضي اللّه عنه، إذ أوى إلى فراشه قال: يا ليت أمي لم تلدني، ثم يبكي، فقيل ما يبكيك? فقال: أخبرنا أنا واردوها ولم نخبر أنا صادرون عنها.
وبكى عبد اللّه بن رواحة وقال: آية أنزلت ينبئني فيها ربي، إني وارد النار، ولم ينبئني أني صادر عنها، فذلك الذي أبكاني.
وقال الحسن: كيف لا يحزن المؤمن وقد حدث عن اللّه أنه وارد جهنم ولم ينبئه بأنه صادر عنها.
وفي صحيح مسلم عن أنس قال: بينما رسول اللّه صلى الله عليه وسلم ذات يوم بين أظهرنا، إذ أغفى إغفاءة ثم رفع رأسه متبسماً، فقيل: ما أضحكك يا رسول اللّه? قال: "نزلت على آنفاً سورة يقرأ فيها: بسم اللّه الرحمن الرحيم:
)إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ. فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ. إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الأَبْتَرُ.( ".
ثم قال: "أتدرون ما الكوثر?" فقلنا: اللّه ورسوله أعلم، قال: "فأنه نهر وعدنية ربي عليه خير كثير، وهو حوض ترد عليه أمتي يوم القيامة آنيته عدد النجوم فيختلج العبد منهم فأقول ربي إنه من أمتي فيقول: ما تدري ما حدث بعدك".
وقوله يختلج بلفظ المجهول أي يعدل به عن الحوض، وهو إما المرتد وإما العاصي.
وفي كتاب الترمذي عن سمرة بن جندب قال: قال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم: "إن لكل نبي حوضاً وإنهم ليتباهون أيهم أكثر واردة وأني لأرجو أن أكون أكثرهم واردة".
وفي صحيح البخاري عن سهل بن سعد قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: "أنا فرطكم على الحوض من مر علي شرب ومن شرب لم يظمأ أبداً، ليردن علي أقوام أعرفهم ويعرفوني، ثم يحال بيني وبينهم".
وزاد أبو سعيد الخدري فقال: "فأقول إنهم مني فيقال: إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك، فأقول: سحقاً سحقاً لمن غير بعدي".
 قوله لم يظمأ" أي لم يعطش وفيه أن الشرب منه يكون بعد الحساب والنجاة من النار، وفيه أن الواردين المارين عليه كلهم يشربون، وإنما يمنع الذين يزادون عن الورود والمرور عليه، وسحقاً: أي بعداً، وهذا مشعر بأنهم مرتدون عن الدين، لأنه يشفع للعصاة، ويهتم بأمرهم، ولا يقول لهم مثل ذلك.
وفي صحيح البخاري عن أبي هريرة رضي اللّه عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "بينما أنا قائم عند الحوض، إذ زمرة حتى إذا عرفتهم، خرج رجل من بيني وبينهم، فقال هلم فقلت: إلى أين? قال إلى النار واللّه قلت: ما شأنهم، قال إنهم ارتدوا بعدك على أدبارهم القهقري، ثم إذا زمرة إذا عرفتهم، خرج رجل من بيني وبينهم، فقال هلم فقلت إلى أين قال: إلى النار واللّه، قلت: ما شأنهم، قال: إنهم ارتدوا على أدبارهم القهقري، فلا أراه يخلص فيهم إلا مثل همل النعم".


قال الكرماني في الكواكب الدراري والهمل بفتحتين ما يترك مهملاً لا يتعهد ولا يرعى، حتى يضيع ويهلك، أي لا يخلص منهم من النار، إلا قليل وهذا مشعر بانهم صنفان كفار وعصاة.
وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة رضي اللّه عنه قال: إن رسول اللّه صلى الله عليه وسلم أتي المقبرة فقال:

"السلام عليكم دار قوم مؤمنين، وإنا إن شاء اللّه بكم لاحقون، ووددت أنا قد رأينا إخواننا قالوا أولسنا إخوانك يا رسول اللّه? قال بل أنتم أصحابي، وإخواننا الذين لم يأتوا بعد". قالوا: وكيف تعرف من لم يأتي بعد من أمتك يا رسول اللّه? قال: أرأيت لو أن رجلاً له خيل غر محجلة بين ظهري خيل دهم بهم، ألا يعرف خيله? قالوا: بلى يا رسول اللّه قال: "فإنهم يأتون غراً محجلين من الوضوء، وأنا فرطهم على الحوض ألا ليذادن رجال عن حوضي، كما يذاد البعير الضال أناديها ألا هلم ألا هلم، فيقال إنهم قد بدلوا بعدك فأقول سحقاً سحقاً".


وفي كتاب الترمذي عن ثوبان عن النبي صلى الله عليه وسلم "حوضي من عدن إلى عمان البلقاء، ماؤه اشد بياضاً من اللبن، وأحلى من العسل، وآنيته عدد نجوم السماء، من شربة شربة لم يظمأ بعدها أبداً، أول الناس وروداً عليه فقراء المهجرين، الشعت رؤوساً، الدنس ثياباً، الذين لا ينكحون المتنعمات، ولا تفتح لهم السدد" فقال عمر بن عبد العزيز لكني نكحت متنعمات، وفتحت لي السدد نكحت فاطمة بنت عبد الملك، لا جرم أن لا أغسل رأسي، حتى يتشعت، ولا أغسل ثوبي الذي يلي جسدي حتى يتسخ.


وفي صحيح البخاري كان ابن أبي مليكة يقول: اللهم إنا نعوذ بك أن نرجع على أعقابنا أو نفتن عن ديننا. واعلم أن الحوض بيد النبي صلى الله عليه وسلم، على باب الجنة، يسقى منه المؤمنون، وهو مخلوق اليوم، فتب يا أخي إلى ربك واتقه ليخرجك من همك، واسأله أن يبقيك فتنة تقع في دينك، فتذاد عن حوض نبيك قيل إن اللّه ستر ثلاثاً في ثلاث، ستر رضاه في طاعته فلا يحقرن أحدكم من الطاعة شيئاً فرب محتقر من الطاعة فيه رضا اللّه، وستر غضبه في معصيته فلا يحقرن أحدكم شيئاً من المعصية، فرب محتقر من المعصية فيه غضب اللّه، وستر وليه في خلقه فلا يحقرن أحدكم أحداً من خلق اللّه، فرب من لا يؤبه له وهو ولي اللّه، وستر أيضاً رابعاً، وهو الإِجابة في الدعاء، فلا يحقرن أحدكم شيئاً من الدعاء، على أي حال كان، وفي أي موطن كان.

 

 

قف على الباب طالبـاً

 

وذر الدمع ساكـبـاً

وتـوسـل إلـيه وار

 

جع عن الذنب تائبـاً

تلق من حسن صنعـه

 

عند ذاك العجـائبـا

لاتخف أن تـرد عـن

 

كرم الـلّـه خـائبـا

فهو يجزي على اليسي

 

ر ويعطي الرغائبـا

شرف المرء بالتقـى

 

فاجعل الصدق صاحبا

واحتشم أن يراك رب

 

ك للذنـب راكـبـا

 

إن للدهر أسهما=للرزايا صوائبا

 

وخطوباً تتـابـعـت

 

فأثـارت نـوائبـا

فارض باللّه واعتصم

 

واسأل اللّه راغبـا

 

الشفاعة الكبرى

 

قال اللّه تعالى: )يَوْمَئِذٍ لاَّ تَنفَعُ الشَّفَاعَةُ إِلاَّ مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ(.

ذكر أبو بكر البزار عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "يحمل الناس يوم القيامة على الصراط فيتفادع بهم جنبا الصراط تفادع الفراش في النار ثم يؤذن للملائكة والنبيين والشهداء والصالحين فيشفعون ويخرجون من في النار".


وروي في الصحيح: "إن أول من يشفع المرسلون ثم النبيون ثم العلماء".


وفي كتاب الترمذي قال: قال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم: "يدخل الجنة بشفاعة رجل من أمتي أكثر من بني تميم". قيل: يا رسول اللّه سواك، قال: "سواي".
وفي مسند البزار: قال: رسول اللّه صلى الله عليه وسلم: "إن من أمتي من يشفع للفئام من الناس ومنهم من يشفع للعصبة ومنهم من يشفع للقبيلة، ومنهم من يشفع للرجل وأهل بيته".
وروى الدارقطني عن أبي أمامة قال: قال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم: "نعم الرجال أنا لشرار أمتي". قالوا كيف لخيارها، قال: "أما خيارها فيدخلون الجنة بأعمالهم، وأما شرار أمتي، فيدخلون الجنة بشفاعتي".
وروي عن عوف بن مالك قال: قال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم: "أتاني آت من عند اللّه فيخبرني بين أن يدخل نصف أمتي الجنة وبين الشفاعة فاخترت الشفاعة وهي لمن مات لا يشرك باللّه شيئاً".
وفي الوسيط للواحدي عن جابر قال: سمعت رسول اللّه صلى الله عليه وسلم يقول: "إن الرجل يقول في الجنة ما فعل صديقي وصديقه في الجحيم فيقول اللّه عز وجل أخرجوا له صديقه إلى الجنة فيقول من بقي فيها فما لنا من شافعين ولا صديق حميم".

وفي صحيح مسلم عن أبي سعيد الخدري قال: إن ناساً قالوا يا رسول اللّه هل نرى ربنا يوم القيامة، قال: رسول اللّه صلى الله عليه وسلم: "نعم". قال هل: "تضارون في رؤية الشمس بالظهيرة صحواً ليس معها سحاب، وهل تضارون في رؤية القمر ليلة البدر صحواً ليس فيها سحاب". قالوا: لا يا رسول اللّه. قال "ما تضارون في رؤية اللّه تبارك وتعالى يوم القيامة إلا كما تضارون في رؤية أحدهما، إذا كان يوم القيامة أذن مؤذن ليتبع كل أمة ما كانت تعبد، فلا يبقى أحد كان يعبد غير اللّه سبحانه من الأصنام والأنصاب إلا يتساقطون في النار حتى إذا لم يبق إلا من كان يعبد اللّه من بر وفاجر وغُبَّرِ أهل الكتاب فيدعى اليهود فيقال لهم ما كنتم تعبدون? قالوا: كنا نعبد عزير بن اللّه فيقال: كذبتم ما اتخذ اللّه من صاحبة ولا ولد فماذا تبغون? قالوا: عطشنا ربنا فاسقنا، فيشار إليهم ألا تردون فيحشرون إلى النار كأنها سراب يحطم بعضها بعضاً، فيتساقطون في النار، ثم يدعى النصارى فيقال لهم ما كنتم تعبدون? قالوا: كنا نعبد المسيح ابن اللّه، فيقال لهم : كذبتم ما اتخذ اللّه من صاحبة ولا ولد، فيقال لهم: ماذا تبغون، فيقولون عطشنا يا ربنا فاسقنا قال فيشار إليهم ألا تردون فيحشرهم إلى جهنم كأنها سراب يحطم بعضها بعضاً فيتساقطون في النار حتى إذا لم يبق إلا من كان يعبد اللّه تعالى من بر وفاجر أتاهم رب العالمين سبحانه وتعالى في أدنى صورة من التي رواه فيها، قال فما تنتظرون تتبع كل أمة ما كانت تعبد قالوا: يا ربنا فارقنا الناس في الدنيا أفقر ما كنا إليهم ولم نصاحبهم، فيقول: أنا ربكم، فيقولون: نعوذ باللّه منك لا نشرك باللّه شيئاً"مرتين أو ثلاثاً" حتى أن بعضهم ليكاد أن ينقلب فيقول: هل بينكم وبينه آية فتعرفونه بها، فيقولون: نعم. فيكشف عن ساق فلا يبقى من كان يسجد للّه من تلقاء نفسه إلا أذن اللّه له بالسجود، ولا يبقى من كان يسجد اتقاء ورياء، إلا جعل اللّه ظهره طبقة واحدة كلما أراد أن يسجد خرَّ على قفاه، ثم يرفعون رؤوسهم وقد تحول في صورته التي رأوه فيها أول مرة، فقال أنا ربكم فيقولون أنت ربنا، قد أخذت النار إلى نصف ساقية وإلى ركبتيه ثم يضرب الجسر على جهنم وتحل الشفاعة، ويقولون اللهم سلم سلم، قيليا رسول اللّه وما الجسر? قال: دَحضٌ مزلة فيه خطاطيف، وكلاليب وحسكٌ تكون بنجد فيه شويكة يقال لها السعدان، فيمر المؤمنون كطرفة العين وكالبرق وكالريح وكالطير وكأجاويد الخيل والركاب فناج مسلم ومخدش مرسل ومكدوس في نار جهنم حتى إذا خلص المؤمنون من النار فو الذي نفسي بيده ما منكم من أحد منكم بأشد منشدة للّه في استقصاء الحق من المؤمنين للّه يوم القيامة لإِخوانهم الذين في النار يقولون: ربنا كانوا يصومون معنا ويصلون ويحجون، فيقال لهم أخرجوا من عرفتم، فتحرم صورهم على النار، فيخرجون خلقاً كثيراً قد أخذت النار إلى نصف ساقيه وإلى ركبتيه ثم يقولون: ربنا ما بقى فيها أحد ممن أمرتنا به، فيقول: ارجعوا فمن وجدتم في قلبه مثقال دينار من خير فأخرجوه خلقاً كثيراً، ثم يقولون ربنا لم نذر فيها أحداً ممن أمرتنا ثم يقول: ارجعوا فمن وجدتم في قلبه مثقال من خير فأخرجوه، فيخرجون خلقاً كثيراً، ثم يقولون: ربنا لم نذر فيها خيراً، فيقول اللّه: شفعت الملائكة، وشفع النبيون، وشفع المؤمنون، ولم يبق إلا أرحم الراحمين فيقبض قبضة من النار فيخرج منها قوماً لم يعلموا خيراً قط، قد عادوا حمماً فيلقيهم في نهر في أفواه الجنة، يقال له نهر الحياة،فيخرجون كما تخرج الحبة في حميل السيل، ألا ترونها تكون إلى الحجر أو إلى الشجر ما يكون إلى الشمس أصيفر وأخيضر وما يكون منها إلى الظل يكون أبيض فقالوا يا رسول اللّه كأنك كنت ترعى بالبادية قال: فيخرجون كاللؤلؤ في رقابهم الخواتمن فيعرفهم أهل الجنة هؤلاء عتقاء اللّه الذين أدخلهم اللّه الجنة بغير بعمل عملوه ولا خير قدموه، فيقال لهم لكم ما رأيتم ومثله معه.
أعلم أن الشفاعات خمس:

أولها: الإِراحة من هول الموقف وتعجيل الحساب وهي مختصة بمحمد صلى الله عليه وسلم.
والثانية: في إدخال قوم الجنة بغير حساب، وهي أيضاً وردت له صلى الله عليه وسلم.
والثالثة: قوم استوجبوا النار فيشفع فيهم نبيا ومن شاء اللّه يشفع له.

والرابعة: في زيادة الدرجات في الجنة لأهلها.
والخامسة: فيمن دخل النار من المذنبين فيشفع فيهم نبياً وغيره من الأنبياء والملائكة وإخوانهم المؤمنين، ثم يخرج اللّه كل من قال لا إله إلا اللّه من غير شفاعة شافع حتى لا يبقى فيها إلا الكافرون

كما في حديث عن أنس: "ثم أعود الرابعة فأحمده بتلك المحامد ثم أخرُّ له ساجداً، فيقال يا محمد ارفع رأسك وقل تسمع وسل تعطه واشفع تشفع، فأقول يا رب ائذن لي فيمن قال لا إله إلا اللّه، قال ليس ذلك إليك لكن وعزتي وكبريائي وعظمتي وجبروتي، لأخرجن من قال لا إله إلا اللّه"

أي أتفضل بإخراجهم دون شفاعة شافع فهؤلاء هم الذين معهم مجرد الإيمان وهم الذين لم يؤذن في الشفاعة فيهم وإنما دلت الآثار أنه أذن لمن عنده شيء زائد على الإيمان من عمل صالح أو ذكر خفي، أو عمل من أعمال القلب، من شفقة على مسكين وخوف من اللّه ونية صادقة في عمل فاته، وجعل للشافعين من الملائكة والنبيين دليل عليه، وتفرد اللّه بعلم ما تكنه القلوب، والرحمة لمن ليس عنده سوى الإيمان، فقوله مثقال ذرة من إيمان ومن خير الصحيح أن معناه شيء زائد على مجرد الإيمان لأن مجرد الإيمان الذي هو تصديق لا يتجزأ، فعليك يا أخي بالإيمان، بأن تعتقد بقلبك دين الإسلام وتنطق مع ذلك بالشهادتين، فإن اقتصرت على أحدهما خلدت في نار جهنم التي وقودها الناس والحجارة، ولا تنفعك شفاعة شافع ثم عليك أن تحترز من المعاصي، فإن المعاصي بريد الكفر.
فقد حكي أن تلميذاً للفضيل بن عياض حضرته الوفاة فدخل عليه الفضيل وجلس عند رأسه، وقرأ سورة يس. فقال يا أستاذ لا تقرأ هذه السورة فسكت ثم لقنه، فقال قل لا إله إلا اللّه، فقال لا أقولها لأني بريء منها ومات على ذلك فدخل الفضيل منزله وجعل يبكي أربعين يوماً لم يخرج من البيت ثم رآه في النوم وهو يسحب به إلى جهنم. فقال: بأي شيء نزع اللّه المعرفة عنك وكنت اعلم تلاميذتي? فقال بثلاثة أشياء:

أولها: بالنميمة، فإني قلت لأصحابي بخلاف ما قلت لك.
وثانياً: بالحسد، حسدت أصحابي.
وثالثاً: كان بي علة فجاء إلى طبيب فسألته عنها فقال: اشرب في كل سنة قدحاً من خمر فإن لم تفعل تبقى بك العلة فكنت أشربه نعوذ باللّه من السخط الذي لا طاقة لنا به.
قال بعضهم:

إذا أبقيت الدنيا على المرء دينه

 

فما فاته منها فليس بضـائر

اللهم ارحمنا ولا تعذبنا، ووفقنا ولا تخذلنا، ولا تسلب منا الإيمان عند خواتيمنا، فإنه لا ملجأ لنا إلا إليك، ولا معول لنا إلاعليك يا أرحم الراحمين.

عذاب الكافرين في جهنم

قال اللّه تعالى)فَالَّذِينَ كَفَرُواْ قُطِعَتْ لَهُمْ ثِيَابٌ مِّن نَّارٍ يُصَبُّ مِن فَوْقِ رُؤوسِهِمُ الْحَمِيمُ. يُصْهَرُ بِهِ مَا فِي بُطُونِهِمْ وَالْجُلُودُ. وَلَهُم مَّقَامِعُ مِنْ حَدِيدٍ. كُلَّمَا أَرَادُاْ أَن يَخْرُجُواْ مِنْهَا مِنْ غَمٍ أُعِيدُواْ فِيهَا وَذُوقُواْ عَذَابَ الْحَرِيقِِ.(
)تَلْفَحُ وُجُوهَهُمُ النَّارُ وَهُمْ فِيهَا كَالِحُونَ(


)إِذ الأَغْلاَلُ فِي أَعْنَاقِهِمْ وَالسَّلاَسِلُ يُسْحَبُونَ. فِي الْحَمِيمِ ثُمَّ فِي النَّارِ يُسْجَرُونَ(.


)وَالَّذِينَ كَفَرُواْ لَهُمْ نَارُ جَهَنَّمَ لاَ يُقْضَى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُواْ وَلاَ يُخَفَّفُ عَنْهُم مِّنْ عَذَابِهَا كَذَلِكَ نَجْزِى كُلَّ كَفُورٍ. وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيهَا رَبَّنَا أَخْرِجْنَا نَعْمَلْ صَالِحاً غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ أَوَ لَمْ نُعَمِرْكُم مَّا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَن تَذَكَّرَ وجاءَكُمُ النَّذِيرُ فَذُوقُوا فَمَا لِلظَّالِمِينَ مِن نَّصِيرٍ(
)إِنَّ شَجَرَةَ الزَّقُّوِم طَعَامُ الأثِيِم كَالْمُهْلِ يَغْلىِ فيِ الْبُطُونِ كَغَلْيِ الْحَمِيمِ خُذُوهُ فَاعْتِلُوهُ إلَى سَوَاءِ الْجَحِيِم ثُمَّ صُبُّواْ فَوْقَ رَأسِهِ مِنْ عَذَابِ الحَمِيِم ذُقْ إِنَّكَ أَنتَ العَزِيزُ الْكَرِيمُ(

 

)وَأَصْحَابُ الشِمَالِ مَا أَصْحابُ الشِمَالِ. فِي سَمُومٍ وَحَمِيمٍ. وَظِلٍّ مِن يَحْمُومٍ.لاَّ بَارِدٍ وَلاَ كَرِيمٍ. إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ مُتَرَفِينَ. وَكَانُواْ يُصِرُّونَ عَلَى الْحِنثِ الْعَظِيمِ. وَكَنُواْ يَقُولُونَ أَئِذا مِتْنَا وكُنَّا تُرَاباً وعِظَاماً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ. أَوَ آبَاؤُنَا الأَوَّلُونَ. قُلْ إِنَّ الأَوَلِينَ وَالآخِرينَ. لَمَجْمُوعُونَ إلى مِيقَاتِ يَومٍ مَعْلُومٍ. ثُّمَّ إِنَّكُمْ أَيُّهَا الضَّالْونَ الْمُكَذِّبُونَ. لآكِلُونَ مِن شَجَرٍ مِن زَقُومٍ. فَمَالِؤنَ مِنْهَا البُطُونَ. فَشَارِبُونَ عَلَيْهِ مِنَ الحَمِيمِ. فَشَارِبُونَ شُرْبَ الْهِيمِ. هَذَا نُزُلُهُمْ يَوْمَ الدِّينِ. نَحْنُ خَلَقْنكُمْ فَلَولا تُصَدِّقُونَ.( )خُذُوهُ فَغُلُّوهُ. ثُّمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ. ثُّمَّ في سِلْسِلَةٍ ذَرْعُهَا سَبْعُونَ ذِرَاعاً فَاسْلِكُوهُ. إِنَّهُ كَانَ لاَ يُؤمِنُ بِالله الْعَظِيمِ. وَلاَ يَحَضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكينِ. فَلَيْسَ لَهُ الْيَوْمَ هَاهُنَا حَمِيمٌ. وَلاَ طَعَامٌ إلاَّ مِنْ غِسْلِينٍ. لاَّ يَأكُلُهُ إِلاَّ الْخَاطِؤُنَ.(
)هل أَتَاكَ حَدِيثُ الْغَاشِيَةِ. وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خَاشِعَةٌ. عَامِلَةٌ نَّاصِبَةٌ. تَصْلَى نَاراً حَامِيَةٌ. تُسْقَى مِنْ عَيْنٍ آنِيَةٍ. لَّيْسَ لَهُمْ طَعَامٌ إِلاَّ مِن ضَرِيعٍ. لاَّ يُسْمِنُ وَلاَ يُغْنِى مِن جُوعٍ(

 

وفي كتاب الترمذي عن أبي هريرة رضي اللّه عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم لما خلق اللّه الجنة قال لجبريل اذهب فانظر إليها، فذهب فنظر إليها وإلى ما أعد اللّه لأهلها فيها، ثم جاء فقال أي رب وعزتك لا يسمع بها أحد إلا دخلها، ثم حفها بالمكاره، ثم قال يا جبريل اذهب فانظر إليها، فذهب فنظر إليها ثم جاء، فقال: أي رب وعزتك لقد خشيت أن لا يدخلها أحد.
قال فلما خلق اللّه النار، قال يا جبريل اذهب فانظر إليها، فذهب فنظر إليها، فقال: أي رب وعزتك لا يسمع بها أحد فيدخلها، فحفها بالشهوات، ثم قال يا جبريل اذهب فانظر إليها، فذهب فنظر إليها، فقال: أي رب وعزتك لقد خشيت أن لا يبقى أحد إلا دخلها.
وفي صحيح مسلم قال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم: "ناركم هذه التي يوقدها ابن آدم جزء من سبعين جزءاً من نار جهنم"، قالوا واللّه إن كانت لكافية يا رسول اللّه. قال: "إنها فضلت عليها بتسعة وستين جزءاً كلها مثل حرها".
وذكر سفيان بن عيينة عن أبي هريرة. قال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم: "ناركم هذه جزء من سبعين جزءاً من نار جهنم ولولا أنها ضربت بالماء مرتين ما كان لأحد فيها منفعة".
وفي كتاب الترمذي، عن أبي هريرة رضي اللّه عنه قال: قال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم: "أوقد على النار ألف سنة حتى احمرت ثم أوقد عليها ألف سنة حتى ابيضت، ثم أوقد عليها ألف سنة حتى اسودت فهي سوداء مظلمة".


وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة رضي اللّه عنه قال: كنا مع رسول اللّه صلى الله عليه وسلم إذ سمع وجبة فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "أتدرون ما هذا?" قال: قلنا اللّه ورسوله أعلم قال: "هذا حجر رُميَ به في النار منذ سبعين خريفاً فهو يهوي في النار الآن حتى انتهى إلى قعرها فسمعتم وجبتها".


وفي كتاب الترمذي عن عبد اللّه بن عمرو بن العاص قال: قال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم: "لو أن رضاضة مثل هذه وإشارة إلى مثل الجمجمة، أرسلت من السماء إلى الأرض، في مسيرة خمسمائة سنة لبلغت الأرض قبل الليل، ولو أنها أرسلت من رأس السلسلة لسارت أربعين خريفاً الليل والنهار قبل أن تبلغ أصلها أو قعرها".
وفي صحيح البخاري عن أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "يقول اللّه:لأهون أهل النار عذاباً يوم القيامة، لو أن لك ما في الأرض من شيء، أكنت تفتدي به? فيقول نعم، فيقول: قد أردت منك أهون من هذا وأنت في صلب آدم أن لا تشرك بي شيئاً فأبيت إلا أن تشرك".


وفي صحيح مسلم عن النعمان بن بشير رضي اللّه عنه قال: قال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم: "إن أهون أهل النار عذاباً من له نعلان وشراكان من نار يغلي منهما دماغه كما يغلي المرجل ما يرى أن أحداً أشد منه عذاباً وإنه لأهونهم عذاباً".
وفيه عن سمرة بن جندب أنه سمع رسول اللّه صلى الله عليه وسلم يقول: "إن منهم من تأخذه النار إلى كعبيه ومنهم من تأخذه إلى حجزته ومنهم من تأخذه إلى عنقه".
وفي مسند البزار عن هريرة رضي اللّه عنه قال: قال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم: "لو كان في المسجد مائة ألف أو يزيدون ثم تنفس رجل من أهل النار لأحرقهم".
وفي كتاب الترمذي عن ابن عباس رضي اللّه عنهما قال: قال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم: "لو أن قطرة من الزقوم قطرت في الدنيا لأفسدت على أهل الدنيا معايشهم فكيف بمن يكون طعامه?".
وعن أبي سعيد الخدري عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لسرادق النار أربعة جدر، وكثف كل جدار مسيرة أربعين سنة".
قالصلى الله عليه وسلم: "لو أن دلواً من غساق تهراق في الدنيا لأنتن أهل الدنيا".
قال العلماء: عرق أهل النار وصديدهم.
وقيل دموعهم يسقونها مع الحميم.
وقال صلى الله عليه وسلم: "ويل واد في جهنم يهوى الكافر فيه أربعين خريفاً قبل أن يبلغ قعره والصعود جبل من نار يصعد فيه سبعين خريفاً ويهوى كذلك أبداً".


وقال صلى الله عليه وسلم: "لو أن مقمعاً من حديد وضع على الأرض فاجتمع الثقلان ما نقلوه من الأرض. وقال: لو ضرب بمقمع من حديد الجبل لتفتت وصار غباراً".
وفي كتاب الترمذي عن أبي هريرة رضي اللّه عنه قال: قال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم: "يخرج عنق من النار يوم القيامة له عينان تبصران وأذنان تسمعان ولسان ينطق يقول إني قد وكلت بثلاث، بكل جبار عنيد، وبكل من دعا مع اللّه إلهاً آخر، وبالمصورين".
وفي كتاب الترمذي عن أبي أمامة رضي اللّه عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم في قوله:
)وَيُسْقَى مِن مَّاءٍ صَدِيدٍ. يَتَجَرَّعُهُ وَلاَ يَكَادُ يُسِيغُهُ(.
قال يقرب إلى فيه فإذا أدنى منه شوى وجهه ووقعت فروة رأسه فإذا شربه قطع أمعاءه حتى يخرج من دبره.
يقول اللّه تعالى:
)وَسُقُواْ مَاءً حَمِيماً فَقَطَّعَ أَمْعَاءهُمْ(.
ويقول جل وعلا
)وَإِن يَسْتَغِيثُواْ يُغَاثُواْ بِمَاءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِى الْوُجُوهَ(.


وفيه عن أبي هريرة رضي اللّه عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إن الحميم ليصب على رؤوسهم فينفذ الحميم حتى يخلص إلى جوفه فيسلت ما في جوفه حتى يمرق من قدميه وهو الصهر، ثم يعاد كما كان".
وفيه عن أبي سعيد الخدري رضي اللّه عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "وهم فيها كالحون: قال تشويه النار فتتقلص شفته العليا حتى تبلغ وسط رأسه وتسترخي شفته السفلى حتى تضرب سرته".
وفي كتاب الترمذي قال: قال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم: "إن غلظ جلد الكافر اثنان وأربعون ذراعاً،وإن ضرسه مثل أُحد، وإن مجلسه في جهنم كما بين مكة والمدينة".
وفي صحيح مسلم قال: ضرس الكافر أو ناب الكافر مثل أُحد وغلظ جلده مسيرة ثلاث.
وقال: ما بين منكبي الكافر في النار مسيرة ثلاث للراكب المسرع.
وروي عن ابن عمر رضي اللّه عنهما، قال: قال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم: "إن الكافر ليسحب لسانه الفرسخ والفرسخين يتوطؤه الناس".
وفي كتاب الترمذي وغيره عن أنس قال: قال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم: "أيها الناس ابكوا فإن لم تبكوا فتباكوا فإن أهل النار يبكون في النار حتى تسيل دموعهم على وجوههم كأنها جداول حتى تنقطع الدموع فتسيل الدماء فتقرح العيون فلو أن سفناً أجريت فيها لجرت".
وحكي عن شقيق البلخي أنه كان يوماً يعاتب نفسه ويوصيها ويقول: يا شقيق لا تعص اللّه إلا على حسب ما تطيق من عذابه واعمل لآخرتك على قدر حوائجك إليها، واطلب الرزق على قدر مقامك في الدنيا، واعمل لدار لا نفاذ لها فسوف ترى إذا انجلى الغبار أفرس تحتك أم حمار.
وروي أن الربيع بن خثيم كان يذهب إلى ابن مسعود فمر بحانوت حداد فرأى الحديدة المحماة في الكير فغشي عليه، ولم يفق إلى الغد، فلما أفاق سئل عن ذلك? فقال: تذكرت كون أهل النار في النار.
إخواني صححوا الإِيمان: وهو تصديق القلب، ولا يعتبر إلا مع التلفظ بالشهادتين حتى تنجوا من خلود نار جهنم واحرصوا كل الحرص على الإِتيان بكمال خصال الإِسلام حتى تنجوا من دخولها رأساً.

 

أيا عاملاً للنار جسمك لـين

 

فجربه لتمرينا بحرِّ الظهيرة

ودرجه في لسع الزنابير تجتري

 

على نهش حيات هناك عظيمة

فإن كنت لا تقوى فويلك ما الذي

 

دعاك إلى إسخاط رب البـرية

 

تبارز بـالـنـكـرات عـشـية

 

وتصبح في أثواب نسـك وعـفة

فأنت عليه منك أجرى على الورى

 

بما فيك من جهل وخبث طـوية

تقول مع العصيان ربي غـافـر

 

صدقت ولكن غافر بالـمـشـيئة

وربك رزاق كما هـو غـافـر

 

فلم لم تصدق فيهما بـالـسـوية

فإنك ترجو العفو من غـير تـوبة

 

ولست ترجى الرزق إلا بحـيلة

على أنه بالرزق كفل نـفـسـه

 

لكل ولم يكفـل لـكـل بـجـنة

إلهي أجرنا من عظيم ذنـوبـنـا

 

ولا تخزنا وانظر إلينا بـرحـمة

وخذ بنواصينا إليك وهـب لـنـا

 

يقينـاً يُقـينـا كـل شـك وريبة

إلهي اهدنا فيمن هديت وخذ بـنـا

 

إلى الحق نهجاً في سواء الطريقة

وكن شغلنا عن كل شغل وهمنـا

 

وبغيتنا عن كـل هـم وبـغـية

وصل صلاة لا تناهي على الـذي

 

جعلت به مسكاً ختام الـنـبـوة

 

الخلود في النار للكافرين

قال اللّه تعالى: (وَالَّذِينَ كَفَرُواْ وَكَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ).
وفي كتاب الترمذي عن أبي الدرداء رضي اللّه عنه قال: قال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم:

"يلقى على أهل النار الجوع فيعدل ما هم فيه من العذاب فيستغيثون بالطعام فيغاثون بطعام من ضريع لا يسمن ولا يغني من جوع، فيستغيثون بالطعام فيغاثون بطعام ذي غصة فيذكرون أنهم كانوا يجيزون الغصص في الدنيا بالشراب، فيستغيثون بالشراب فيرفع إليهم الحميم بكلاليب الحديد فإذا دنت من وجوههم شوت وجوههم فإذا دخلت بطونهم قطعت ما في بطونهم فيقولون ادعوا خزنة جهنم، فيقولون أو لم تك تأتيكم رسلكم بالبينات، قالوا: بلى، قالوا: فادعوا وما دعاء الكافرين إلا في ظلال، قال: فيقولون ادعوا مالكاً فيقولون يا مالك ليقض علينا ربك، قال فيجيبهم إنكم ماكثون.
قال الأعمش: ثبت أن بين دعائهم وإجابة مالك إياهم ألف عام، قال: فيقولون ادعوا ربكم، فلا أحد خير من ربكم فيقولون ربنا غلبت شقوتنا وكنا قوماً ضالين، ربنا أخرجنا منها فإن عدنا فإنا ظالمون، قال فيجيبهم
) اخْسَئُواْ فِيهَا وَلاَ تُكَلِّمُونِ( .

قال: فعند ذلك يئسوا من كل خير وعند ذلك يأخذون في الزفير والحسرة والويل.
وروى أن لهب النار يرفع أهل النار حتى يطيروا كما يطير الشرر فإذا رفعهم أشرفوا على الجنة وبينهم حجاب فنادى أصحاب الجنة أصحاب النار أن قد وجدنا ما وعدنا ربنا حقاً فهل وجدتم ما وعدكم ربكم حقاً? قالوا: نعم، فأذن مؤذن بينهم أن لعنة اللّه على الظالمين ونادى أصحاب النار أصحاب الجنة أن أفيضوا علينا من الماء أو مما رزقكم اللّه قالوا: إن اللّه حرمها على الكافرين، فتردهم ملائكة العذاب بمقامع الحديد إلى قعر جهنم.
قال: بعض المفسرين: هو معنى قول اللّه عز وجل: (كُلَّمَا أَرَادُواْ أَن يَخْرُجُواْ مِنْهَا أُعِيدُوا فِيهَا وَقِيلَ لَهُمْ ذُوقُواْ عَذَابَ النَّارِ الَّذِي كُنتُم بِهِ تُكَذِّبُونَ)
وفي الكشاف وأنوار التنزيل عن ابن عباس رضي اللّه عنهما: إن لهم ست دعوات إذا دخلوا النار، يقولون ألف سنة: (رَبَّنَا أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا فَارْجِعْنَا نَعْمَلْ صَلِحاً).
فيجابون: (وَلَكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي).
فيقولون ألفاً: (قَالُواْ رَبَّنَا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ فَاعْتَرَفْنَا بِذُنُوبِنَا فَهَلْ إِلَى خُرُوجٍ مِّن سَبِيلٍ)
فيجابون: (ذَلِكُم بِأَنَّهُ إِذَا دُعِيَ الله وَحْدَهُ كَفَرْتُمْ).
فيقولون ألفاً:
)يَمَلِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ(.
فيجابون:
)إِنَّكُم مَّاكِثُونَ(.
فيقولون ألفاً:
)رَبَّنَا أَخِّرْنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ نُّجِبْ دَعْوَتَكَ(.
فيجابون:
)أَوَ لَمْ تَكُونُواْ أَقْسَمْتُم مِّن قَبلُ مَالَكُم مِّن زَوَالٍ(.
فيقولون ألفاً:
)رَبَّنَا أَخْرِجْنَا نَعْمَلْ صَلِحاً(.

فيجابون: )أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُم مَّا يَتَذَكَّرَ وَجَاءَكُمُ النَّذِيرُ(.
فيقولون ألفاً:
)رَبِّ ارْجِعُونِ. لَعَلِّى أَعْمَلُ صَالِحَاً فِيمَا تَرَكْتُ كَلاَّ إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا(.
فيجابون:
)اخْسَئُواْ فِيهَا وَلاَ تُكَلِّمُونِ(.
ثم لا يكون لهم فيها إلا زفير وشهيق وعواء.
وفي صحيح مسلم عن عبد اللّه بن عمر رضي اللّه عنهما أن رسول اللّه صلى الله عليه وسلم قال: "إذا صار أهل الجنة إلى الجنة وصار أهل النار إلى النار أتى بالموت حتى يجعل بين الجنة والنار ثم يذبح ثم ينادي منادٍ يا أهل الجنة لا موت ويا أهل النار لا موت فيزداد أهل الجنة فرحاً إلى فرحهم ويزداد أهل النار حزناً إلى حزنهم".
وفي كتاب الترمذي: فلو أن أحداً مات فرحاً لمات أهل الجنة، ولو أن أحداً مات حزناً لمات أهل النار.
فاتق اللّه يا أخي ولا تصغر ذنباً ولا تلق مثل هذا خلف ظهرك ظناً منك أنه إِنما يلحق الكفار.
فقد روي البخاري في صحيحه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "يا بلال قم فأذن لا يدخل الجنة إلا مؤمن".
وإنه قال صلى الله عليه وسلم: "إن العبد ليعمل عمل أهل النار وإنه من أهل الجنة ويعمل عمل أهل الجنة وإنه من أهل النار وإنما الأعمال بالخواتيم".
وقال الغزالي رحمه اللّه وكان شيخنا يقول: إذا بحال الكفار وخلودهم في النار فلا تأمن على نفسك فإن الأمر على الخطر ولا تدري ماذا يكون من العاقبة وماذا سبق لك في حكم الغيب ولا تغتر بصفاء الأوقات فإن تحتها غوامض الآفات.
وعن ابن عباس رضي اللّه عنهما في قوله تعالى:
)فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَن تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ(.
هي الموت غير الشهادة.
نصف دينار من خير فأخرجوه فيخرجون خلقاً كثيراً ثم يقولون ربنا لم نذر فيها ممن أمرتنا أحداً، ثم يقول: ارجعوا فمن وجدتم في قلبه مثقال ذرة قال أبو حفص الحداد: بريد الكفر كما أن الحمَّى بريد الموت.
وقال حاتم الأصم: لا تغتر بموضع صالح فلا مكان أصلح من الجنة،فلقي آدم فيها ما لقي، ولا تغتر بكثرة العبادة فإن إبليس بعد طول تعبده لقي ما لقي،ولا تغتر بكثرة العلم فإن بلعام كان يحسن اسم اللّه الأعظم، فانظر ماذا لقي، ولا تغتر برؤية الصالحين فلا شخص أكبر من المصطفى فلم ينتفع بلقائه أقاربه وأعداؤه.


وعن أبي بكر الوراق رحمه اللّه، أنه قال: أكثر ما ينزع الإِيمان من العبد عند الموت، فنظرنا في الذنوب فلم نجد أنزع للإِيمان من ظلم العباد.

 

أقنع فديتك بـالـقـلـيل

 

والزم مقارنة الخـمـول

واملك هواك مـجـاهـداً

 

وتنح عـن قـال وقـيل

فلسـوف تـسـأل يوم يح

 

شرك المليك عن الفتـيل

والمرء في شـغـل بـذا

 

ك عن المصاحب والخليل

لابد تجزى مـا صـنـع

 

ت من الدقيق وبالجلـيل

 

تنح ما استطعت على ذنوبك بالغدو وبالأصيل إن كنت ترغب في الجنان، وظل مولاك الظليل.
قال في إكمال المعلم: اعلم أن الإِجماع قد وقع على أن الكفار لا تنفعهم أعمالهم ولا يثابون عليها بتخفيف عذاب، ولا بنعيم لكنهم بإضافة بعضهم إلى الكفر كبائر المعاصي وأعمال الشر وأذى المؤمنين يزدادون عذاباً.
كما قال اللّه تعالى:
)مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ. قَالُواْ لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ. وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ. وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ آلْخَائِضِينَ. وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ. حَتَّى أَتَنَا الْيَقِينُ. فَمَا تَنفَعُهُمْ شَفَعَةُ الشَّافِعِينَ(

فليس إذن عذاب أبي طالب كعذاب أبي جهل.
وذكر عن الحسن أن آخر من يخرج من النار يقال له هناد عذب ألف عام ينادي: يا حنان، يا منان، فبكى الحسن وقال: يا ليتني كنت هناداً، فتعجبوا منه، فقال: ويحكم أليس يوماً يخرج ولاشك أنه رحمه اللّه كان عالماً بأحكام الآخرة.
وقال يحيى بن معاذ: لا تدري أي المصيبتين أعظم، أفوت الجنان، أم دخول النيران، أما الجنة فلا صبر عنها وأما النار فلا صبر عليها وعلى كل حال، فوت النعيم أيسر من مقاساة ا لجحيم ، ثم الطامة الكبرى، والمصيبة العظمى هي في الخلود إذ أي قلب يحتمله وأي نفس تصبر عليه.

الجنة وما لأهلها من النعيم

قال اللّه تعالى: )وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ كُلَّمَا رُزِقُواْ مِنْهَا مِن ثَمَرَةٍ رِزْقاً قَالُواْ هَذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِن قَبْلُ وَأُتُواْ بِهِ مُتَشَبِهاً وَلَهُمْ فِيهَا أَزْوَجٌ مُّطَهَّرَةٌ وَهُمْ فِيهَا خَلِدُونَ(.
والسابقون أي إلى الهجرة أو الخير.
)وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُون. أُوْلئِكَ الْمُقَرَّبُونَ. فِي جَنَّتِ النَّعِيِم. ثُلَّةٌ مِّنَ الأَوَّلِينَ. وَقَلِيلٌ مِّنَ الآخِرِينَ. عَلَى سُرُرٍ مَّوْضُونَةٍ(.
أي منسوجة بالذهب مشبكة بالجواهر
)مُّتَّكِئِينَ عَلَيْهَا مُتَقَبِلِينَ( وجوه بعضهم إلى بعض ليس أحد وراء أحد.
)يَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَنٌ مُّخَلَّدُونَ(ولا يشيبون ولا يتغيرون.
)بِأَكْوَابٍ( جمع كوب إناء لا عروة ولا خرطوم له.
)وَأَبَارِيقَ وَكَأْسٍ مِّن مَّعِينٍ. لاَّ يُصَدَّعُونَ عَنْهَا وَلاَ يُنزِفُونَ( أي لا ينشأ عنها صداعهم ولا ذهاب عقلهم.
)وَفَاكِهَةٍ مِّمَّا يَتَخَيَّرُونَ. وَلَحْمِ طَيْرٍ مِّمَّا يَشْتَهُونَ. وَحُورٌ عِينٌ. كَأَمْثَلِ الُّلؤْلُؤِ الْمَكْنُونِ( أي المصون عما يضر به.
)جَزَاءَ بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ. لاَ يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْواً( عبثاً باطلاً.
)وَلاَ تَأْثِيماً( أي ما يوقع في الإِثم.
)إِلاَّ قِيلا سَلاَماً سَلاَماً( أي إلا التسليم منهم بعضهم على بعض.
)وَأَصْحَابُ الْيِمَينِ مَا أَصْحَابُ الْيَمِينِ(وهم الأبرار دون المقربين.
)فِي سِدْرٍ مَّخْضُودٍ( أي لا شوك له أو مثنى الغصن من كثرة الحمل.
)وَطَلْحٍ( موز.
)مَّنضُودٍ( متراكم قد نضد بالحمل من أسفله إلى أعلاه.
)وَظِلٍّ مَّمْدُودٍ( أي منبسط أو دائم.
وفي الحديث: "إن في الجنة شجرة يسير الراكب في ظلها مائة عام ما يقطعها
)وَمَاءٍ مَّسْكُوبٍ( أي مصبوب يجري على وجه الأرض من غير أخدود.
)وَفَاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ. لاَّ مَقْطُوعَةٍ( في زمان )وَلاَ مَمنْوُعَة( من أحد )وَفُرُشٍ مَّرْفُوعَةٍ( كما بين السماء والأرض )وُجُوهٌ يَوَمَئِذٍ نَّاعِمَةٌ( ذات بهجة )لّسَعْيِها( في الدنيا )رَاضِيَةٌ( في الآخرة لما رأت من ثوابها)في جَنَّةٍ عَالِيَة( المحل أو القدر)لاَّ تَسْمَعُ فِيهَا لَغِيَةً( لغواً )فِيهَا عَيْنٌ جَارِيَةٌ. فِيَها سُرُرٌ مَّرْفُعَةٌ( رفيعة السمك إذا أراد أن يجلس عليها صاحبها تواضعت له ثم ترتفع )وَأَكْوَابٌ مَّوْضُوعَةٌ( بين أيديهم )وَنَمَارِقُ( وسائد )مَصْفُوفَةٌ( بعضها بجنب بعض )وَزَرَابِىُّ( بسط فاخرة. )مَبْثُوثَةٌ( مبسوطة.
وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة رضي اللّه عنه قال: قال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم: "قال اللّه تعالى:
)أعددت لعبادي الصالحين ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر(.
اقرءوا إن شئتم:
)فَلاَ تَعْلَمُ نَفْسٌ مَّا أُخْفِيَ لَهُم مِّن قُرَّةِ أَعْيُنٍ(.
قال أهل اللغة قرة أعين يعبر بها عن المسرة، ورؤية ما يحب الإِنسان ويوافقه.
وفي صحيح البخاري عن أبي هريرة رضي اللّه عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم: "إن في الجنة لشجرة يسير الراكب في ظلها مائة سنة" اقرءوا إن شئتم
)وَظِلٍّ مَّمْدُودٍ( ولقاب قوس أحدكم في الجنة خير مما طلعت عليه الشمس أو تغرب".
وفي كتاب الترمذي: ما في الجنة شجرة إلا وساقها من ذهب.
وفي كتاب الترمذي عن أبي هريرة قال: قلت يا رسول اللّه مم خلق الخلق? قال: "من الماء". قلنا الجنة ما بناؤها? قال: "لبنة من ذهب، ولبنة من فضة، وملاطها المسك الأذفر، وحصباؤها اللؤلؤ والياقوت، وترابها الزعفران، من يدخلها ينعم ولا ييأس، ويخلد ولا يموت ولا يفنى شبابهم، ولا تبلى ثيابهم".
وفي صحيح مسلم: قال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم: "إن أول زمرة تدخل الجنة على صورة القمر ليلة البدر، والتي تليها على أضواء كوكب دري في السماء، لكل امرئ منهم زوجتان اثنتان يرى مخ سوقهما من وراء اللحم، وما في الجنة أعزب".
وفيه أيضاً: "...لا يبولون، ولا يتغوطون، ولا يمتخطون، ولا يتفلون أمشاطهم الذهب، ورشحهم المسك، ومجامرهم الألوة، وأزواجهم الحور العين، أخلاقهم على خلق رجل واحد، على صورة أبيهم آدم، ستون ذراعاً في السماء".

وفيه أيضاً: "... لا اختلاف بينهم ولا تباغض، قلوبهم قلب واحد، يسبحون اللّه بكرة وعشية".
وفيه قال: يأكل أهل الجنة فيها ويشربون، ولا يتفلون، ولا يبولون ولا يتغوطون، ولا يمتخطون، قالوا: فما بال الطعام? قال: جشاء ورشح كرشح المسك يلهمون التسبيح والتحميد كما تلهمون النفس.
وفي الصحيحين قال: "إن أهل الجنة يتراؤون أهل الغرف من فوقهم كما يتراؤون الكوكب الدري الغابر في الأفق من المشرق والمغرب لتفاضل ما بينهم" قالوا: يا رسول اللّه تلك منزل الأنبياء لا يبلغها غيرهم، قال: "بلى والذي نفسي بيده رجال آمنوا باللّه وصدقوا المرسلين".
وفي مسند البراز عن عبد اللّه بن مسعود قال: قال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم: "إنك لتنظر إلى الطير في الجنة فتشتهيه فيجيء مشوياً بين يديك".
وفي كتاب الترمذي عن علي رضي اللّه عنه قال: قال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم: "إن في الجنة لغرفاً يرى ظهورها من بطونها، وبطونها من ظهورها" فقام إليه أعرابي فقال: لمن هي يا رسول اللّه فقال: "هي لمن أطاب الكلام وأطعم الطعام وأدام الصيام، وصلى بالليل والناس نيام".
وفي كتاب الترمذي عن سعد بن أبي وقاص عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لو أن ما يقل ظفر مما في الجنة بدا لتزخرف له ما بين خوافق السموات والأرض، ولو أن رجلاً من أهل الجنة اطلع فبدا أساوره لطمس ضوؤه ضوء الشمس كما تطمس الشمس ضوء النجوم".
وفي كتاب الترمذي عن علي رضي اللّه عنه قال: قال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم: "إن في الجنة لسوقاً متجمعاً ما فيها شراء ولا بيع إلا صور من الرجال والنساء فإذا اشتهى الرجل صورة دخل فيها".
وفي كتاب الترمذي عن سليمان بن بريدة عن أبيه أن رجلاً قال يا رسول اللّه هل في الجنة من خيل? قال: "إن اللّه أدخلك الجنة فلا تشاء أن تحمل فيها على فرس من ياقوتة حمراء تطير بك في الجنة، حيث شئت إلا حملت" وسأله رجل فقال: يا رسول اللّه هل في الجنة من إبل فقال: "إن يدخلك اللّه الجنة يكن لك فيها ما اشتهت نفسك ولذت عينك".
وفي كتاب الترمذي قال صلى الله عليه وسلم: "من مات من أهل الجنة من صغير أو كبير يردون بني ثلاث وثلاثين في الجنة لا يزيدون عليها أبداً، وكذلك أهل النار"

وقال: "إن عليهم التيجان أدنى لؤلؤة منها لتضيء ما بين المشرق والمغرب".
وفي كتاب الترمذي قال: "إن في الجنة مائة درجة ما بين كل درجتين كما بين السماء والأرض والفردوس أعلاها درجة، منها تفجر أنهار الجنة الأربعة ومن فوقها يكون العرش، فإذا سألتم اللّه فاسألوه الفردوس".
وحكي أن أصحاب الثوري كلموه فيما كانوا يرون من خوفه واجتهاده ورثة حاله، فقالوا: يا أستاذ لو نقصت من هذا الجهد نلت مرادك أيضاً إن شاء اللّه تعالى، فقال سفيان كيف لا أجتهد وقد بلغني أن أهل الجنة يكونون في منازلهم فيتجلى لهم نور يضيء له الجنان الثمان فيظنون أن ذلك نور من عند الرب سبحانه وتعالى فيخرون ساجدين فينادون أن ارفعوا رؤوسكم ليس الذي تظنون إنما هو نور جارية تبسمت في وجه صاحبها ثم أنشد يقول:

 

ما ضر من كان الفردوس مسكنه

 

ماذا تحمل من بؤس وإقـتـار

تراه يمشي كئيباً خـائفـاً وجـلا

 

إلى المساجد يمشي بين أطمـار

يا نفس مالك من صبر على النار

 

قد حان أن تقبلي من بعد إدبـار

 

وقيل لوهب بن منبه: أليس لا إله إلا اللّه مفتاح الجنة? قال بلى ولكن ليس مفتاح إلا له أسنان فإن جئت بمفتاح له أسنان فتح لك وإلا لم يفتح لك، ذكره البخاري في صحيحه.
وروي أن اللّه عز وجل أوحى إلى موسى:
)ما أقل حياء من يطمع في جنتي بغير عمل، كيف أجود برحمتي على من بيخل بطاعتي....(
وعن شهر بن حوشب: طلب الجنة بلا عمل ذنب من الذنوب وانتظار الشفاعة بلا سبب نوع من الغرور، وارتجاء الرحمة ممن لا يطاع حمق وخذلان. وعن رابعة البصرية أنها كانت تنشد:

 

ترجو النجاة ولم تسلك مسالكهـا

 

إن السفينة لا تجري على اليبس

 

وقال الشيخ اليافعي رحمة اللّه عليه:

 

فيا عجباً ندري بـنـار وجـنة

 

وليس لذي نشتاق أو تلك نحذر

إذا لم يكن خوف وشوق ولا حيا

 

فماذا بقي فينا من الخير يذكر

ولسنا لحر صابرين ولا بـلـى

 

فكيف على النيران يا قوم نصبر

وفوت جنان الخلد أعظم حسـرة

 

على تلك فليتحسر المتحـسـر

فأف لنا أف كـلاب مـزابـل

 

إلى نتنها نغـدو ولا نـتـدبـر

نبيع خطيراً بالحقـير عـمـاية

 

وليس لنا عقل وقلـب مـنـور

فطوبى لمن يؤتى القناعة والتقى

 

وأوقاته في طاعة اللّه يعـمـر

اللهم اجعلنا من المتقين الوارثين للجنة ولا تحرمنا من رفدك ورحمتك يا عظيم المنة.

صفة الحور العين

قال الله تعالى: )وَحُورٌ عِينٌ. كَأمْثَالِ الُّلؤْلُؤِ الْمَكْنُونِ جَزَاءَ بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ(
وقال تعالى:
)كَأَنَّهُنَّ الْيَاقُوتُ وَالْمَرْجَانُ(.
وقال:
)إِنَّا أَنشَأْنَهُنَّ إِنشَاءً. فَجَعَلْنَهُنَّ أَبْكَاراً. عُرُباً أَتْرَاباً. لأَصْحَبِ الْيَمِينِ(


وفي صحيح مسلم: قال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم: "إن للمؤمن في الجنة لخيمة من لؤلؤة واحدة مجوفة طولها ستون ميلاً في كل زاوية منها للمؤمن أهل لا يراهم الآخرون يطوف عليهم المؤمن، وجنتان من فضة آنيتهما وما فيهما، وجنتان من ذهب آنيتهما وما فيهما، وما بين القوم، وبين أن ينظروا إلى ربهم إلا رداء الكبرياء على وجهه في جنة عدن: أي صفة الكبرياء والعظمة فهو بكبريائه وعظمته لا يريد أن يراه أحد من خلقه حتى يأذن لهم في دخول جنة عدن فيرونه فيها".
وفي صحيح مسلم قال: "إن في الجنة لسوقاً يأتونها كل جمعة فتهب ريح الشمال فتحثو في وجوههم وثيابهم فيزدادون حسناً وجمالاً، فيرجعون إلى أهليهم وقد ازدادوا حسناً وجمالاً، فيقول لهم أهلوهم، واللّه لقد ازددتم حسناً وجمالاً".


وفي كتاب الترمذي قال: "إن أول زمرة يدخلون الجنة يوم القيامة ضوء وجوههم على مثل ضوء القمر ليلة البدر، والزمرة الثانية على مثل أحسن كوكب دري في السماء لكل رجل منهم زوجتان على كل زوجة سبعون حلة يرى مخ ساقها من ورائها".
وفي كتاب النسائي عن أنس قال: قال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم: "يعطى المؤمن في الجنة قوة كذا وكذا من الجماع" قيل يا رسول اللّه أو يطيق ذلك قال: "يعطى قوة مائة".
وفي كتاب الترمذي عن علي قال: قال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم: "إن في الجنة لمجتمعاً للحور العين بأصوات لم يسمع الخلائق مثلها يقلن: نحن الخالدات فلا نبيد، ونحن الناعمات فلا نبؤس، ونحن الراضيات فلا نسخط، فطوبى لمن كان لنا وكنا له".
وفي كتاب الترمذي: قال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم: "لغدوة في سبيل اللّه أو روحة خير من الدنيا وما فيها ولقاب قوس أحدكم أو موضع يده في الجنة خير من الدنيا وما فيها ولو ان من نساء أهل الجنة اطلعت إلى أهل الأرض لأضاءت ما بينهما ولملأت ما بينهما ريحاً ولنصيفها على رأسها خير من الدنيا وما فيها".
قال في الصحاح النصيف: الخمار.
وفي كتاب الترمذي قال: رسول اللّه صلى الله عليه وسلم "أدنى أهل الجنة الذي له ثمانون ألف خادم واثنتان وسبعون زوجة وتنصب له قبة من لؤلؤ وزبرجد وياقوت، كما بين الجابية إلى صنعاء".
وفي مسند البزار عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قيل يارسول الله انفضي إلى نسائنا في الجنة? فقال"أي والذي نفسي بيده إن الرجل ليفضي في اليوم الواحد إلى مائة عذراء".
وعن أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أهل الجنة إذا جامعوا نساءهم عادوا أبكاراً".
وفي صحيح مسلم عن المغيرة بن شعبة، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "سأل موسى عليه السلام ربه ما أدنى أهل الجنة منزلة? قال: هو رجل يجئ بعد ما أدخل أهل الجنة الجنة، فيقال له ادخل الجنة، فيقول: أي رب وكيف وقد نزل الناس منازلهم، وأخذوا أخذاتهم، فيقال له أترضى أن يكون لك مثل ملك من ملوك الدنيا فيقول رضيت رب، فيقول هذا لك وعشرة أمثاله، ولك ما اشتهت نفسك ولذت عينك، فيقول رضيت رب،قال: رب فأعلاهم منزلة، قال: أولئك الذين غرست كرامتهم بيدي وختمت عليها فلم تر عين، ولم تسمع أذن، ولم يخطر على قلب بشر".
قال ومصداقه من كتاب الله تعالى:
)فَلاَ تَعْلَمُ نَفْسٌ مَّا أُخْفِيَ لَهُم مِّن قُرَّةِ أَعْيُنٍ(

 

وفي صحيح مسلم عن أبي سعيد الخدري رضي اللّه عنه قال: قال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم: "إن اللّه تعالى يقول لأهل الجنة يا أهل الجنة، فيقولون: لبيك ربنا وسعديك والخير في يديك فيقول: هل رضيتم? فيقولون: وما لنا لا نرضى يا رب وقد أعطيتنا ما لم تعط أحداً من خلقك فيقول ألا أعطيكم أفضل من ذلك، فيقولون ياربنا وأي شيء أفضل من ذلك? فيقول: أحل لكم رضواني فلا أسخط عليكم بعده أبداً".
إخواني: اتركوا الدنيا واكدحوا للآخرة وارفضوا حب نساء الدنيا واشتروا الحور الفاخرة فإنها تدرك بأيسر الأثمان وتكون معكم مخلدة في الجنان.
وروي عن مالك بن دينار رضي الله عنه أنه كان يوماً ماشياً في أزقة البصرة، فإذا هو بجارية من جواري الملوك راكبة ومعها الخدم، فلما رآها مالك نادى أيتها الجارية: أيبيعك مولاك? فقالت: كيف قلت يا شيخ? قال: أيبيعك مولاك? قالت: ولو باعني أكان مثلك يشتريني قال: نعم وخيراً منك، فضحكت وأمرت به أن يحمل إلى دارها، فحمل فدخلت إلى مولاها فأخبرته فضحك وأمر أن يدخل به إليه، فأدخل، فألقيت له الهيبة في قلب السيد، قال: ما حاجتك، فقال بعني جاريتك، قال: أو تطيق أداء ثمنها? قال ثمنها عندي نواتان مسوستان فضحكوا، قال وكيف كان ثمنها عندك هذا? قال: لكثرة عيوبها، قال: وما عيوبها. قال: إن لم تتعطر دفرت، وإن لم تستك بخرت، وإن لم تتمشط وتدهن قملت وشعنت، وإن تعمرت عن قليل هرمت، ذات حيض وغائط وبول وأقذار وحزن وغم وأكدار، ولعلها أن لا تودك إلا لنفسها، ولا تحبك إلا لتنعمها، لا تفي بعهدك، ولا تصدق في ودك، ولا يخلف عليها أحد بعدك إلا رأته مثلك، وأنا آخذ بون ما سألت في جاريتك من الثمن جارية خلقت من سلالة الكافور ومن المسك والجوهر والنور لو مزج ريقها أجاج البحر لطاب، ولو دعي بكلامها ميت لأجاب، ولو بدا معصمها للشمس لأظلمت دونه وكسفت، ولو بدا في الظلماء لأنارت به وأشرقت، ولو واجهت الآفاق بحليها وحللها لتعطرت به وتزخرفت، نشأت من بين رياض المسك والزعفران وقضبان الياقوت والمرجان، وقصرت في خيام النعيم وغذيت بماء التسنيم،لا تخلف عهدها، ولا تبدل ودها فأيهما أحق برفع الثمن? قال التي وصفت، قال فإنها الموجودة الثمن القريبة الخطب من كل زمن قال فما ثمنها رحمك الله? قال أيسر المبذول لنيل الخير المأمول أن تتفرغ ساعة في ليلك فتصلي ركعتين تخلصهما لربك وأن يوضع طعامك فتذكر جائعاً فتؤثره للّه تعالى على شهوتك وأن ترفع حجراً أو قذراً وأن تقطع أيامك بالبلغة والقلة وترفع همك عن دار الغرور والغفلة فتعيش الدنيا بعز القناعة وتأتي إلى موقف الكرامة آمناً غداً وتنزل الجنة دار النعيم في جوار المولى الكريم مخلداً.
فقال يا جارية أسمعت ما قال شيخنا هذا? قالت نعم قال أفصدق أم كذب قالت بل صدق وبر ونصح قال فأنت إذاً حرة للّه تعالى، وضيعة كذا وكذا دقة عليك، وأنتم أيها الخدم أحرار وضيعة كذا وكذا لكم، وهذه الدار بما فيها صدقة مع جميع مالي في سبيل اللّه، ثم مد يده إلى ستر خشن كان على بعض أبوابها فاجتذبه وخلع جميع ما كان عليه واستتر به فقالت الجارية لا عيش بعدك يا مولاي فرمت بكسوتها ولبست ثوباً خشناً وخرجت معه فودعهما مالك بن دينار ودعا لهما وأخذ طريقاً وأخذا طريقاً غيره فتعبدا جميعاً حتى جاء الموت فنقلهما على حال العبادة.
رحمهما الله ورضي الله عنهما ونفعنا بهما وبسائر الصالحين، اللهم يسر علينا متابعتهم وأوصل إلينا فتوحاتهم وأدم لنا بركاتهم وألحقنا بهم وأحشرنا في زمرتهم وأدنا هداهم وأسلكنا طريقهم آمين.

رؤية اللّه تبارك وتعالى في الجنة

قال الله تعالى: )وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاضِرَةٌ. إلَى رَبِّها نَاضِرةٌ. وَوُجُوهٌ يَوْمَئذٍ بَاسِرَةٌ. تَظُنُّ أَن يُفْعَلَ بِهَا فَاقِرَةٌ(
وفي صحيح مسلم عن صهيب عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إذا دخل أهل الجنة الجنة يقول اللّه تبارك وتعالى أتريدون شيئاً أزيدكم? فيقولون ألم تبيض وجوهنا، ألم تدخلنا الجنة وتنجينا من النار، قال فيرفع الحجاب فينظرون إلى وجه اللّه تعالى فما أعطوا شيئاً أحب إليهم من النظر إلى ربهم ثم تلا
)لِلَّذينَ أحْسَنُوا الحُسْنى وَزِيَادَةٌ(

قال العلماء الحسنى الجنة والزيادة هي النظر إلى وجه اللّه تعالى الكريم اللهم ارزقنا ذلك بفضلك.
وروى الإمام أحمد والترمذي عن ابن عمر رضي اللّه عنه قال: قال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم "إن أدنى أهل الجنة منزلة لمن ينظر إلى جنانه وزوجاته ونعيمه وخدمه وسرره مسيرة ألف سنة، وأكرمهم على اللّه من ينظر الى وجهه تعالى غدوة وعشية ثم قرأ:
)وُجُوهٌ يَوْمِئّذٍ نَاضِرَةٌ. إلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ(.


وفي الصحيحين عن جرير بن عبد اللّه قال: "نظر رسول اللّه إلى القمر ليلة البدر قال إنكم سترون ربكم عياناً كما ترون هذا القمر لا تضامون في رؤيته فإن استطعتم أن لا تغلبوا عن صلاة قبل طلوع الشمس وقبل غروبها فافعلوه ثم قرأ:
)وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِهَا(.


وفي كتاب الترمذي عن سعيد بن المسيب أنه لقي أبا هريرة فقال اسأل اللّه أن يجمع بيني وبينك في سوق الجنة فقال سعيد أفيها سوق? قال نعم أخبرني رسول اللّه صلى الله عليه وسلم "أن أهل الجنة إذا دخلوها نزلوا فيها بفضل أعمالهم ثم يؤذن لهم في مقدار يوم الجمعة من أيام الدنيا فيزورون ربهم لهم عرشه ويتبدى لهم في روضة من رياض الجنة فتوضع لهم منابر من نور ومنابر من لؤلؤ ومنابر من ياقوت ومنابر من زبرجد ومنابر من ذهب ومنابر من فضة ويجلس أدناهم وما فيهم دنئ على كثبان المسك والكافور ما يرون أن أصحاب الكراسي بأفضل منهم مجلساً".
قال أبو هريرة: قلت يا رسول اللّه وهل نرى ربنا قال "نعم هل تتمارون في رؤية الشمس والقمر ليلة البدر?" قلنا لا، قال "كذلك لا تتمارون في رؤية ربكم ولا يبقى في ذلك المجلس إلا حاضرة اللّه محاضرة حتى يقول للرجل منهم يا فلان ابن فلان أتذكر يوم قلت كذا وكذا فيذكره ببعض غدراته في الدنيا فيقول أفلم تغفر لي فيقول فبسعة مغفرتي بلغت منزلتك هذه فبينما هم على ذلك غشيتهم سحابة من فوقهم فأمطرت عليهم طيباً لم يجدوا مثل ريحه شيئاً قط ويقول ربنا قوموا إلى ما أعددت لكم من الكرامة فخذوا ما اشتهيتم فيأتون سوقاً قد حفت بهم الملائكة فيها ما لم تنظر العيون إلى مثله ولم تسمع الآذان ولم يخطر على القلوب فيجمع لنا ما اشتهينا ليس يباع فيها ولا يشتري وفي ذلك السوق يلقى أهل الجنة بعضهم بعضاً".
قال "فيقبل الرجل ذو المنزلة المرتفعة فيلقى من دونه وما فيهم دنئ فيروعه ما يرى من اللباس فما ينقضي آخر حديثه حتى يتخيل عليه ما هو أحسن منه، وذلك أنه لا ينبغي لأحد أن يحزن فيها ثم ننصرف إلى منازلنا فتتلقانا أزواجنا فيقلن مرحباً وأهلاً لقد جئت وإن بك من الجمال أفضل مما فارقنا فنقول إنا جالساً اليوم ربنا الجبار ويحق لنا أن ننقلب بمثل ما انقلبنا.
قال بعض السادات رأيت غلاماً في البرية وهو قائم يتعبد وليس معه أحد قد انقطع عن العمارة والناس فسلمت عليه وقلت له يا فتى أنت بلا معين ولا رفيق، فقال بلى وعزته معي المعين والرفيق، فقلت فأين المعين والرفيق? فقال هو فوقي بقدرته ومعي بعلمه وحكمته وبين يدي بهدايته وعن يميني بنعمته وعن شمالي بعصمته، قال فلما سمعت منه هذا الكلام قلت له هل لك في المرافقة فقال هيهات مرافقتك تشغلني عن خدمته وما أحب أن يكون هذا لي ولي ملك الدنيا من شرقها إلى غربها فقلت له أما تستوحش في هذا المكان فقال لي يا هذا من كان المولى حبيبه وأنيسه كيف يستوحش، فقلت من أين تأكل? فقال يا هذا الذي غذائي برفقه في ظلمة الأحشاء صغيراً تكفل بي كبيراً ولي عنده رزق معلوم وله وقت محتوم فسألته الدعاء فقال لي حجب اللّه طرفك عن معصيته وملأ قلبك بخشيته ولا جعلك ممن يشتغل بغيره عن خدمته ثم ذهب ليقول فتعلقت به وقلت له يا أخي متى ألقاك فتبسم وقال أما بعد يومك هذا فلا تحدث به نفسك في الدنيا ويوم القيامة يوم يجتمع فيه الناس فإن كنت ممن تلقاني فاطلبني في جملة الناظرين إلى اللّه فقلت له: ومن أين عرفت ذلك? فقال به وعدني ربي، ذلك أني غضضت طرفي عن النظر إلى المحرمات ومنعت نفسي من تناول الشهوات وخلوت بخدمته في الليالي المظلمات، ثم غاب عني فما رأيته.
اللهم اجعلنا ممن اتصفت بهذه الصفات الثلاث فنظفر بلقائك يوم الدين ومن الذين يقول لهم خزنة الجنة إذا جاؤوها:
)سَلاَمٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ(.

وصلى اللّه على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
تم بحمد اللّه وتوفيقه.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

<br /> الكتاب الاول الأجوبة العراقية على الأسئلة اللاهورية لأبي الثناء شهاب الدين محمود الحسيني الآلوسي البغدادي نزل اللهم يا مجيب السائلين وغياث المستغيثين وناصر السالكين مسالك الهدى وخاذل الهائمين في مهاوي الردى الناكبين عن الصراط السوي، نحمدك على أن هديتنا للاتباع وحفظتنا عن الزيغ والابتداع وأيدتنا بالدليل الجلي والبرهان القطعي. ونصلي ونسلم على من أنزلت عليه القرآن والزمن من الشدة قد فرغ وبعثته مؤيدا بالمعجزات الباهرات لينذر الحاضرين ومن بلغ، فصدع بالحكم الشرعي ونصرته بالرعب قبل المشرفي؛ وعلى صاحبه المخصوص بفضيلة {ثاني اثنين} ومن هو في القبر مضاجعه كهاتين، هذا وقد كانا رفيقين إذ الزمان جاهلي؛ وعلى عمر الذي كانت الشياطين تفر عن ظله وتتفرق هيبة من أجله إذا سمعوا خفق نعله هربوا من الأحوذي؛ وعلى عثمان مصابر البلاء من أيدي الأعداء الذي تستحي منه ملائكة السماء، سلام الله تعالى على ذلك الحيي؛ وعلى علي الذي ملئ علما وخوفا وعاهد على ترك الدنيا فأوفى ونحن والله نحبه أوفى من حب الرافضي؛ وعلى آله وسائر أصحابه وأزواجه وأتباعه الدارجين على منهاجه ما أحرق الشهاب كل شيطان مارد غوي. أما بعد، فيقول أفقر العباد إليه عز شأنه أبو الثناء شهاب الدين السيد محمود المفتي ببغداد عفى عنه: بينما علماء العراق الذين طار صيتهم إلى سائر الآفاق يجرون أذيال أفكارهم في رياض العلوم ويجرون جريال أنظارهم في حياض سرها المكتوم -زمن خلافة مجد ونظام الدين والدنيا ومجدد جهات العدالة العليا ستر الله تعالى في العالم الأكبر والمعير من بعض أنوار جلاله وجماله قرصي الشمس والقمر رب السطوات التي لا تبارى والغرمات التي غرت أن تجارى ظل الله تعالى المبسوط في بسيطته خليفته الأعظم في خليقته السلطان بن السلطان بن السلطان محمود خان العدلي ابن السلطان عبد الحميد خان، جعل الله تعالى حبات قلوب أعاديه منثورة بانتظام نظام مواليه ولا زالت رؤوس الملوك خاضعة لجلاله وأوابها الأيابي مقيدة بين يدي أقواله وأفعاله- إذ وفد عليهم من بلاد لاهور وافد وارتاد في محافل رياضهم رائد، فحط رحله حيث تحط الرجال رحالها وأنزل أصله حيث تبلغ النفوس آمالها، وذلك حضرة فرع الشجرة القادرية وعرف الغالية المحمدية نقيب الأشراف وفخر آل عبد مناف واحد الأحدين وثالث القمرين السيد السند ومقيم الأود الطائر مجده بجناحي البازالي النسر الطائر المقتفي آثار أجداده نجوم الهدى والسادة الأكابر السيد محمود أفندي ابن الحاج زكريا لا زال ثرى مواطئ أقدامه كحلا لعين الثريا. ثم أبرز له ألوكة من علماء لاهور وفقهم الله تعالى لما فيه اغتنام الأجود مشتملة على الاستفتاء عن حكم مسئلة وقعت هنالك وتشعبت في تحقيقها على ما نقل المذاهب والمسالك وتلخيصها: ما قول علماء الدين وأئمة المسلمين ومرشدي الطريقة وجامعي الشريعة والحقيقة -من ساكني دار السلام ومجاوري حضرت علم الأعلام الغوث الرباني والهيكل الصمداني الشيخ عبد القادر الكيلاني قدس سره وغمرنا وإياكم بره- في جماعة ظهروا في بلادنا يزعمون أنهم من أهل السنة ويسبون الصحابة خصوصا من خاض لجة الفتنة كمعاوية بن أبي سفيان ومن وافقه في ذلك الشأن، ألهذا أصل أصيل أم هو حديث خرافة من جملة الأباطيل انتهى. ومعها أيضا ورقة فيها أجوبة حقة قد حررها علماء أجلاء ومشايخ فضلاء ورقم كل منهم وراء أجوبة اسمه وختم تحته ليصدق ختمه رقمه، فعرض النقيب جميع ذلك لدى حضرت الوزير الخطير والبدر المنير الفائز بالرياستين الدينية والدنيوية والحائز الحكمتين العلمية والعملية. ثبت الجنان من وثباته ** وثباته يوم الوغى أسد الشرى يقظ يكاد يقول عما في عنيد ** ببديهة أغنته أن يتفكرا بعفو عن الدين العظيم تكرما ** ويصدّ عن قول الخفي متكبرا بين الملوك الغابرين وبينه ** في الفضل ما بين الثريا والثرا جالب قلوب أهل العراق بأنواع الإحسان على محبة سلطانه والمتمثل لأوامره الخاقانية في سره وإعلانه المتفضل على العلماء بما يضيق عن نطاق الحصر والمحب للأولياء قدست أسرارهم في المسمى والجهر جابر كسرى والمنعم علي بما لا يؤدى معشار عشر حقه وإن كنت أبا الثناء شكري مولاي علي رضا باشا لا زال له الرضاء غطاء والعلى فراشا، فأرسلها أيده الله تعالى إلى بعض علماء عصره والفضلاء المعول عليهم في مصره ليرى ماذا يجيبون وبم يرجع المرسلون. فرجعوا بعد برهة لرد من ارتكب السبب فعصى برسالتين إحداهما لعمري سيف والأخرى عصا. ثم أمرني بالجواب وتحرير الكلام في ذلك الباب مع ما أنا فيه الاشتغال بالتفسير وضيق وقتي عن منادمة سمير، فلم أر بدا من الامتثال لأمر من أوجب طاعته الملك المتعال متذكرا ما ورد عن النبي المختار ﷺ: «من سئل عن علم فكتمه ألجم بلجام من نار» فشرعت في تأليف هذه العجالة وترصيف هذه الرسالة معتمدا على فيض أكرم مسئول، مرتبا لها على مقدمة وخاتمة وثلاثة فصول. المقدمة في تعريف الصحابي فأقول أما المقدمة ففي تعريف الصحابي: اعلم أن الصحابي في اللغة كما قال شيخ الإسلام القاضي زكريا من صحب غيره ما يطلق عليه اسم الصحبة وإن قلت وهو نسبة إلى الصحابة وهي إحدى المصادر التي جاء فيها فتح التاء وكسرها وعد منها غير قليل أبو محمد بن قتيبة وتكون جمع صاحب وقيدها ابن الأثير بالفتح ثم قال: ولم يجمع فاعل على فعالة إلا هذا، والذي يقتضيه كلام بعض أجلة اللغويين أن الصحابة مصدرا كان أو جمعا يجوز في فائه الفتح والكسرة ولعله المعول عليه والنسبة على تقدير المصدرية من نسبة الشخص إلى من هو منهم وذلك على ما قيل بعد تنزيل الصحابة منزلة أسماء القبائل كتميم وقيس أو الأحياء كقريش وثقيف وإلا فالقياس صاحبي فليفهم. واختلفوا في تعريفه اصطلاحا فذهب الأكثرون ومنهم المحدثون والإمام أحمد وبعض الأصوليين وبعض أصحاب الإمام الشافعي عليه الرحمة إلى أنه من اجتمع بالنبي ﷺ مؤمنا ومات على الإيمان. وبعضهم قال من رأى النبي بدل من اجتمع بالنبي. ويدخل على الأول مثل ابن أم مكتوم ولا يدخل على الثاني إلا بتمحل، لكن يخرج عنه من رآه من بعينه حيث لا يعد ذلك اجتماعا عرفا. وقد عد أئمة الحديث هذا الصنف في الصحابة، ويمكن أن يقال أن عدهم ذلك على سبيل التوسع لشرف منزلة النبي ﷺ. فأعطوا كل من رآه حكم الصحبة كما صرح بذلك أبو المظفر بن السمعاني وأيده كما قال الشمني بما رواه شعبة عن موسى السيلاني قال: أتيت أنس بن مالك فقلت: هل بقي من أصحاب النبي ﷺ غيرك؟ قال: قد بقي ناس من الأعراب قد رأوه وأما من صحبه فلا. انتهى. ففرق بين من له صحبة ومن له رؤية. والظاهر أن المراد من قولهم من اجتمع بالنبي من اجتمع به حال نبوته. ويشهد له أنهم لم يترجموا في الصحابة من ولد له ﷺ قبل النبوة ومات قبلها كالقاسم وترجموا من ولد بعدها كإبراهيم. وعليه يخرج زيد بن عمرو بن نفيل جد سعيد أحد العشرة الذي قال فيه ﷺ إنه يبعث أمة وحده، لأنه اجتمع معه ﷺ قبل النبوة ومات قبل البعثة على الصحيح بخمس سنين على الدين الحنفي. لكن ذكره أبو عبد الله بن منده والبغوي وغيرهما في الصحابة، ولعله مبني على التوسع أيضا. وقد كان يعلم قرب بعثة نبي لكن لم يعلم أنه نبينا محمد بخصوصه. فقد أخرج الفاكهي أنه قال من حديث: وأنا أنتظر نبيا من ولد إسماعيل ثم من ولد عبد المطلب وما أراني أدركه وأنا أؤمن به وأصدقه وأشهد أنه نبي. ومن الغريب نقل الجلال الدواني القول بنبوته وأيده بعضهم بأنه كان يستند إلى الكعبة ثم يقول: هلموا إلي فإنه لم يبق على دين الخليل غيري. وأنت تعلم أن هذا التأييد أضعف من دين ماني. ولم نر نحن هذا النقل عن أحد في الكتب المعول عليها في هذا الباب لغير الجلال والظن فيه حسن. وقولهم مؤمنا حال من فاعل اجتمع، فيخرج من اجتمع به غير مؤمن. وقولهم ومات على الإيمان يخرج من اجتمع به ﷺ مؤمنا ومات -والعياذ بالله تعالى- كافرا كربيعة بن أمية وعبد الله بن جحش وعبد الله بن خطل. ثم ظاهر الكلام أن تخلل الردة لا يضر في إطلاق وصف الصحبة، وهو كذلك عند جمع سواء كان الرجوع إلى الإسلام في حياته ﷺ أم بعد وفاته، لأن أشعث بن قيس ارتد بعد النبي ثم رجع إلى الإسلام بين يدي الصديق الأكبر وزوّجه أخته. ولم يختلف أحد من المحدثين في عده في الصحابة وقال بعض: يشترط عدم تخلل الردة. والمراد من قولهم من اجتمع به ﷺ مؤمنا ومات على الإيمان الاستمرار على الإيمان لا اعتبار الطرفين فقط. وهذا الخلاف على ما قيل ناشئ من الخلاف في أنه هل الردة وحدها تحبط العمل أو هي بشرط الموت عليها. فمن قال بالأول لقوله تعالى: {لئن أشركت ليحبطن عملك} ذهب إلى الثاني، ومن ذهب إلى الثاني لقوله تعالى: {ومن يرتدد منكم عن دينه فيمت وهو كافر فأولئك حبطت أعمالهم} الآية وهي مقيدة للآية المطلقة لا أنها على التوزيع قال بالأول. وقد حققنا ذلك في تفسيرنا روح المعاني. وهل يدخل من اجتمع به ﷺ ميتا قبل أن يدفن كما وقع لأبي ذؤيب الهذلي الشاعر إن صح محل نظر، ورجح الحافظ العسقلاني عدم الدخول. واستشعر بعضهم من التعريف أنه لا بد أن يكون من يطلق عليه الصحابي مميزا عاقلا، فلا يدخل الأطفال الذين حنّكهم ﷺ كعبد الله بن الحارث بن نوفل وغيره. ويمكن أن يقال بدخولهم بناء على أن الاجتماع أعم من أن يكون بالنفس والاختيار أو بالغير والاضطرار، وأن الإيمان أعم من أن يكون حقيقة أو حكما أو تبعا، كذا قيل. وأنت تعلم أنه لا ينبغي تعميم الإيمان بحيث يشمل إيمان المنافقين لأنهم ليسوا بصحابة قطعا ولا عبرة بإيمانهم وإن أجريت عليهم أحكام المؤمنين من الدفن في مقابرهم ونحو ذلك. وذهب جمهور الأصوليين إلى أن الصحابي من طالت صحبته مدة يثبت معها إطلاق الصاحب عليه عرفا بلا تحديد لمقدارها، وقيل: مقدار ستة أشهر، وقال ابن المسيب: مقدار سنة، وإلا فيشترط الغزو. وقيل: لا يعد صحابيا إلا من وصف بأحد أوصاف أربعة: من طالت مجالسته أو حفظت روايته أو ضبط أنه غزى معه ﷺ أو استشهد بين يديه وقيل غير ذلك. والأصح المختار عند المحققين هو الأول فليحفظ. الفصل الأول ففي بيان أن الصحابة عدول وأما الفصل الأول ففي بيان أن الصحابة عدول اعلم أن أهل السنة -إلا من شذ- أجمعوا على أن جميع الصحابة عدول يجب على الأمة تعظيمهم. فقد أخلصوا الأعمال من الرياء نفلا وفرضا واجتهدوا في طاعة مولاهم ليرضى وغضوا أبصارهم عن الشهوات غضا، فإذا أبصرتهم رأيت قلوبا صحيحة وأجساما مرضى وعيونا قد ألفت السهر فما تكاد تطعم غمضا؛ بادروا أعمارهم لعلمهم أنها ساعات تتقضى، ولله تعالى در من قال فيهم شعرا: لله در أناس أخلصوا عملا ** على اليقين ودانوا بالذي أمروا أولاهم نعما فازداد شكرهم ** ثم ابتلاهم فارضوه بما صبروا وفوا له ثم وافوه بما عملوا ** به سيوفهم يوما إذا نشروا ومن ارتكب منهم من يخالف بعض هذه الأوصاف لم يمت إلا وهو أنقى من ليلة الصدر غير مدنس بوصمة ولا مصر على سيئة. قال الخطيب في الكفاية: عدالة الصحابة ثابتة معلومة بتعديل الله تعالى لهم وإخباره عن طهارتهم واختياره لهم. وسرد في ذلك آيات كثيرة وأحاديث شهيرة وتخصيص عموماتها خلاف الأصل ولا دليل عليه وجعل السبب دليلا مما لا يلتفت إليه فقد قالوا: العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، وإلا لبقي كثير من الأحكام الشرعية بلا دليل وأشكل قوله سبحانه: {اليوم أكملت لكم دينكم} كما لا يخفى. ومن سبر الآيات والأخبار والسير والآثار وجد أن الله تعالى قد عدّلهم وأعدّ لهم من الكرامة والزلفى ما أعد لهم، ولا يحتاج أحد منهم مع تعديل الله تعالى إلى تعديل أحد من الخلق. و"إذا جاء نهر الله تعالى بطل نهر معيقل". ولو لم يرد من الله سبحانه ورسوله ﷺ شيء من ذلك لأوجبت الحال التي كانوا عليها من الهجرة والجهاد ونصرتهم الإسلام وبذل المهج والأموال وقتل الآباء والأولاد والمناصحة في الدين وقوة الإيمان واليقين القطعَ بتعديلهم والاعتقاد لنزاهتهم وأنهم أفضل من جميع الخالفين بعدهم والمعدلين الذين يجيئون إثرهم. وهذا مذهب كافة العلماء ممن يعتمد قوله. ثم روى بسنده إلى أبي زرعة الرازي عليه الرحمة أنه قال: «إذا رأيت الرجل ينتقص أحدا من أصحاب رسول الله ﷺ فاعلم أنه زنديق، وذلك أن الرسول حق والقرآن حق وما جاء به حق، وإنما أدى إلينا ذلك كله الصحابة والمنتقصون لهم يريدون أن يجرحوا شهودنا ليبطلوا الكتاب والسنة والجرح بهم أولى» انتهى. وقال المازري في شرح البرهان: في الصحابة عدول وغير عدول ولا نقطع إلا بعدالة الذين لازموه ﷺ ونصروه واتبعوا النور الذي أنزل معه وأما عدالة كل من رآه يوما أو زاره أو اجتمع به لغرض وانصرف فلا نقطع بها بل هي محتملة وجودا وعدما. وإلى نحو هذا ذهب ابن العماد الحنبلي في شذرات الذهب. وتعقبه الشيخ صلاح الدين العلائي بأنه قول غريب يخرج كثيرا من المشهورين بالصحبة والرواية عن الحكم بالعدالة كوائل بن حجر ومالك بن الحوريث وعثمان ابن أبي العاص وغيرهم ممن وفد عليه ولم يقم عنده إلا قليلا وانصرف، وكذلك من لم يُعرف إلا برواية الحديث الواحد ولم يدر مقدار إقامته من أعراب القبائل، وفي ذلك ما فيه. وذهبت الشيعة إلى أن أكثر الصحابة غير عدول؛ بل روى سليم بن قيس الهلالي منهم في كتاب وفات النبي ﷺ عن ابن عباس عن أمير المؤمنين وعن غير واحد عن الصادق: أن الصحابة ارتدوا بعد النبي ﷺ إلا أربعة، وفي رواية عن الصادق: إلا ستة. وسبب ارتدادهم بزعمهم تقديمهم أبا بكر على علي كرم الله تعالى وجهه في الخلافة وعدم عملهم بحديث الغدير الذي هو نص عندهم في خلافة الأمير كرم الله تعالى وجهه بعد رسول الله ﷺ بلا فصل، وثبوته بزعمهم ضروري عند جميع الصحابة من حضر الغدير منهم ومن لم يحضر، والخلافة أخت النبوة ولا فرق بين نافي النبوة عن النبي ﷺ ونافي الخلافة عن علي كرم الله تعالى وجهه في أن كلا منهما كافر، وكذا لا فرق بين الإخلال بشأن النبي والإخلال بشأن الأمير كرم الله تعالى وجهه فإن كلا منهما كفر، وقد جحد الجميع وأخلوا إلا الأربعة أو الستة بشأنه فكفروا، والعياذ بالله تعالى. ولا يخفى أن هذا المذهب في غاية البطلان ونهاية الفساد لأنه يلزم عليه عدم إمكان إثبات مطلب ما من المطالب الدينية، لأن الأدلة عندهم أربعة: كتاب وخبر وإجماع وعقل. وأما الكتاب فنقلته هم الصحابة المرتدون -وحاشاهم- بزعمهم وهم قد حرّفوه وأسقطوا كثيرا من آياته وسوره وغيروا ترتيبه وفعلوا فيه ما فعلوا، والقرآن الحق غير موجود في أيدي الناس وإنما الموجود في أيديهم المصحف المحرف الذي هو أشد تحريفا من التوراة والإنجيل ونقلته أسوء حالا من نقلتهما. فقد روى الكليني عن سالم بن مسيلمة قال: قرء رجل على أبي عبد الله وأنا أسمعه حروفا من القرآن ليس ما يقرؤه الناس فقال أبو عبد الله: مه اكفف عن هذه القراءة واقرأ كما يقرأ الناس حتى يقوم القائم فإذا قام القائم فاقرأ كتاب الله تعالى على حده. وفي كتاب الكافي للكليني وغيره أمثال هذه الرواية. وحينئذ يجوز أن تكون الأحكام المذكورة في هذا القرآن منسوخة أو مخصصة بما أسقط منه أو بعضها منسوخا وبعضها مخصصا ويجوز أن يكون كل منها مبدلا مغيرا بما يخالفه. وأما الخبر فحاله عندهم أشهر من نار على علم وهو أيضا لا بد له من ناقل، فهو إما من الشيعة أو من غيرهم، ولا اعتبار لغيرهم عندهم أصلا لأن منتهى وسائطهم في رواياتهم المرتدون المحرفون لكتاب الله تعالى المعادون المعاندون للأمير كرم الله تعالى وجهه وسائر أهل بيته. وأما الشيعة فيقال لهم: كون الخبر حجة إما لأنه قول المعصوم أو وصل بواسطة المعصوم الآخر وعصمة أحد بعينه لا تثبت إلا بخبر لأن الكتاب ساكت عن ذلك وهذا لا يصح التمسك به والعقل عاجز، والمعجزة على تقدير الصدور أيضا موقوفة على الخبر لأن مشاهدة التحدي ورؤية المعجزة لم تتيسر للكل، والإجماع إنما يكون أيضا حجة بدخول المعصوم، مع أن في نقل إجماع الغائبين لا بد من الخبر وفي إثبات عصمة رجل بعينه بخبره أو يخبر المعصوم الآخر الذي وصل الخبر بواسطته دور صريح. وأيضا كون الخبر حجة متوقف على نبوة نبي أو إمامة إمام وإذا لم يثبت بعد أصله كيف يثبت هو. والتواتر ساقط من حين الاعتبار عندهم لأن كتمان الحق والزور في الدين قد وقع من نحو مائة ألف وأربعة وعشرين ألفا. وخبر الآحاد غير معتبر في هذه المطالب بالإجماع. وأما الإجماع فبطلانه أظهر لأن ثبوته فرع ثبوت الشرع وإذا لم يثبت الأصل لا يثبت الفرع. وأيضا كون الإجماع حجة عندهم ليس بالأصالة بل لكون قول المعصوم في ضمنه. فالمدار على قول المعصوم، وثبوت المعصوم قد علم حاله. وأيضا دخول المعصوم في الإجماع لا يثبت إلا بخبر وقد مر آنفا ما فيه. وأما العقل فالتمسك به إما في الشرعيات أو في غيرها. أما في الشرعيات فيرجع الأمر إلى القياس وهم لا يقولون بحجيته. وأما في غيرها فيتوقف على تجريده من شوائب الوهم والألف والعادة والاحتراز عن الخطأ في الترتيب ونحوه، والعلم بخلوصه مما يخل يتوقف على مرتبة معصوم كنبي وإمام يحكم بذلك، ولا يمكن أن يكون الحاكم العقل إذ يعود الكلام في خلوص حكمه عما ذكر ويلزم ما يلزم، على أن الكلام في الأمور الدينية لا غير والعقل الصرف عاجز عن معرفتها تفصيلا. نعم يمكن العقل ذلك إذا كان مستمدا من الشريعة كأن يكون أصل الحكم مأخوذا من الشارع فحينئذ يقاس عليه. ولما كان القياس باطل عند هذه الفرقة تعذرت تلك المعرفة وبطل حكم العقل. وقد يقال إنهم لو التزموا صحة القياس لا يجديهم نفعا لأنه يبقى الكلام في طريق ثبوت الحكم في الأصل المقيس عليه، وقد انسد عليهم كل طريق كما لا يخفى. والحاصل أن القول بارتداد كل الصحابة بعد وفاة رسول الله ﷺ إلا أربعة أو ستة مع ما ورد فيهم وعنهم ولهم مما لا يقدم عليه أحد ممن يؤمن بالله تعالى ورسوله ﷺ واليوم الآخر. ولظهور شناعة هذا القول وبطلانه عدل عنه بعض الشيعة زاعما ارتداد كبار الصحابة وعلمائهم فقط كأبي بكر الصديق وعمر الفاروق وأما العوام منهم فهم معذورون في اتباعهم باقون على إيمانهم، بل إن من العلماء من هو معذور أيضا لكونه مستضعفا في الأرض لا يقدر على شيء ولكن بشرط إنكاره في قلبه ما فعله القوم وكراهته لهم وموالاته للأمير كرم الله وجهه. ولا يخفى أنه من البطلان بمكان أيضا لما فيه من تكذيب الآيات الدالة على أنهم أفضل المؤمنين وأنه سبحانه قد رضي عنهم وهم قد رضوا عنه، ومنزلة الرضا غاية قصد العابدين. وحديث الغدير كما أوضحناه في التفسير لا يدل على الخلافة على الوجه الذي يزعمه الشيعة أصلا، وإلا لزم الطعن بالأمير كرم الله وجهه بترك الانتهاض لطلب حقه كما انتهض له حين انتهت النوبة إليه عندنا بعد وفاة عثمان . والتقية التي يزعمونها مما لا وجه لارتكابها أولا وتركها أخيرا. ودعوى أنه أمر بالأمرين حسبما وقعا مما لا دليل عليها. والشيعة بيت الكذب. وقد أبطلنا القول بالتقية في روح المعاني وفي النفحات القدسية بما لا مزيد عليه. ومن الناس من قال: على فرض دلالة ذلك الخبر على الخلافة إنا لا نسلم كفر من ارتكب خلافه، غاية ما في الباب كونه مرتكب الكبيرة ومرتكب الكبيرة ليس بكافر إلا عند الخوارج. وأنت تعلم أن الشيعة بنوا القول بالكفر على أن الخلافة أخت النبوة فالإخلال بأمرها كالإخلال بأمر النبوة، فحيث كان الإخلال بأمر النبوة كفرا كان الإخلال بأمرها كذلك، وذلك غير مسلم ودون إثباتها خرط القتاد. والحق الحقيق بالقبول أن القوم لم يرتكبوا في ذلك مكروها فضلا عن حرام فضلا عن كبيرة. ويشهد لذلك حسن معاملة الأمير كرم الله وجهه للخليفتين الأولين والامتثال لأمرهما والنصح لهما والأدب معهما في حياتهما وبعد موتهما. فقد روى الإمام المؤيد بالله يحيى بن حمزة الشيعي في آخر كتاب طوق الحمامة في مباحث الإمامة عن سويد بن غفلة أنه قال: مررت بقوم ينتقصون أبا بكر وعمر فأخبرت عليا كرم الله تعالى وجهه وقلت: لولا أنهم يرون أنك تضمر ما أعلنوا ما اجترءوا على ذلك، فقال: نعوذ بالله سبحانه من ذلك رحمهما الله تعالى، ثم نهض وأخذ بيدي وأدخلني المسجد فصعد المنبر ثم قبض على لحيته فجعلت دموعه تتحدر عليها وجعل ينظر للبقاع حتى اجتمع الناس ثم خطب فقال: «ما بال أقوام يذكرون أخوي رسول الله ﷺ ووزيريه وصاحبيه وسيدي قريش وأبوي المسلمين، وأنا برئ مما يذكرون وعليه معاقب، صحبا رسول الله ﷺ بالوفاء والجد في أمر الله تعالى، يأمران وينهيان ويعاقبان، لا يرى رسول الله ﷺ كرأيهما رأيا ولا يحب كحبهما حبا لما يرى من عزمهما في الله عز وجل، فقبض وهو عنهما راض والمسلمون راضون، فما تجاوزا في أمرهما وسيرتهما رأي رسول الله ﷺ وأمره في حياته وبعد موته فقبضا على ذلك رحمهما الله تعالى، فوالله الذي فلق الحبة وبرأ النسمة لا يحبهما إلا مؤمن فاضل ولا يبغضهما إلا شقي مارق وحبهما قرب وبغضهما مرد» إلى آخر الحديث وفي رواية: «لعن الله تعالى من أضمر لهما إلا الحسن الجميل» فانظر وفقك الله تعالى هذا المدح العظيم من الأمير كرم الله وجهه على منبر الكوفة ومقر الخلافة الذي يجعل احتمال التقية كرماد اشتدت به الريح، هل يبقى معه القول بارتدادهما -والعياذ بالله تعالى- وارتداد أتباعهما. سبحانك هذا بهتان عظيم. وفي نهج البلاغة وهو من أصح الكتب عند الشيعة أن عليا كرم الله وجهه قال: «لله تعالى بلاء أبي بكر، لقد قوم الأود وداوى العلل وأقام السنة، ذهب نقي الثوب أصاب خيرها وأبقى شرها، أدى لله تعالى طاعته واتقاه بحقه، رحل وتركهم في طرق متشعبة لا يهتدى فيها الضال ولا يستيقن المهتدي» وقد حذف مؤلفه حفظا لمذهبه "أبا بكر" وأثبت بدله لفظ "فلان" وتأبى الأوصاف إلا أبا بكر. ولهذا الإبهام اختلف الشراح فقال بعضهم: هو هو، وقال آخرون: هو عمر . وأيا ما كان فهو مما يُلقم الشيعة الحجر. وغاية ما أجابوا عنه أن ذلك كله لاستجلاب قلوب الناس فإنهم كانوا يميلون إلى الشيخين غاية الميل. ولا يخفى على المنصف أن فيه نسبته الكذب إلى المعصوم كرم الله تعالى وجهه لغرض دنيوي مظنون الحصول، بل كان اليأس منه حاصلا وفيه تضييع غرض الدين بالمرة. وحاشا ثم حاشا الأمير من ذلك. وفي الصحيح أن «مدح الفاسق غضب الرب» فما ظنك بالكافر. وأيضا أية ضرورة تلجيه إلى هذه التأكيدات والمبالغات، والاستجلاب الذي زعمه الشيعة يحصل بدونها والعبارات شتى وهو من أفصح الناس. وأيضا في هذا المدح تضليل الأمة وترويج الباطل وذلك محال من الإمام، بل الواجب عليه بيان حقيقة الحال لمن بين يديه بموجب ما صح: «اذكروا الفاسق بما فيه يحذره الناس» وأجاب بعض الإمامية بأن المراد من فلان رجل من الصحابة مات على عهد رسول الله ﷺ واختار هذا الراوندي، وهو مما يقضى منه العجب فهل كان يمكن لغيره في زمنه الشريف تقويم الأود ومداواة العلل وإقامة السنة، وهل يعقل أن رجلا مات على عهد رسول الله ﷺ وترك الناس فيما ترك ورسول الله ﷺ قائم يصدع بالحق ويهدي إلى صراط مستقيم. هذا لعمري الخرق العظيم والخطب الجسيم. وأجاب بعض آخر منهم بأن الغرض من هذا الكلام مجرد التعريض بذم عثمان وهو أيضا مما يتعجب منه لأن التعريض كان ممكنا بدون ارتكاب هذا الأسلوب. وأيضا ما الداعي للتعريض دون التصريح وهو في الكوفة بين شيعته وأنصاره. وجاء أيضا في النهج عن الأمير كرم الله وجهه في وصف الصحابة مطلقا: «كانوا إذا ذكر الله تعالى همت أعينهم حتى تبل ثيابهم وماروا كما يميد الشجر يوم الريح العاصف خوفا من العقاب ورجاء للثواب» والأخبار في ذلك من طرق الشيعة عن الأمير كرم الله تعالى وجهه كثيرة، ومن طريق الجماعة أكثر، ولو آمنوا بها من هذا الطريق لذكرناها. وجاء مدح أبي بكر عن الأئمة ففي كتاب كشف الغمة في معرفة الأئمة لعلي بن عيسى الأردبيلي الإمامي أنه سئل الإمام جعفر الصادق عن حلية السيف هل تجوز؟ فقال: «نعم قد حلّى أبو بكر الصديق سيفه بالفضة» فقال السائل: أتقول هكذا؟ فوثب الإمام عن مكانه فقال: «نعم الصديق نعم الصديق نعم الصديق -ثلاثا- فمن لم يقل له الصديق فلا صدق الله تعالى قوله في الدنيا وفي الآخرة» وفي ذلك من المدح ما لا يخفى، فإن مرتبة الصديقية بعد مرتبة النبوة كما أشبعنا الكلام عليه في التفسير، ولا أقل من كونها صفة مدح فوق العدل. فكيف يتأتى احتمال الكفر مع ذلك. وغاية ما أجابوا عما ذكر ونحوه أنه تقية، وهي كعكازه الأعمى عندهم. وقد أبطلنا القول بها في غير موضع من كتبنا كما أشرنا إليه سابقا. على أن الظاهر كون السائل شيعيا فلا معنى للتقية منه، واحتمال حضور سني مما لا يلتفت إليه. وإذا ثبت بهذه الأخبار كون الصديق أهلا للمدح ومحلا للثناء وهو الخليفة الأول ثبت أن أمر الخلافة ليس كما يزعمه الشيعة وأن الذين بايعوه وعزروه لم يرتدوا بذلك، وإلا لكان هو الأحق بنسبة الارتداد إليه وحاشاه ولكان حريا بالذم الشنيع من المعصوم بدل ذلك المدح الجليل والثناء الجزيل. وزعم بعض الشيعة أن مما يوجب الكفر أيضا قتال الأمير كرم الله وجهه وإيجابه ذلك من فروع جعل الخلافة أخت النبوة وهو أظهر من إيجاب مجرد مبايعة غيره على الخلافة لكفر. فأهل وقعة الجمل ووقعة صفين كلهم كفار عندهم الصحابة وغيرهم في ذلك سواء. وسيأتي استدلالهم على ذلك مع رده في الفصل الثاني إن شاء الله تعالى. واستدل بعض علمائهم على ارتداد الصحابة بعد رسول الله ﷺ بما روى عن أنس بن مالك وحذيفة بن اليمان مرفوعا: «ليردن علي إناس من أصحابي الحوض حتى إذا رأيتهم وعرفتهم اختلجوا دوني فأقول يا رب أصحابي أصحابي فيقال لي إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك» وفي رواية «فأقول سحقا سحقا» والجواب عنه أولا بأنا لا نسلم أن المراد بأصحابي الصحابة بالمعنى المتقدم في المقدمة بل المراد بهم مطلق المؤمنين به ﷺ المتبعين له، وهذا كما يقال لمقلدي أبي حنيفة ـ رحمه الله ـ أصحاب أبي حنيفة ولمقلدي الشافعي وهكذا وإن لم يكن هناك رؤية واجتماع، وكما يقول الرجل للماضين الموافقين له في المذهب أصحابنا مع أن بينه وبينهم عدة من السنين، وعبارات الفقهاء ملئ من ذلك كما لا يخفى على المتتبع. وأيده بعضهم أنه وقع في بعض الروايات: «أمتي ولم أره» وعلى هذا فالمراد من هؤلاء الأناس عصاة من المؤمنين، ومعرفته ﷺ أنهم من أمته من إمارات تلوح عليهم. فقد جاء في الخبر أن طائعيهم يمتازون على طائعي غيرهم. وجذبهم وردهم عن الحوض كان تأديبا لهم وعقابا على معاصيهم، ويلحق بذلك دعاؤه ﷺ بقوله: «سحقا سحقا» وسجله بعضهم من قبيل قوله لصفية : «عقرى حلقى» وليس بشي. وثانيا فإذا سلمنا أن المراد بالأصحاب الصحابة بالمعنى السابق إلا أن المراد من أولئك الأناس الذين يختلجون ويؤخذون قهرا ويردون عن ورود الحوض الذين ارتدوا من الأعراب على عهد الصديق وقوله ﷺ فيهم «أصحابي» لظن أنهم لم يرتدوا كما يؤذن عندما قيل في جوابه من أنك لا تدري ما أحدثوا بعدك. وهذا الجواب أولى من الجواب المنفي كما لا يخفى. ولا يفيد ذلك الشيعة شيئا لأنا لا ننكر ارتداد أحد الصحابة وإنما ننكر ارتداد الخلفاء الثلاث ومن تابعهم وارتداد من حضر وقعتي الجمل وصفين منهم كما هو زعم الشيعة، والحديث لا يدل على ذلك أصلا. فإن قلت إن إناسا في الحديث كما لا يحتمل أن يراد منه من ذكرت من مرتدي الأعراب يحتمل أن يراد منه ما زعمته الشيعة فما الدليل على ما أردت؟ أجيب بأن ما جاء عن الله سبحانه والنبي ﷺ من مدحهم والثناء عليهم وكذا ما جاء عن الأئمة المعصومين عند الشيعة مما علمت ومما ستعلم إن شاء الله تعالى مانع من إرادة ما زعمته الشيعة، وحينئذ يتعين ما أردناه من ذلك حذرا من إلغاء الحديث، وزعم بعض منا أن المراد بأولئك الأناس المنافقون وفيه أنه ﷺ لم يمت حتى علم حالهم وأنهم في الدرك الأسفل من النار فكيف يقول «أصحابي أصحابي» فتأمل. واستشكل القول بعدالة جميع الصحابة بأن الله تعالى حكم بفسق البعض في قوله سبحانه: {يا أيها الذين آمنوا إن جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا} الآية فإن جمهور المفسرين بل كلهم كما قال ابن عبد البر على أنها نزلت في الوليد بن عقبة أخي عثمان حين بعثه ﷺ مصدقا إلى بني المصطلق وكان بينه وبينهم إحنة فلما سمعوا به استقبلوه فحسب أنهم مقاتلوه، فرجع وقال لرسول الله ﷺ إنهم قد ارتدوا ومنعوا الزكاة فهمّ بقتالهم فجاؤا معتذرين ونزلت الآية، فسماه الله تعالى فاسقا وقد عده أئمة الحديث من الصحابة وجعله الحافظ العسقلاني ـ عليه الرحمة ـ في القسم الأول من الأقسام الأربعة. على أن قصة صلاته بعد رسول الله ﷺ بالناس الصبح أربعا وهو سكران مشهودة وفي كتب الأخبار مذكورة، وقصة جلد عمر له بعد أن ثبت عليه شرب الخمر مخرجة في الصحيحين وهما أصح الكتب بعد كتاب الله تعالى، وذلك ينافي العدالة قطعا. وأجيب بأنه ليس مرادنا من كون الصحابة جميعهم عدولا أنهم لم يصدر عن أحد منهم مفسق أصلا ولا ارتكب ذنبا قط فإن دون إثبات ذلك خرط القتاد، فقد كانت تصدر منهم الهفوات ويرتكبون ما يُحدّون عليه، وإنكار ذلك مكابرة صرفة وعناد محض وجهل بموارد الآيات والأحاديث؛ بل مرادنا أنهم لم ينتقلوا من هذه العار إلى دار القرار إلا وهم طاهرون مطهرون تائبون آيبون ببركة صحبتهم للنبي ﷺ ونصرتهم إياه وبذل أنفسهم وأموالهم في محبته وتعظيمهم له أشد التعظيم سرا وعلانية، كما يدل على ذلك الكتاب وتشهد له الآثار. ومما يفصح عن تعظيمهم له ما رواه الموافق والمخالف أن عروة بن مسعود لما أتى النبي ﷺ في قضية الحديبية وكلمه ثم رجع إلى الصحابة قال لهم: أي قوم والله هؤلاء ولقد وفدت على الملوك ووفدت على قيصر وكسرى والنجاشي والله إن رأيت ملكا يعظمه أصحابه ما يعظم أصحاب محمد محمدا ﷺ، إن تنخم نخامة إلا وقعت في كف رجل منهم فدلك بها وجهه وجلده، وإذا أمرهم بأمر ابتدروا أمره، وإذا توضأ كادوا يقتتلون على وضوئه، وإذا تكلم خفضوا أصواتهم عنده وما يحدون إليه النظر تعظيما. إلى آخر ما قال. ولا يرد على هذا المنافقون لأنهم بمعزل عن الاتصاف بذلك، ولا يعلم ارتداد متصف بما ذكره وموته على الردة ليقال هلا رجع إلى الإيمان ببركة ذلك. وإن سلمنا وجود مرتد كان متصفا بما ذكر وقد مات على الردة فهو أعز من بيض الأنوق. وقد يستشهد لما قلنا بقوله تعالى بعد تلك الآية: {واعلموا أن فيكم رسول الله لو يطيعكم في كثير من الأمر لعنتم ولكن الله حبب إليكم الإيمان وزينه في قلوبكم وكره إليكم الكفر والفسوق والعصيان أولئك هم الراشدون فضلا من الله ونعمة والله عليم حكيم} فإن الله تعالى قد أخبر في هذه الآية أنه سبحانه حبب إلى هؤلاء المؤمنين الذين لو أطاعهم رسول الله ﷺ في كثير من الأمر لفشلوا ووقعوا في المشقة والإثم الإيمانَ وزينه في قلوبهم وكره إليهم الكفر والفسوق والعصيان. ومن أخبر سبحانه عنه بذلك لا يكاد يموت إلا طاهرا راشدا. ويدخل في هؤلاء المخاطبين الوليد بلا ريب لأن العنت كان ظاهرا على تقدير إطاعته والعمل بموجب ما أخبر به كما لا يخفى. وكذا بقوله عز وجل: {هو الذي يصلي عليكم وملائكته ليخرجكم من الظلمات إلى النور} وقوله سبحانه: {فأنزل الله سكينته على رسوله وعلى المؤمنين وألزمهم كلمة التقوى وكانوا أحق بها وأهلها} وقوله جل وعلى: {محمد رسول الله والذين معه أشداء على الكفار رحماء بينهم تراهم ركعا سجدا يبتغون فضلا من الله ورضوانا} الآية فإن فيها التعبير بالمضارع المفيد للاستمرار التجددي كما قيل بمعونة المقام واستمرار الابتغاء الذي هو من أفعال القلب مما يقضي بعدم إصرارهم على الذنب إن صدر منهم. كذا قرره بعضهم وللنظر فيه مجال. واستشكل القول بالعدالة أيضا بأن كثيرا من الصحابة فر من الزحف في غزوتي أحد وحنين والفرار من الزحف من أكبر الكبائر. وبأن الكثير منهم انفض عن رسول الله ﷺ حين أقبلت العير من الشام يوم الجمعة كما قص الله تعالى ذلك بقوله: {وإذا رأوا تجارة أو لهوا انفضوا إليها وتركوك قائما} الآية. وقد أخرج هذا مخرج الذم فلا أقل من أن يكون مفسقا. وبأن النبي ﷺ طلب في مرض موته دواة وقرطاسا ليكتب لهم كتابا لن يضلوا بعده فأبوا أن يأتوه بذلك حتى قال عمر عنه ما قال وكثر اللغط فقال رسول الله ﷺ: «اخرجوا عني» فقد خالفوا أمره والله تعالى يقول: {وأطيعوا الله والرسول} الآية. وبأن مسلما روى في صحيحه عن عبد الله بن عمرو بن العاص أنه قال: أن رسول الله ﷺ قال: «إذا فتحت عليكم خزائن فارس والروم أي قوم أنتم» فقال عبد الرحمن بن عوف: كما أمرنا الله تعالى، فقال رسول الله ﷺ: «كلا بل تتنافسون ثم تتدابرون ثم تتباغضون ثم تنطلقون إلى مساكن المهاجرين فتحملون بعضهم على رقاب بعض» فإن هذا صريح في وقوع التنافس والتدابر والتباغض فيما بين الصحابة وذلك ينافي العدالة. وأجيب عن الأول بأن الفرار يوم أحد كان قبل النهي، ولئن قلنا كان بعده فهو معفو عنه بدليل قوله تعالى: {ولقد عفا الله عنهم إن الله غفور حليم} وأما الفرار يوم حنين فبعد تسليم أنه كان فرارا في الحقيقة معاتبا عليه لم يصر عليه المخلصون بل انقلبوا وظفروا بدليل قوله سبحانه: {ثم أنزل الله سكينته على رسوله وعلى المؤمنين وأنزل جنودا لم تروها وعذب الذين كفروا وذلك جزاء الكافرين} وعن الثاني بأن تلك القصة إنما كانت في أول زمان الهجرة قبل التأدب بآداب الشريعة، فما وقع حينئذ كانوا معذورين فيه، ولهذا لم يتوعد عليه ولم يعاتبهم رسول الله ﷺ والآية خارجة مخرج العتاب بطريق الوعظ والنصيحة. على أنه قد أعقب ذلك الفعل أنواع من الطاعات والاستغفار وأن الحسنات يذهبن السيئات. وعن الثالث بأن الأمر منه لم يكن إلا من باب الاستحباب وهو أمر إرشاد وإصلاح ولم يكن لأمر ضروري وإلا لفعله ﷺ بعد مع خاصة أهل بيته كالأمير كرم الله وجهه فإنه بقي حيا بعد ذلك خمسة أيام. ويؤيد ذلك كما قال غير واحد قوله سبحانه: {اليوم أكملت لكم دينكم} وهو ظاهر. والتخلف عن الامتثال كان ناشئا عن محض المحبة والوداد دون الشقاق والعناد لما رأوا من شدة مرضه ومثل هذه المخالفة لا تعد فسقا وإلا لزم فسق جميع الحاضرين ومنهم علي كرم الله وجهه ولا قائل به بالإجماع. وقد وقع للأمير بخصوصه مثل هذه المخالفة عام الحديبية فإنه كتب في كتاب الصلح: هذا ما عاهد عليه محمد رسول الله تعالى، فلم يرض المشركون بهذا العنوان وقالوا: لو كنا نعلم أنه رسول الله ما حاربناه، فأمره أن يمحو ذلك وبالغ فيه فلم يفعل، حتى محاه بيده الشريفة. بل وقع منه كرم الله وجهه ما يرى أشد من ذلك؛ فقد صح من طرق متعددة: أن النبي ﷺ ذهب إلى بيت الأمير والبتول ليلة وأيقظهما لصلاة التهجد وأمرهما بها فقال الأمير: والله لا نصلي إلا ما كتب الله لنا وإنما أنفسنا بيد الله لو وفقنا لصلينا، فرجع وهو يضرب فخذيه ويقول: «وكان الإنسان أكثر شيء جدلا» وقد رواه البخاري أيضا في صحيحه. وأمره ﷺ بالخروج لمن في الحجرة لم يكن إلا لما هو فيه من المرض. وكلام عمر لم يكن إلا لغلبة الحال عليه الناشئة من كلام المحبة. وقد بسطنا الكلام على ذلك في كتابنا النفحات القدسية في رد الإمامية. وعن الرابع بأن الخطاب وإن كان للصحابة لكن باعتبار وقوع ذلك فيما بينهم وهو لا يستدعي أن يكون منهم. ويدل على ذلك أن الصحابة إما مهاجرون أو أنصار، والحديث صريح في أن أولئك الفرقة ليسوا مهاجرين، والواقع ينفي كونهم من الأنصار لأنهم ما حملوا المهاجرين على التحارب؛ فتعين أنهم من التابعين. وقد وقع ذلك منهم فإنهم حملوا المهاجرين على التحارب بينهم كمالك بن الأشتر وإضرابه ولا كلام لنا فيهم. واستشكل أيضا بغير ذلك وأجيب بما أجيب. وأجاب بعضهم عن جميع ذلك بأنا لم ندع العصمة في الصحابة وإنما ادعينا العدالة فيهم، ومجرد وقوع ما يخل بها في وقت من أحدهم لا يستدعي سلبها عنه دائما. وكثرة الآيات والأخبار والآثار الواردة في مدحهم الناطقة بوفور ما أعد الله تعالى تقتضي أنهم لم يذهبوا إلى ربهم إلا وهم طاهرون مطهرون فلا ينبغي الخوض فيهم والطعن فيهم {والذين جاءوا من بعدهم يقولون ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان ولا تجعل في قلوبنا غلا للذين آمنوا ربنا إنك رءوف رحيم} وهو في معنى جواب الذي ذكرناه فيما تقدم عن الوليد . وزعم بعضهم -لاضطراب الأدلة عليه- أنه فيهم عدولا وغير عدول وفصّل ذلك بأنهم قسمان القسم الأول من مات قبل الفتنة والقسم الثاني من مات بعدها، فمن تحقق ارتكابه لمفسق من القسم الأول ولم تتحقق توبته عنه -وقليل ما هم- حكم بفسقه، ومن لم يتحقق منه ذلك بأن تحقق منه الصلاح والمآثر الحسان أو كان مستور الحال حكم بعدالته، ومن خالط الفتنة ولم ينصر الإمام الحق فإن كان عن اجتهاد وكان من أهله فهو عدل وإن كان مخطئا في الواقع، وكذا حكم من اعتزل الفئتين كابن عمر ومن خالط ولم ينصر الإمام ولم يكن ذلك عن اجتهاد بل لمحض اتباع الهوى وحب الرياسة فهو فاسق إلى أن تحقق توبته. وأما المقلدون فإن كانوا قد قلدوا الباغي مع العلم بما ورد في حق الأمير كرم الله تعالى وجهه فهم فسقة أيضا. وإن كانوا قد قلدوا مع الجهل فيقرب بالقول بأنهم عدول معذورون انتهى. وأنت تعلم أن هذا القول خلاف المعول عليه عند أهل السنة فقد قال الإمام النووي في شرح صحيح مسلم في الصحابة الذين أدركوا الفتنة إنه اتفق أهل الحق ومن يعتد به في الإجماع على قبول شهاداتهم ورواياتهم وكمال عدالتهم وأنهم معذورون فيما صدر منهم وما صدر إلا عن اجتهاد. ويعلم من ذلك حكم من لم يدرك الفتنة كما لا يخفى وأنا لا أجزم بأن جميع ما صدر إنما صدر عن اجتهاد ولا اعتقد أن جميع الصحابة بالمعنى السابق الشامل لمن اجتمع معه ﷺ ساعة مجتهدون ومع هذا أقول: لا ينبغي الخوض في أحد منهم والقول بعدم عدالته فإن الخطر في ذلك عظيم وقد قال الله سبحانه: {ولا تقف ما ليس لك به علم} ولا ينبغي لمن يعرف نفسه أن يكون دون نملة سليمان ـ عليه السلام ـ في الأدب مع أصحاب نبيه ﷺ، ألا تسمع قولها لأخواتها: {يا أيها النمل ادخلوا مساكنكم لا يحطمنكم سليمان وجنوده وهم لا يشعرون} فقيدت بقولها {وهم لا يشعرون} حذارا من توهم نسبته هذا الفعل إليهم عالمين، وذلك غاية الأدب. والله تعالى الهادي إلى سواء السبيل. الفصل الثاني فيما شجر بين الصحابة وأما الفصل الثاني ففيما شجر بين الصحابة وتلخيص الكلام فيه وبيان حكم الطائفتين وهو كالتتمة للفصل الذي قبله اعلم أن أعظم ما تداولته الألسن من الاختلاف الواقع بين الصحابة الكرام ما وقع زمن خلافة الأمير كرم الله تعالى وجهه فنشأ منه وقعتان عظيمتان وقعة الجمل ووقعة صفين. والأصل الأصيل لذلك قتل عثمان . وأنكر الهشامية تلك الوقعتين، وإنكار ذلك مكابرة لا يلقى لها سمعا لأن الخبر متواتر في جميع مراتبه. وقعة الجمل وتلخيص الأولى أنه لما قتل عثمان صبرا توجع المسلمون فسار طلحة والزبير وعائشة -وكان قد لقيها الخبر وهي مقبلة من عمرتها- نحو البصرة فلما علم علي كرم الله وجهه بمخرجهم واعترضهم من المدينة لئلا يحدث ما يشق عصا الإسلام ففاتوه وأرسل ابنه الحسن وعمار يستنفران أهل المدينة وأهل الكوفة، ولما قدموا البصرة استعانوا بأهلها وبيت مالها حتى إذا جاءهم الإمام كرم الله وجهه حاول صلحهم واجتماع الكلمة وسعى الساعون بذلك فثار الأشرار ومنهم قتلة عثمان بالتحريش ورموا بنار الفتنة، فحمي الوطيس وقامت الحرب على ساق وكان ما كان، وانتصر علي كرم الله وجهه وكان قتالهم من ارتفاع النهار يوم الخميس إلى صلاة العصر لعشر خلون من جمادى الآخرة. ولما ظهر علي جاء إلى أم المؤمنين فقال: غفر الله لك، قالت: ولك، ما أردت إلا الإصلاح. ثم أنزلها دار عبد الله بن خليل وهي أعظم دار في البصرة على صفية بنت الحارث أم طلحة الطلحات، وزارها بعد ثلاث ورحبت به وبايعته وجلس عندها، فقال رجل: يا أمير المؤمنين إن بالباب رجلين ينالان من عائشة، فأمر القعقاع بن عمر أن يجلد كل واحد منهما مائة جلدة وأن يجردهما من ثيابهما ففعل. ولما أرادت الخروج من البصرة بعث إليها بكل ما ينبغي من مركب وزاد ومتاع، وأذن لمن نجا من الجيش أن يرجع إلا أن يحب المقام وأرسل معها أربعين امرأة وسير معها أخاها محمدا. ولما كان اليوم الذي ارتحلت فيه جاء علي كرم الله وجهه فوقف على الباب وخرجت من الدار في الهودج فودعت الناس ودعت لهم وقالت: يا بني لا يغتب بعضكم بعضا إنه والله ما كان بيني وبين علي في القديم إلا ما يكون بين المرأة وأحمائها وإنه لمن الأخيار. فقال علي كرم الله وجهه: أنت والله ما كان بيني وبينها إلا ذلك وإنها زوجة نبيكم ﷺ في الدنيا والآخرة. وسار معهما مودعا أميالا وسرح بنيه معها بقية ذلك اليوم. وكانت بعد ذلك إذا ذكرت ما وقع منها تبكي حتى تبل خمارها. ففي هذه المعاملة من الأمير كرم الله وجهه دليل على خلاف ما يزعمه الشيعة من كفرها، وحاشاها وفي ندمها وبكاها على ما كان دليل على أنها لم تذهب إلى ربها إلا وهي نقية من غبار تلك المعركة. على أن في كلامها ما يدل على أنها كانت حسنة النية في ذلك. وقال غير واحد: إنها اجتهدت ففعلت لكنها أخطأت في اجتهادها، ولا أثم على المجتهد المخطئ بل له أجر على اجتهاده وكونها من أهل الاجتهاد مما لا ريب فيه. وآية {وقرن في بيوتكن} إلخ خطابا لنساء النبي ﷺ لا تأبى ذلك إذ ليس المراد منها إلا تأكيد أمر التستر والحجاب وإلا لما أخرجهن ﷺ بعد نزول الآية للحج والعمرة مثلا، ولما جاز خروجهن لذلك ولا لعيادة المرضى والأقارب. والسفر لا ينافي التستر والحجاب كما لا يخفى على ذوي الألباب. نعم قالت الشيعة إنه يبطل اجتهادها أنه ﷺ قال يوما لأزواجه: «كأني بإحداكن تنبحها كلاب الحؤب فإياك أن تكوني يا حميراء» الحوءب -كجعفر- منزل بين البصرة ومكة، وقد نزلته عائشة ونبحتها كلابه فتذكرت الحديث، وهو صريح في النهي ولم ترجع. والجواب عن ذلك أن الثابت عندنا أنها لما علمت ذلك وتحققته من محمد بن طلحة همّت بالرجوع إلا أنها لم توافق عليه، ومع هذا شهد لها مروان بن الحكم مع ثمانين رجلا من دهاقين تلك الناحية أن هذا المكان مكان آخر وليس بحؤب، على أن "إياك أن تكوني يا حميراء" ليس موجودا في الكتب المعول عليها فيما بين أهل السنة، فليس في الخبر نهي صريح ينافي الاجتهاد. على أنه لو كان لا يرد محذور أيضا لأنها اجتهدت فسارت حين لم تعلم أن في طريقها هذا المكان، وحيث علمت لم يمكنها الرجوع لعدم الموافقة عليه، وليس في الحديث بعد هذا النهي أمر بشيء لتفعله، فلا جرم مرت على ما قصدته من أصلاح ذات البين المأمورة به بلا شبهة. وقد شُبه حالها في ذلك بحال شخص رأى من بعيد طفلا يريد أن يقع في بئر فسعى ليمنعه من ذلك فمر بلا شعور بين يدي مصل فإنه يذهب لما قصد لأنه لو رجع لم يحصل له تلافي ما وقع وفاتَه تخليص الطفل المأمور به. وأما طلحة والزبير فلم يموتا إلا على بيعة الإمام كرم الله تعالى وجهه أما طلحة فقد روى الحاكم عن ثور بن مجزأة أنه قال: «مررت بطلحة يوم الجمل في آخر رمق فقال لي: من أنت؟ قلت: من أصحاب أمير المؤمنين علي فقال: ابسط يدك أبايعك، فبسطت يدي فبايعني وقال: هذه بيعة علي، وفاضت نفسه. فأتيت عليا فأخبرته فقال: الله أكبر، صدق الله تعالى ورسوله ﷺ، أبى الله سبحانه أن يدخل طلحة الجنة إلا وبيعتي في عنقه» وأما الزبير فقد ناداه علي كرم الله تعالى وجهه وخلا به وذكره قول النبي ﷺ له: «لتقاتلن عليا وأنت له ظالم» فقال: لقد أذكرتني شيئا أنسانيه الدهر لا جرم لا أقاتلك أبدا. فخرج من المعسكرين نادما وقُتل بوادي السباع مظلوما، قتله عمرو بن جرموز. وقد روى الموافق والمخالف أنه جاء بسيفه واستأذن على الأمير كرم الله وجهه فلم يأذن له فقال: أنا قاتل الزبير، فقال: أبقتل ابن صفية تفتخر! سمعت رسول الله ﷺ يقول: «بشر قاتل ابن صفية بالنار» والشيعة كما في أبكار الأفكار للآمدي يزعمون أن استحقاقه للنار ليس لقتل الزبير بل لما علمه منه في عاقبة أمره، وذلك أن ابن جرموز قدم بعد ذلك على الأمير كرم الله وجهه مع أهل النهروان وقتل هناك، وإلا لقتله الأمير . والجواب أنا نعلم ضرورة أن النبي ﷺ إنما ذكر ذلك الخبر في حق الزبير من معرض التعظيم له والتفخيم من أمره، وذلك يأبى كون استحقاق قاتله النار لأمر آخر غير قتله. ولو كان المقصود ما ذكر لكان الكلام من باب الألغاز المنافي لحاله ﷺ الموجب لارتفاع الوثوق بأوامره ونواهيه لاحتمال أن يريد بها معنى لم يظهر لنا، كما هو مذهب الملاحدة الباطنية. وأما عدم قتله فلقيام الشبهة على ما قيل. ونظيره ما أخرجه ابن أبي حاتم والبيهقي عن الحسن: «أن ناسا من الصحابة ذهبوا يتطرقون فقتل واحد منهم رجلا قد فر وهو يقول إني مسلم إني مسلم فغضب رسول الله ﷺ من ذلك غضبا شديدا ولم يقتل القاتل» وكذا قتل أسامة فيما أخرجه السدي رجلا يقول لا إله إلا الله محمد رسول الله فلامه رسول الله ﷺ جدا ولم يقبل عذره وقال له: «كيف أنت ولا إله إلا الله» ونزل قوله تعالى: {ولا تقولوا لمن ألقى إليكم السلام لست مؤمنا} الآية. وأجاب آخرون بأن العلماء اختلفوا في أنه هل يجب القصاص على الحاكم إذا لم يطلب الولي أم لا، ولعل الأمير كرم الله وجهه ممن لا يرى الوجوب بدون طلب ولم يقع. وروي أيضا أن الأمير قال لما جاءه عمر بن طلحة بعد موت أبيه: مرحبا بابن أخي، إني لأرجو أن أكون أنا وطلحة والزبير من الذين قال الله فيهم: {ونزعنا ما في صدورهم من غل إخوانا على سرر متقابلين} وهذا ونحوه يدل على أنهما لم يذهبا إلا طاهرين مطهرين. وقعة صفين وأما تلخيص الوقعة الثانية فقد ذكر المؤرخون أن معاوية كان قد استنصره أبناء عثمان ووكلوه في طلب حقهما من قتلة أبيهما، فلما بلغه فراغ علي كرم الله تعالى وجهه من وقعة الجمل ومسيره إلى الشام خرج من دمشق حتى ورد صفين في نصف المحرم فسبق إلى سهولة المنزل وقرب من الفرات، فلما ورد الأمير دعاهم إلى البيعة فلم يفعلوا وطلبوا منه قتلة عثمان وكانوا قد انحازوا إلى عسكره ولهم عشائر وقبائل، ومع هذا لم يمتازوا بأعيانهم، فمال إلى التأخير حتى يمتازوا ويتحقق القاتل من غيره، فأبى معاوية إلا تسليم من يزعمونه قاتلا، وكثر القيل والقال حتى اتهم بنو أمية الأمير كرم الله وجهه بأنه الذي دلس على قتل عثمان وكان كرم الله وجهه قد تصرف بسلاحه فقال لذلك قائلهم: ألا ما لليلي لا تغور كواكبه ** إذا غار نجم لاح نجم يراقبه بني هاشم ردوا سلاح ابن أختكم ** ولا تنهبوه لا تحل مناهبه بني هاشم لا تعجلونا فإنه ** سواء علينا قاتلوه وسالبه وإنا وإياكم وما كان منكم ** كصدع الصفا لا يرأب الصدع شاعبه بني هاشم كيف التعاقد بيننا ** وعند عليٍ سيفه وحرائبه لعمرك ما أنسى ابن أروى وقتله ** وهل يَنسَيَن الماء ما عاش شاربه هُمُ قتلوه كي يكونوا مكانه ** كما غدرت يومًا بكسرى مرازبه وكان الأمير كرم الله وجهه يلعن القتلة ويقول: يا معاوية لو نظرت بعين عقلك دون عين هواك لرأيتني أبرأ الناس من قتلة عثمان. وتصرفه بسلاحه لأنه كان من الأشياء الراجعة إلى بيت المال. وحكمه إذ ذاك كحكم المدافع في زماننا في أن حق التصرف في ذلك للإمام. ثم إنه قد وقع الحرب بينهم مرارا وبقي كرم الله وجهه بصفين ثلاثة أشهر وقيل سبعة، وقيل تسعة؛ وجرى ما تشيب منه الرؤوس ويستهون له حرب البسوس، وليلة الهرير أمرها شهير. وآل الأمر إلى التحكيم. وحدث من ذلك ما أوجب ترك القتال مع معاوية والاشتغال بأمر الخوارج، وذلك تقدير العزيز العليم. وأهل السنة إلا من شذ يقولون إن عليا كرم الله تعالى وجهه في كل ذلك على الحق لم يفترق عنه قيد شبر وإن مقاتليه في الوقعتين مخطئون باغون وليسوا كافرين -خلافا للشيعة- ولا فاسقين خلافا للعمرين أصحاب عمرو بن عبيد من المعتزلة ولمن شذ من أهل السنة، ولا أن أحد الفريقين، من علي كرم الله وجهه ومقاتليه، لا بعينه فاسق خلافا للواصلية أصحاب واصل بن عطاء المعتزلي. أما أن الحق مع علي كرم الله وجهه فغني عن البيان. وأما كون المقاتل باغيا فلأن الخروج على الإمام الحق بغي وقد صح أنه ﷺ قال: «ويح عمار تقتله الفئة الباغية» وقد قتله عسكر معاوية. وقوله حين أخبر بذلك: "قتله من أخرجه" مما لا يلتفت إليه، وإلا لصح أن يقال إن رسول الله ﷺ قاتلُ حمزة وأضرابه ممن قتل معه وكذا قول من قال: "المراد من الفئة الباغية الفئة الطالبة أي لدم عثمان فلا يدل الخبر على البغي بالمعنى المذموم". وأما كونه من ليس بكافر فلِما في نهج البلاغة أن عليا كرم الله وجهه خطب يوما فقال: «أصحبنا نقاتل إخواننا في الإسلام على ما دخل فيه من الزيغ والاعوجاج والشبهة» ولقوله تعالى: {وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما فإن بغت إحداهما على الأخرى فقاتلوا التي تبغي حتى تفيء إلى أمر الله فإن فاءت فأصلحوا بينهما بالعدل وأقسطوا إن الله يحب المقسطين} فسمى الله تعالى الطائفتين المقتتلتين مؤمنين وأمر بالإصلاح بينهما. وأجاب بعض الشيعة عن الآية بأنها في قتال المؤمنين بعضهم مع بعض دون القتال مع الإمام والبغي عليه والخطاب فيها للأئمة أمروا أن يصلحوا بين طائفتين من المؤمنين اقتتلوا فيما بينهم وأن يقاتلوا إذا بغت إحداهما حتى تفيء. ولا يخفى ما في هذا الجواب من الوهن وعدم نفعه للمجيب أصلا لأن الأمر الثاني يستدعي أن يكون القتال مع الإمام ضرورة فافهم. واستدل بعضهم على كفر المقاتلين للإمام كرم الله وجهه بقوله ﷺ له: «حربك حربي» ولأهل العباء: «أنا سلم لمن سالمتم حرب لمن حاربتم» وحرب آل بيته ﷺ كفر بلا ريب وبقوله : «حب علي إيمان وبغضه كفر ونفاق» ولا بغض أظهر من الحرب فبه يثبت الكفر والنفاق. وأجاب أهل السنة بأن الخبر الأول لم يروه منا إلا ابن جرير وفي روايته عندنا وهن شهير. نعم ذكره الطوسي المنجم وغيره من الشيعة وهم بيت الكذب وأكثر رواتهم زنادقة بشهادة الأئمة كما يشهد بذلك الكافي وغيره. وعلى تقدير صحة الرواية لا حجة فيه لأنه خارج مخرج التهديد والتغليظ بدليل ما حكم به الأمير كرم الله وجهه من بقاء إيمان أهل الشام وأخوتهم في الإسلام. ومثل ذلك كثير في الكتاب والسنة. أو يخصّ الحرب بما كان كحرب الخوارج صادرا عن بغض وعداوة وإنكار لياقة الأمير للخلافة باعتبار الدين وذلك كفر عند كل مؤمن، وأدلة التخصيص أكثر من أن تحصر. وقال بعض: لا شك أن المقصود التشبيه بحذف الأداة كزيد أسد فكأنه قيل حربك كحربي فإن كان الحرب فيه المصدر المبني للفاعل صح أن يكون وجه الشبه الوجوب أي أن حربك لمن حاربك وبغى عليك من المؤمنين واجب عليك كحربي لمن حاربني من الكافرين واشتراك الحربين في الوجوب لا يستدعى اشتراك المحاربين بصيغة اسم المفعول في الكفر وهو ظاهر، وإن كان الحرب فيه المصدر المبني للمفعول صح أن يكون وجه الشبه كونه حراما وضلالا مثلا ولا يتعين كونه كفرا. ومن أصحابنا من منع كون حرب الرسول كفرا فقد قال سبحانه: {فإن لم تفعلوا فأذنوا بحرب من الله ورسوله} فإنها نزلت في آكلي الربا وهم ليسوا بكفار. وقال جل وعلا في قطاع الطريق: {إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله} الآية ولم تحكم الشيعة بكفرهم أيضا، وفيه تأمل لا يخفى وجهه. وبأن الخبر الثاني كالخبر الأول غير ثابت عندنا ولم يروه أحد منا أيضا. وقيل: إنه على تقدير الثبوت خارج مخرج التهديد لمن حارب أهل العباء على طرد ما تقدم في الخبر السابق. والخبر الأخير رواه مسلم لكن لا نسلم أن الحرب بغض فقد يحارب الإنسان من يحبه والحيثيات مختلفة كما لا يخفى. ومما يدل على أن المحارب غير كافر صلح الحسن مع معاوية وهو مما لا مجال لإنكاره. فقد روى المرتضى وصاحب فصول المهمة من الإمامية أنه لما أبرم الصلح بينه وبين معاوية خطب فقال: «إن معاوية نازعني حقا لي دونه فنظرت الصلاح للأمة وقطع الفتنة وقد كنتم بايعتموني على أن تسالموا من سالمني وتحاربوا من حاربني ورأيت أن حقن دماء المسلمين خير من سفكها ولم أرد بذلك إلا صلاحكم» انتهى. وفي هذا دلالة ظاهرة على إسلام الفريق المصالَح وأن المصالحة لم تقع إلا اختيارا. ولو كان المصالح كافرا لما جاز ذلك ولما صح أن يقال فنظرت الصلاح للأمة وقطع الفتنة إلخ فقد قال سبحانه وتعالى: {وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين كله لله} ويدل على وقوع ذلك اختيارا أيضا ما رواه صاحب الفصول عن أبي مخنف من أن الحسين كان يبدي كراهة الصلح ويقول: "لو خر أنفي كان أحب إلي مما فعله أخي" فإنه لا معنى لهذا الكلام لو لم يكن وقوع الصلح من أخيه اختيارا، فإن الضرورات تبيح المحظورات وهو ظاهر. وبعد هذا كله قد ثبت عند جمع أن معاوية ندم على ما كان منه من المقاتلة والبغي على الأمير كرم الله وجهه واتفق أن بكى عليه كرم الله وجهه فقد أخرج ابن الجوزي عن أبي صالح قال: قال معاوية لضرار: صف لي عليا، فقال: أوتعفيني؟ قال: بل تصفه، فقال: أوتعفيني؟ قال: لا أعفيك، قال: أما إذ لا بد فإنه كان والله بعيد المدى شديد القوى يقول فصلا ويحكم عدلا يتفجر العلم من جوانبه وتنطق الحكمة من نواحيه يستوحش من الدنيا وزهرتها ويستأنس بالليل وظلمته كان والله غزير الدمعة طويل الفكرة يقلب كفه ويخاطب نفسه يعجبه من اللباس ما خشن ومن الطعام ما خشب كان والله كأحدنا يجيبنا إذا سألناه ويبتدينا إذا أتيناه ويأتينا إذا دعوناه -إلى أن قال- لا يطمع القوي في باطله ولا ييأس الضعيف من عدله فأشهد بالله تعالى لقد رأيته في بعض مواقفه وقد أرخى الليل سجونه وغارت نجومه وقد مثل في محرابه قابضا على لحيته يتململ تململ السليم ويبكي بكاء الحزين فكأني أسمعه يقول: يا دنيا يا دنيا أبي تعرضت أم بي تشوقت، هيهات هيهات غري غيري، قد بتتك ثلاثا، لا رجعة لي فيك، فعمرك قصير وعيشك حقير وخطرك كبير، آه من قلة الزاد وبعد السفر ووحشة الطريق. قال: فذرفت دموع معاوية فما يملكها وهو ينشفها بكمه وقد اختنق القوم بالبكاء، ثم قال معاوية: رحم الله تعالى أبا الحسن كان والله كذلك، فكيف حزنك عليه يا ضرار؟ فقال: حزن من ذبح ولدها في حجرها فلا ترقى عبرتها ولا يسكن حزنها. انتهى. وما يذكره المؤرخون من أن معاوية كان يقع في الأمير كرم الله وجهه بعد وفاته ويظهر ما يظهر في حقه ويتكلم بما يتكلم في شأنه مما لا ينبغي أن يعوّل عليه أو يلتفت إليه، لأن المؤرخين ينقلون ما خبث وطاب ولا يميزون بين الصحيح والموضوع والضعيف، وأكثرهم حاطب ليل لا يدري ما يجمع. فالاعتماد على مثل ذلك في مثل هذا المقام الخطر والطريق الوعر والمهمة القفر الذي تضل فيه القطا ويقصر دونه الخُطا مما لا يليق بشأنه عاقل فضلا عن فاضل. وما جاء من ذلك في بعض روايات صحيحة وكتب معتبرة رجيحة فينبغي أيضا التوقف عن قبوله والعمل بموجبه لأن له معارضات مثله في الصحة والثبوت. على أن من سلم من داء التعصب وبرء من وصمة الوقوع في أصحاب رسول الله ﷺ حمل ذلك على أحسن المحامل وأوّله بما يندفع به الطعن عن أولئك السادة الأماثل. والله تعالى الهادي إلى سواء السبيل الفصل الثالث في بيان حكم سب الصحابة وأما الفصل الثالث ففي بيان حكم سب الصحابة ـ رضي الله تعالى عنهم أجمعين ـ وهو المقصود في الحقيقة من هذه الرسالة اعلم أن السبّ في اللغة الشتم، ويكون بكل ما فيه تنقيص وله مراتب متفاوتة. وأجمع أهل السنة أنه مطلقا في حق الصحابة منهي عنه، وإنما الخلاف في كفر مرتكبه. وستعلم قريبا إن شاء الله تعالى الحق في ذلك. واللعن مثل السب بل هو أدهى وأمر، وقد يقال له سب أيضا. ففي النهاية لابن الأثير: أصل اللعن الطرد والإبعاد من الله تعالى ومن الخلق السب والدعاء انتهى. والشيعة جوزوا السب واللعن على أكثر الصحابة ومنهم من كتم النص وهو بزعمهم حديث الغدير وكذا من حارب الأمير كرم الله وجهه كعائشة وطلحة والزبير ومعاوية وعمرو بن العاص وأضرابهم. بل اعتقدوا أن لعن هؤلاء وسبهم من أعظم العبادات وأقرب القربات، وذلك من الضلالة بمكان، فقد صحت أحاديث كثيرة في النهي عن اللعن مطلقا حتى لعن الحيوانات، وصرح بعض الحنفية بأن لعن الكلب من وجه كفر. وقد تواتر عند الفريقين نهي الأمير كرم الله وجهه عن لعن أهل الشام، فما ظنك بأصحاب النبي بل بكبارهم الذين ورد في حقهم من الآيات البينات ما ورد وأثنى عليهم رسول الله ﷺ بما لم يثن على أحد. فمن ذلك قوله سبحانه: {والذين آمنوا وهاجروا وجاهدوا في سبيل الله والذين آووا ونصروا أولئك هم المؤمنون حقا لهم مغفرة ورزق كريم} وقوله تعالى: {الذين آمنوا وهاجروا وجاهدوا في سبيل الله بأموالهم وأنفسهم أعظم درجة عند الله وأولئك هم الفائزون * يبشرهم ربهم برحمة منه ورضوان وجنات لهم فيها نعيم مقيم * خالدين فيها أبدا إن الله عنده أجر عظيم} وقوله عز وجل: {والسابقون الأولون من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان ورضوا عنه} الآية وقوله جل وعلا: {لقد رضي الله عن المؤمنين إذ يبايعونك تحت الشجرة} الآية وقوله تبارك وتعالى: {لكن الرسول والذين آمنوا معه جاهدوا بأموالهم وأنفسهم وأولئك لهم الخيرات وأولئك هم المفلحون} الآية وقوله سبحانه: {لا يستوي منكم من أنفق من قبل الفتح وقاتل أولئك أعظم درجة من الذين أنفقوا من بعد وقاتلوا وكلا وعد الله الحسنى والله بما تعملون خبير} إلى غير ذلك من الآيات التي لا تحصى. ومثلها الأخبار الواردة فيهم عموما وخصوصا. ولا مساغ للتخصيص الذي يزعمه الشيعة بوجه من الوجوه كما لا يخفى. وليس لهم أن يقولوا بالردة والعياذ بالله تعالى لما علمت. وإن قالوا إنهم ارتكبوا من الذنوب ما سوغ لعنهم وإن لم يكن كفرا فإن مسوغ اللعن ليس مخصوصا به ردوا بأنا لا نسلم ارتكابهم لذلك ودون إثباته خرط القتاد، وعلى فرض التسليم قد قدمنا أن الصحابة لما منّ الله تعالى عليهم من شرف صحبة النبي ﷺ وبذل الأنفس والأموال والأولاد بين يديه مع صدق النية وخلوص العزيمة وشدة المحبة لا يصرون على ذنب فعلوه وخطيئة ارتكبوها، فما ذهبوا إلى ربهم إلا بتوبة نصوح طاهرين من الآثام مكفرا عنهم ما يقتضى الملام، فلم يتحقق فيهم حال السب واللعن -والعياذ بالله تعالى- ما يسوغ ذلك. واعتبار ما كان لو صح لاقتضى جواز سب مثل حذيفة وسلمان فإنهما كانا قبل أن يسلما كافرين، والشيعة لا يجوزون ذلك فيهما لأنهما عندهم من الصحابة الموالين للأمير كرم الله وجهه. وبالجملة اعتبار ذنب مغفور للقدح والطعن في غاية السفه وموجب لفساد عظيم ومن ذلك صحة إطلاق الكافر مثلا على كثير من المؤمنين، وهو كما ترى وقد قال سبحانه وتعالى: {بئس الاسم الفسوق بعد الإيمان} وأيضا الوارد في لعن المرتكبين لبعض الذنوب اعتبار عنوان الذنب ومفهوم الوصف كالظالمين والكاذبين دون القصد إلى واحد بخصوصه مما صدق عليه المفهوم كزيد الظالم وعمرو الكاذب، فيجوز لعن الله الظالمين ولعن الله الكاذبين مثلا دون لعن الله تعالى زيدا وعمرا الظالم والكاذب، بل نصوا على حرمة لعن كافر بعينه لم يتحقق بخبر المعصوم موته على الكفر كأبي جهل وأبي لهب. وقوله ﷺ حين رأى حيوانا وسم على وجهه: «لعن الله من فعل هذا» ليس نصا في لعن مخصوص لجواز اعتبار العموم. ولعن الملائكة المرأة التي تخرج من بيتها بغير أذن زوجها حتى تعود أيضا كذلك. وعن بعض المحققين أن اللعن في مثل {ألا لعنة الله على الظالمين} متوجه بالحقيقة إلى الوصف لا إلى صاحبه، والمراد ذم ذلك الوصف والتنفير عنه، وأنه لو فرض توجهه إلى المتلبس به يكون وجود الإيمان مانعا والمانع مقدم كما هو عند الشيعة. وأيضا وجود العلة مع المانع لا يكون مقتضيا فاللعن لا يكون مترتبا على وجود الصفة حتى يرتفع الإيمان المانع. وقوله تعالى: {والذين جاءوا من بعدهم يقولون ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان ولا تجعل في قلوبنا غلا للذين آمنوا} الآية ظاهر في طلب المغفرة وترك العداوة للمؤمنين. ونطق الصحابة -الذين تسبهم الشيعة- بكلمة الإيمان وإقامتهم لشعائر الدين أمر معلوم لا يحتمل الإنكار بوجه. وكون ذلك عن نفاق أو مستتبعا بما يخالفه مما يحتاج إلى دليل يثبته وبرهان يحققه، وهو أحد المستحيلات. ولو سلم لكل أحد كل ما يقوله من الاحتمالات العقلية وإن لم يبرهن عليها لسلم كلام النواصب والخوارج في حق الأمير كرم الله وجهه وترهاتهم التي تمجها الأسماع في شأنه وفي ذلك من الفساد ما فيه. ومتى كان الإيمان ثابتا لا ينبغي إلا الترضي والاستغفار دون السب واللعن. وقد استدل بعض أصحابنا للنهي عن اللعن بقوله سبحانه: {واستغفر لذنبك وللمؤمنين والمؤمنات} بناء على أن الأمر بالشيء نهي عن ضده كما ذهب إليه الإمامية. وبالجملة حرمة سب الصحابة مما لا ينبغي أن ينتطح فيه كبشان أو يتنازع فيه اثنان. وأطلق غير واحد القول بكفر مرتكب ذلك لما فيه من إنكار ما قام الإجماع عليه قبل ظهور المخالف من فضلهم وشرفهم، ومصادمة المتواتر من الكتاب والسنة القائلين على أن لهم الزلفى من ربهم. ومن هنا كفر من كفر الرافضة. واستدل لكفرهم أيضا بما رواه البيهقي في دلائل النبوة بسند حسن عنه ﷺ أنه قال: «يخرج قبل قيام الساعة قوم يقال لهم الرافضة يرفضون الإسلام فاقتلوهم فإنهم مشركون» وأشار إلى ذلك الصرصري في قصيدته النونية النبوية بقوله: وكذاك أخبر أن سب صحابه ** ما للمصر عليه من غفران علما بقوم يجهرون بسبهم ** من كل غمر فاحش لعان وروي عن الإمام مالك أنه قال: من شتم أحدا من أصحاب النبي ﷺ أبا بكرا أو عمر أو عليا أو معاوية أو عمرو بن العاص فإن قال كانوا على ضلال وكُفر قتل ولم يؤول له. وفي لفظ: يقتل من كفر الصحابة كلهم أو واحدا منهم لأن من كفر مسلما فقد كفر فما بالك بالصحابة وهم أساس الإسلام وعماده. وذهب القاضي حسين إلى أن سب الشيخين كفر وإن لم يكن بما فيه اكفارهما، وإلى ذلك ذهب معظم الحنفية. والأصح من مذهب الشافعية أن السب بما فيه إكفار الصحابة كفر وهو السب الذي اتخذه عبادة شيعة زماننا ودرج عليه الكُميلية من الشيعة أيضا. فعلى هذا لا ينبغي لأحد أن يرتاب في كفرهم بناء على أن سبهم للصحابة بما فيه إكفارهم وحاشاهم ويلزم من إكفارهم بغضهم وهو كفر أيضا كما صرح به الطحاوي وغيره. واستدل له بعض الأئمة بقوله تعالى في حقهم: {ليغيظ بهم الكفار} وكذا استحلال إيذائهم وهو كفر أيضا، كما لا يخفى. وفي الأنوار: لو استحل إيذاء أحد من الصحابة كفر. وفي الاعلام أن استحلال إيذاء غير الصحابة من المسلمين مكفر فما ظنك باستحلال إيذائهم . وكذا يلزم ذلك إنكار خلافة الخلفاء منهم. وفي البزازية أن من أنكر خلافة أبي بكر فهو كافر في الصحيح وأن من أنكر خلافة عمر فهو كافر في الأصح، وفي التاتارخانية مثل ذلك. والذي نعلمه من الشيعة اليوم التصريح بكفر الصحابة الذين كتموا النص ولم يبايعوا عليا كرم الله وجهه بعد وفات النبي ﷺ كما بايعوا أبا بكر كذلك، وكذا التصريح ببغضهم واستحلال إيذائهم وإنكار خلافة الخلفاء الراشدين منهم والتهافت على سبهم ولعنهم تهافت الفراش على النار. وقد أجمع أهل المذاهب الأربعة من الحنفية والمالكية والشافعية والحنابلة على القول بكفر المتصف بذلك. وما روي عن بعضهم من أن السابّ يضرب أو ينكل نكالا شديدا محمول على ما إذا لم يكن السب بما يوجب تكفيرهم وكان خاليا عن دعوى بغض وارتداد واستحلال إيذاء، وليس مراده من أن حكم الساب مطلقا ذلك كما لا يخفى على المتتبع. وذكر صاحب التحفة الاثني عشرية عليه الرحمة أن الصحابة الذين أثنى عليهم الله تعالى في كتابه بما أثنى -وهم الذين ولع الرافضة بسبهم وبغضهم- مثل الأنبياء ـ عليهم السلام ـ في أن سبهم وطعنهم من العصيان بمكان. ونص كلامه ـ قدس سره ـ: ثم ينبغي أن يعلم ههنا دقيقة وهي أن سب الأنبياء ـ عليهم السلام ـ والطعن فيهم والعياذ بالله تعالى إنما صار حراما وكفرا لأن وجه السب وهو المعاصي والكفر لا يوجد في أولئك الكبار البتة بل يمتنع بالضرورة، وإنما الموجود فيهم ما يوجب تعظيمهم وتكريمهم وتوقيرهم والثناء الجميل عليهم والمحامد الحسنة لهم، ومن عداهم من جماعة المؤمنين الذين ثبت تعظيمهم وتكريمهم ومغفرة ذنوبهم وتكفير سيئاتهم بنصوص الكتاب المجيد فهم في حكمه لا محالة في حرمة السب والطعن والتحقير والإهانة، غاية الفرق بين الفريقين أن الأنبياء لم يوجد فيهم أصلا ما يوجب هذه الأمور وهؤلاء وجد فيهم فانعدم، والمعدوم بالعدم الطارئ كالمعدوم بالعدم الفطري في هذا الباب، ولهذا كانت نسبة الذنب السابق المتوب عنه إلى التائب حراما، فإن «التائب من الذنب كمن لا ذنب له» وليس لعوام الأمة ممن عدا الصحابة هذه المرتبة، لأن تكفير سيئاتهم ومغفرة ذنوبهم أمر معلوم لنا بالقطع من الوحي والتنزيل وقبول طاعاتهم وتعلق رضاء الله تعالى بأعمالهم على الخصوص أمر متيقن أيضا، فهم متوسطون بين الأنبياء والأمة، ولهذا لن يصل أحد من غير الصحابة وإن كان مطيعا متقيا إلى درجتهم أصلا انتهى. وهذا كلام حسن وفيه تأييد لما ذكرنا من أن اعتبار ذنب مغفور في غاية السفه. وكذا أجمع السادة الصوفية ـ قدس الله أسرارهم ـ من القادرية والنقشبندية والجشتية والكبروية والسهروردية وغير ذلك على وجوب محبة الصحابة كبارهم وصغارهم وتكريمهم وتوقيرهم واعتقاد أنهم أفضل البشر بعد الأنبياء ـ عليهم السلام ـ وحرمة سبهم وطعنهم وأن سابهم وطاعنهم من الضالين الخاسرين. وفي كتاب الغنية المنسوب لحضرة الغوث الرباني والهيكل الصمداني قطب دائرة العارفين ومربي المسترشدين والسالكين المحبوب السبحاني حضرة الشيخ عبد القادر الكيلاني ـ قدس سره وغمرنا برّه - ما ينادي على ذلك بأعلى صوت، بل صرح ـ قدس سره ـ فيها بتشبيه الرافضة -عاملهم الله تعالى بعدله- باليهود والنصارى، وهو ظاهر في إكفارهم. ومن تتبع كتب القوم قدست أسرارهم رآهم أشد الخلق حبا لأصحاب رسول الله ﷺ بأسرهم وأكثر الناس بغضا للرافضة الطاغين فيهم. نعم إن للصوفية نوع اختصاص بعلي كرم الله وجهه حتى شاع أن الصوفية علوية لما أن سلاسل الطرائق منتهية إليه وواردة عليه فهو باب الولاية وأبو الإرشاد، ولا يجرهم هذا إلى الابتداع وتنقيص أحد من الصحابة الكرام . ومن نسب إليهم ذلك وحاشاهم فقد ضل ضلالا بعيدا. وإذا أحطت خبرا بما ذكرنا ظهر لك أن من سب أو طعن أو بغض أو كفر أحدا من الصحابة لا سيما كبارهم كالخلفاء الراشدين وزعم حل ذلك عند أحد من أهل السنة والجماعة فقد أعظم الفرية بغير مرية. كيف لا وأحد الأمور التي ميزت أهل السنة عن الشيعة حبهم لأصحاب نبيهم وتعظيمهم إياهم وقولهم فيهم إنهم أفضل البشر بعد النبيين والترضي عنهم أجمعين؛ لا كما عليه الشيعة من بغضهم لهم وتحقيرهم وقولهم فيهم إنهم شر الخلق ولعنهم وسبهم في كل وقت وحين، ولم يستثنوا أحدا من ذلك سوى ستة أو سبعة أو ما قارب ذلك. وبالجملة إن نسبة حل السب لأهل السنة في الكذب مثل قول القائل الضدان يجتمعان والأربعة فرد والثلاثة زوج وشريك الباري ممكن بالإمكان الخاص ونحو ذلك. ولا ينبغي أن يزاد في جواب زاعم ما ذكر من تلك النسبة على قول: {ألا لعنة الله على الكاذبين} لظهور كذبه وغنائه عن البيان عند من عرف معنى لفظ أهل السنة والجماعة. هذا والكلام في خصوص حل سب معاوية وإكفاره ولعنه يعلم أيضا حكمه مما تقدم وقد صرح الإمام مالك بأن من قال إنه كان على ضلال وكفر قتل. ويفهم من الرواية الأخرى أن من كفره فقد كفر وكذا من قال بحل لعنه كما يقتضيه كلامهم. فإنه من كبار الصحابة وكان أحد الكتّاب لرسول الله ﷺ كما صح في مسلم وغيره. وفي حديث سنده حسن: «كان معاوية يكتب بين يدي رسول الله » قال المدايني: كان زيد بن ثابت يكتب الوحي وكان معاوية يكتب للنبي ﷺ على وحي ربه. وهي مرتبة رفيعة. وروى الترمذي وقال إنه حديث حسن «أن رسول الله دعا له فقال: اللهم اجعله هاديا مهديا» ودعاءه لأمته مستجاب ومتى كان هذا مستجابا كان في معاوية صفتان يقعدان لاعنه ومكفره على عجزه. وأخرج الملا في سيرته ونقله عنه المحب الطبري في رياضه أنه ﷺ قال: «أرحم أمتي بأمتي أبو بكر وأقواهم في دين الله تعالى عمر وأشدهم حياء عثمان وأقضاهم علي ولكل نبي حواري وحواري طلحة والزبير وحيث ما كان سعد بن أبي وقاص كان الحق معه وسعيد بن زيد من أحباء الرحمن وعبد الرحمن بن عوف من تجار الرحمن وأبو عبيدة بن الجراح أمين الله تعالى وأمين رسول الله ﷺ وصاحب سري معاوية بن أبي سفيان فمن أحبهم فقد نجا ومن أبغضهم فقد هلك» وفي هذا من الدلالة على فضله ما لا يخفى. وقد فاز بمصاهرة النبي ﷺ فإن أم حبيبة أم المؤمنين أخته وقد قال : «دعوا أصحابي وأصهاري فإن من حفظني فيهم كان معه من الله تعالى حافظ ومن لم يحفظني فيهم تخلى الله تعالى منه ومن تخلى الله تعالى منه يوشك أن يأخذه» رواه الإمام الحافظ أحمد بن منيع. وروى الحارث بن أبي أسامة عن النبي : «عزيمة من ربي وعهد عهده إلي أن لا أتزوج إلى أهل بيت ولا أزوج بيتا إلا كانوا رفقائي في الجنة» والأخبار المشعرة بفضله كثيرة. وما طعن به المخالف مردود عليه. وقد ألف العلامة ابن حجر للسلطان همايون من سلاطين الهند رسالة نفيسة في الذب عن معاوية سماها تطهير اللسان والجنان عن الحظور والتفوه بثلب سيدنا معاوية بن أبي سفيان، وأجاب عن الأخبار الموهمة للنقص في حقه . ونزول الحسن له عن الخلافة ومبايعته عليها ووقوع الإجماع إذ ذاك على خلافته لا يبقي سبيلا إلى سبه، ويجعل القول بكفره والعياذ بالله تعالى كفرا لا شبهة فيه لما فيه من تضليل الأمة التي لا تجتمع على ضلالة أبدا، لا سيما ومن جملة المجمعين المعصوم وهو الحسن على ما هو معتقد الشيعة. ودعوى الإكراه قد مر الجواب عنها فتذكر. والكلام في عمرو بن العاص نظير الكلام في معاوية كما علمت مما روي عن الإمام مالك وغيره. وقد كان النبي ﷺ يقربه ويدنيه بعد أن أسلم وولاه غزاة ذات السلاسل وأمده بأبي بكر وعمر وأبي عبيدة بن الجراح ثم استعمله على عمان فتوفي وهو أميرها. ثم كان من أمراء الأجناد في الجهاد بالشام في زمن عمر وهو الذي افتتح قنسرين وصالح أهل حلب ومنبج وأنطاكية. وأخرج أحمد من حديث طلحة أحد العشرة رفعه: «عمرو بن العاص من صالحي قريش» ورجال سنده ثقات إلا أن فيه انقطاعا بين ابن أبي مليكة وطلحة. وأخرجه البغوي وأبو يعلى من هذا الوجه وفيه زيادة: «نعم أهل البيت عبد الله وأبو عبد الله وأم عبد الله» وموافقته لمعاوية في قتال علي كرم الله وجهه ليس بكفر على ما علمت. ويدل على ذلك أيضا ما رواه الطبراني بسند رجاله موثقون على خلاف في بعضهم أن الأمير كرم الله وجهه قال: «قتلاي وقتلا معاوية في الجنة» فإنه ظاهر في أن الأمر كان عن اجتهاد وللمخطئ فيه أجر واحد وللمصيب أجران إلى عشرة أجور. وقد جاء في صحيح البخاري عن عكرمة عن ابن عباس ما يدل على أن معاوية كان من أهل الاجتهاد. ونص غير واحد على أن عمرو بن العاص أيضا كذلك. فهو معذور فيما صدر منه وإن كان مخطئا كسائر من بغى على علي كرم الله وجهه. والحكايات الدالة على أنه إنما وافق معاوية للدنيا لا للدين مما نقلها المؤرخون في كتبهم من غير سند لها لا يعول عليها، وحال المؤرخين في النقل معلومة فلا ينبغي الاغترار بنقلهم إلا إذا وجدت فيه شروط القبول. ومما لا يعول عليه من ذلك ما نقله ابن الوردي أن عمرا انحرف يوما عن معاوية فاستعتبه معاوية فأنشده: معاوي لا أعطيك ديني ولم أنل ** به منك دنيا فانظرن كيف تصنع فإن تعطني مصرا وتربح صفقتي ** شريت بها شخصا يضر وينفع فولاه مصر وجهزه إليها لذلك. والثابت عند أهل الأخبار أنه ولي مصر وسار إليها بعد ما كان من أمر الحكمين وحكم فيها من صفر سنة ثمان وثلاثين إلى أن مات. وأما أنه أنشد ما أنشد فغير ثابت. ومما ينتظم في هذا السلك بعض الأخبار المشعرة بذمه وذم اجتماعه مع معاوية؛ وهو ما روي أن شداد بن أوس دخل على معاوية وعمرو معه على فراشه فجلس بينهما وقال: أتدرون ما أجلسني بينكما إني سمعت رسول الله ﷺ يقول: «إذا رأيتموهما جميعا ففرقوا بينهما فوالله ما اجتمعا إلا على غدرة فأحببت أن أفرق بينكما» انتهى فإن هذا الخبر لم يثبت لأن في سنده من قال الحافظ الهيثمي فيه: لا أعرفه. وبعض المحققين أجاب عنه على تقدير صحته بما لا يخلو عن نظر. نعم ضرر اجتماعهما في قتال الأمير كرم الله تعالى وجهه والبغي عليه أمر ظاهر لا مساغ لإنكاره، إلا أنهما معذوران عند أكثر الجماعة أو مكفَّر عنهما ذلك على ما أشير إليه في ما سبق. ولو لم يُقل بهذا ولا ذاك فنهاية ما يمكن أن يقال كونهما آثمين، وأما الكفر وحل اللعن والسب فما لا يمكن أن يقال بوجه من الوجوه وحال من الأحوال. ومما هو ظاهر في أن عمرا لم يكفر بما فعل أن الأمير كرم الله وجهه تمكن من قتله في صفين كما هو مشهور عند الموافق والمخالف ولم يقتله ولو كان كما يزعمه الشيعة لما منعه من قتله مانع كما لا يخفى. وبالجملة تكفير أحد من الصحابة الذين تحقق إيمانهم وصدقهم وعدم نفاقهم والإقدام على لعنه بمجرد شبهة هي أوهن من بيت العنكبوت كفر صريح لا ينبغي أن يتوقف فيه. وللشيعة الذين في زماننا الحظ الأوفى من هذا الكفر لأنهم كفروا إناسا من الصحابة كان الأمير يصلي وراءهم ويقتدي بهم في الجمع والجماعات كأبي بكر وعمر وعثمان وقد درج معهم على أحسن حال وأرفه بال، زوج ابنته أم كلثوم من عمر ونكح هو كرم الله وجهه من سبي أبي بكر خولة الحنفية وصدر منه كرم الله وجهه من حسن المعاملة مع الخلفاء ما لا يقبل تأويلا. وهو مما يلقم الشيعة حجرا لكونهم أسوأ الخلق عقيدة وأكثرهم جرأة وأظهرهم ضلالا. قال في تبصرة الحقائق: الشاك في كفرهم إن شك في أن قولهم هل هو فاسد أم لا فهو كافر وإن علم أن قولهم ضلال وبدعة وشك في كونه كفرا ففي تكفير خلاف. وممن حكم بكفر الشيعة وإلحاق ديارهم بدار الحرب جماعة من المتأخرين كالعلامة ابن كمال وشيخ الإسلام أبي السعود وغيرهما. ولولا خوف الإطناب لأتيت من فضائحهم بالعجب العجاب، وفيما ذكرناه كفاية فيما نحن بصدده من الجواب. والله تعالى الهادي إلى صوب الصواب. الخاتمة في تفاوت الصحابة في الفضل وأما الخاتمة ونسئل الله تعالى حسنها ففي تفاوت الصحابة في الفضل اعلم أن أفضل الخلق على الأصح وعليه أكثر الناس الأنبياء ـ عليهم السلام ـ وأفضلهم المرسلون وأفضلهم أولوا العزم وأفضلهم محمد ﷺ وهل هو أفضل من المجموع كما أنه أفضل من كل واحد أم لا فيه خلاف، والذي أميل إليه الأول. وأفضل الأمم أمته كما يشهد له الآيات والأخبار وأفضلهم صحابته للآيات أيضا وللأحاديث البالغة مبلغ التواتر وإن كانت تفاصيلها آحاد وأفضلهم الخلفاء الأربعة الراشدون وهم في الفضل كما روي عن أبي منصور الماتريدي وأبي الحسن الأشعري على ترتيبهم في الإمامة وعن مالك تقديم علي كرم الله وجهه على عثمان وادعى غير واحد رجوعه إلى ما تقدم، ثم تمام العشرة ثم أهل بدر ثم أهل أحد ثم أهل بيعة الرضوان. وممن له مزية لا تنكر أهل العقبتين من الأنصار وكذلك السابقون الأولون. وقد تجتمع صفتان فأكثر في شخص واحد من الصحابة فيكون بدريا أحديا من أهل بيعة الرضوان مثلا ولا يلزم من ذلك محذور تفضيل الشيء على نفسه كما لا يخفى. وقال بعضهم: أفضل الصحابة أهل الحديبية وأفضلهم أهل أحد وأفضلهم أهل بدر وأفضلهم العشرة وأفضلهم الخلفاء الأربعة وأفضلهم أبو بكر . وزعمت الخطابية أن أفضلهم عمر بن الخطاب والشيعة أن أفضلهم علي كرم الله وجهه وأنف بعضهم عن أن يقال فيه كرم الله وجهه إنه أفضل الصحابة وأنشد في ذلك: يقولون لي فضل عليا عليهم ** وكيف أقول الدر خير من الحصى ألم تر أن السيف ينقص قدره ** إذا قيل هذا السيف خير من العصا وزعمت الراوندية أن أفضل الصحابة العباس بن عبد المطلب وتوقف بعض الناس على تفضيل أحد منهم بخصوصه وقال: الأسلم بعد اعتقاد جلالتهم عدم الخوض في التفضيل فليس هنا ما يفيد اليقين. وفي المواقف وشرحه بعد كلام في تعيين الأفضل من الصحابة أن مسألة الأفضلية لا مطمع فيها من الجزم بها إذ لا دلالة للعقل بطريق الاستقلال على الأفضلية بمعنى الأكثرية في الثواب بل مستندها النقل وليست مسألة يتعلق بها عمل فيكفي بها الظن بل هي مسألة علمية يطلب فيها اليقين والنصوص بعد تعارضها لا تفيد القطع على ما لا يخفى على منصف لأنها بأسرها إما آحاد أو ظنية الدلالة وليس الاختصاص بكثرة أسباب الثواب موجبا لزيادته قطعا لأن الثواب تفضل من الله تعالى عند أهل الحق فله أن لا يثيب المطيع ويثيب غيره وثبوت الإمامة وإن كان قطعيا لا يفيد القطع بالأفضلية بل غايته الظن كيف ولا قطع بأن إمامة المفضول لا تصح مع وجود الفاضل لكنا أوجدنا السلف قالوا بأن الأفضل أبو بكر ثم عمر ثم عثمان ثم علي وحسن ظننا بهم يقضي بأنهم لو لم يعرفوا ذلك لما أطبقوا عليه فوجب علينا اتباعهم في ذلك القول وتفويض ما هو الحق فيه إلى الله تعالى وإلى عدم الجزم ذهب الآمدي. انتهى المراد منه ولا تخفى متانته. وفي فتوحات الشيخ الأكبر ـ قدس سره ـ ما يوافق ذلك فإنه قال: إن تقديم الخلفاء بعضهم على بعض لا يقتضى الجزم بالتفضيل بل ذلك راجع إلى الله تعالى ولم يعلم به فالله سبحانه يحفظنا من الفضول. وفي كلام الشيخ السهروردي في عقيدته ما يوافقه أيضا. ونقل عن الباقلاني أيضا أن مسألة التفضيل على الترتيب المشهور ظنية، وفي ذلك مخالفة لما عليه الإمام الأشعري حيث ذهب إلى أنها قطعية، قيل: وعليه فضل علي كرم الله وجهه على سائر الصحابة مبتدع قطعا وعلى القول الآخر فيه لا قطع بابتداعه، والمشهور عند الجماعة إطلاق القول بابتداعه وأن من فضّله كرم الله وجهه بالمحبة مبتدع أيضا ما لم يكن من ذريته، وهو خلاف الإنصاف كما لا يخفى على منصف. ومن الناس من لم ير تفضيله على الكل ابتداعا لما ثبت من جلة من أئمة الحديث أنه ما ورد في صحابي ما ورد في علي كرم الله وجهه من الأخبار النبوية والمدائح المصطفوية مع ما تواتر عنه من الشجاعة والعلم والإيثار وملازمة النبي ﷺ صغيرا وكبيرا وغير ذلك، وكون غيره أشجع منه وأعلم وأكثر ملازمة له ﷺ في حيز المنع وجعل الابتداع عدم توفية الباقين حقهم من التفضيل، بل قد يجر ذلك إلى الكفر والعياذ بالله تعالى وأطال الكلام في ذلك وفيه نظر. ونقل عن آخرين أنه كرم الله وجهه ولما اجتمع فيه من الصفات ما لم يجتمع في غيره كان هو الخليفة بعد رسول الله ﷺ بلا فصل ولكن من طريق الباطن الذي يدور على الإرشاد وتربية المريدين وتصفية بواطنهم وغير ذلك مما تقتضيه الولاية، وأما أبو بكر فهو خليفة رسول الله ﷺ أيضا بلا فصل أيضا ولكن من طريق الظاهر الذي يدور عليه سد الثغور وتجهيز الجيوش وتنفيذ الأحكام وحفظ بيضة الإسلام ونحو ذلك. ومن هنا كان معظم سلاسل السادة الصوفية قدست أسرارهم منتهية إلى علي كرم الله وجهه دون غيره من الصحابة الكرام انتهى. وأنت تعلم أن دعوى خلافتين ظاهرية وباطنية غير مسلمة عند أهل الظاهر وإثباتها عليهم صعب جدا فتأمل. واعلم أيضا أن المشهور أيضا من مذهب الجماعة أنه -وهو الحق- لا يبلغ أحد من الأمة إلى يوم القيامة درجة واحد من الصحابة في الفضل ولو فعل ما فعل من الطاعات. ويشهد له ظواهر كثير من الآي والأخبار. وعلى هذا جاء ما نقل عن الإمام الجليل عبد الله بن المبارك ـ عليه الرحمة ـ أنه سئل فقيل له: يا أبا عبد الرحمن أيما أفضل معاوية أو عمر بن عبد العزيز؟ فقال: "والله إن الغبار الذي دخل في أنف فرس معاوية مع رسول الله ﷺ أفضل من عمر بألف مرة، صلى معاوية خلف رسول الله ﷺ فقال رسول الله سمع الله لمن حمده فقال معاوية : ربنا ولك الحمد. فما بعد هذا" الشرف الأعظم. وأما ما روي عن أنس عن النبي ﷺ أنه قال: «أمتي كالمطر لا يدرى أوله خير أم أخره» فلا يعارض ما تدل عليه تلك الظواهر لأن المراد منه كما قال ابن قتيبة تقريب آخر هذه الأمة إلى أولها في الفضل كما تقول لا أدري أوجه هذا الثوب خير أم مؤخره وقد علمت أن وجهه خير، ولكنك تؤيد تقريب مؤخره من وجهه في الجودة، وغير ذلك مما هو مذكور في محله. هذا والحمد لله حمدا غضا والصلاة والسلام على نبيه النبيه حتى يرضى وعلى آله وأصحابه نجوم الهداية ورجوم الغواية ما ظهر الحق والصواب وأحرق شياطين الأوهام من فلك العلم شهاب. وكتب أفقر العباد إليه عز شأنه أبو الثناء شهاب الدين السيد محمود المفتي ببغداد عفى عنه سنة 1254 رمضان. ثم طبع هذا الكتاب المستطاب الحري أن يكتب بالتبر المذاب على ذمة حضرة السيد أحمد شاكر أفندي وشبل المؤلف المرحوم لا زال راتعا في رياض الفضائل والعلوم وذلك سنة 1301 من ذي القعدة الحرام. ------------------------------------ الكتاب الثاني ------------------------------------ أدلة الوحدانية في الرد على النصرانية للقرافي رب يسر وأعن يا الله الحمد لله محكم الصنائع ومحكم البدائع ومميز القطر والطبائع ومرقيها إلى أعلى المراقي وأسنى المطالع ومودعها أنوار حكمته المشرقة اللوامع وناصبها للذب عن العقائد والأديان والشرائع ومؤيدها بالبراهين الظاهرة والأدلة الباهرة القواطع. أحمده على الإسلام الذي هو ناسخ للملل ورافع، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، شهادة أجاهد بها عن الحق وأدافع، وأشهد أن سيدنا محمدا عبده ورسوله المبعوث لكل دان من الخلق وشاسع، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه ما سجد له ساجد وركع راكع. هذا ولما رأيت مولانا السلطان الملك الكامل الناصر لدين الله بالمعالي الجامع للمفاخر والمعالي -أدام الله نصرته وأعز أسرته وحمى به منار الملك وأسرته، وشكر عن المسلمين والإسلام سيرته وسريرته، ونور في أعلى منار بالشريعة بصره وبصيرته، ولا زالت دولته طويلا ديلها جميلا مع الليالي والأيام سيرها وسبيلها مجلوبا على الأولياء خيرها مجلبا على الأعداء حلها- قد أقام للعلوم أسواقا فأفاضت به تفد الأفول أقمارها وظهرت به بعد الدروس آثارها وجمع بسعادته ما تفرق من شملها وقوي بإنعامه ما وهن من حبلها وعظم بإكرامه ما انحمل من أهلها، فصار جنابه مراد الرائدين وملجأ الوافدين والقاصدين وموسم الآمال وكعبة الإقبال، يهدي إليه كل أحد على قدره وطاقته ومكنته من الفضل واستطاعته رجاء النفاق عليه، إذ لا موئل للأفاضل والفضائل إلا إليه، إذ هو بصير العلماء وخبير الفضلاء، إن قصد إليه فنعم مطرح الرجاء وإن استند إليه كان محط الالتجاء. لما رأى المملوك تفننهم في الإهداء وما يعرضونه بمقام البهاء والسناء من كلام منثور ومنظوم كالوشي المرقوم والسحاب المركوم، وهو ذو إصغاء إلى قليلهم لا يمل من ناثرهم وناظمهم وناقلهم، إن نظر كان له نظر مصيب وإن تكلم وجد له في كل علم نسيب، أجلتُ طرف الفكر ميدان النظر أي فن أقصد إليه وأرجو من الله أن يثيبني في الآخرة عليه، فظهر لي أن أولى ما تصرف إليه الهمم وتتفاوت فيه القيم وتتنافس فيه الأفاضل ويتميز به المفضول من الفاضل الذب عن حوزة الدين وحراسة بيضة المسلمين بالبحث في الملل والأديان وإقامة الدليل على وحدانية الملك الديان بالنظر السليم والفكر القويم المفضي إلى المعارف المنجي من المتالف الداعي إلى الرشاد المنقذ من الضلال والفساد المفترض على العباد، ليعرف الله تعالى حق معرفته وينزه عما يجوز على بريته، مظهرا للدين الحنيفي الدعائم والأركان موضحا ظهوره على جميع الأديان. فنظرت في أهل الشرائع والمذاهب وتفكرت فيمن هو فيها عن التوحيد ذاهب، فلم أجد سوى مذهب النصارى الضالين الحيارى المتشبثين بخيوط العنكبوت القائلين بحلول اللاهوت في الناسوت. ووجدتهم مع قلة علمهم وعدم فهمهم وكثرة جهلهم قد طبقوا أكثر الأرض بطولها والعرض، فقلت: الآن ظفرت بطلبي وحصل لي بحمد الله مطلبي، فرأيت أن أصنف لمولانا السلطان أعزه الله تعالى في الرد عليهم كتابا أتحفه فيه بغريبه وأنفرد فيه بطريقة عجيبة، أجمع فيه مذاهبهم على جليتها وأخاطبهم بفصوص نصوصهم وأجادلهم بها مجادلة الأقران وأبارزهم على نقضها مبارزة الشجعان. وبالاختبار تظهر حيلة الأسرار، وبالامتحان يكرم الرجل أو يهان. وسميت الكتاب أدلة الوحدانية في الرد على النصرانية، وقسمته على أربعة أصول: الأصل الأول: حكاية مذهب النصارى على جليته وكيف استدلوا بزعمهم على صحته من المنقول واعتقاد كل فريق منهم في الإله من طريق المعقول وسبب وضعهم للأمانة وحكاية مجامعهم العشرة وكيف كفّر بعضهم بعضا ولعن بعضهم بعضا، وكيف ارتكبوا في هذه المجامع الضلالات ووقعوا في حيرة في معرفة خالق الأرضين والسموات، وكلما أرادوا أن يخرجوا بجمع منها إلى الوجود ردتهم قلة معرفتهم إلى نهاية الجمود. وفي هذا الأصل سبعة فصول. الأصل الثاني: في الرد عليهم، وفيه نقض الفصول. وفي هذا الأصل تبيين كشف أسرارهم وهتك أسرارهم وأنهم ارتكبوا المستحيل وخالفوا ما جاء في التوراة والإنجيل. الأصل الثالث: في بيان غلط النقلة للأناجيل وبيان تناقضها. الأصل الرابع: في ذكر النبي الأمي في الإنجيل كما أخبر عنه في محكم التنزيل. أما الأصل الأول فيتضمن سبعة فصول: الفصل الأول: في حلول الكلمة بزعمهم في مريم البتول واتحادها مع يسوع. الفصل الثاني: في سبب كون المسيح جاد بنفسه وسهل عليه سفك دمه. الفصل الثالث: في حكاية صلب المسيح بزعمهم. الفصل الرابع: في دليلهم على الثالوث من المنقول وتمثيلهم له بالمعقول. الفصل الخامس: في إشارة التوراة إلى الصليب وإلى ضرب الناقوس. الفصل السادس: في إشارة التوراة وكتب الأنبياء إلى مجيء المسيح إما بإشارة أو بتصريح. الفصل السابع: في اعتقاد كل فريق منهم في الإله من طريق المعقول وسبب وضعهم للأمانة وذكر مجامعهم العشرة. الفصل الأول في حلول الكلمة واتحادها بيسوع زعمت النصارى أن الله سبحانه لما خلق السماوات والأرض كان قد قدّر في الأزل أن آدم عليه السلام يعصي ربه عز وجل وأن الشيطان يغويه، فلما عصاه وأكل من الشجرة التي نهاه الله عنها عاقبه وذريته بورود جهنم. ولما رحم الله تعالى عباده وأشفق عليهم ألقى كلمته إلى مريم البتول فتجسدت الكلمة في جوفها فخرج منها إله تام من إله تام، نور من نور. قالوا: فخلص سيدهم يسوع المسيح العالم من حبال الشياطين التي كانوا يقودون فيها الآدميين إلى الجحيم، فما عرفته الشياطين وظنوا أنه واحد من بني آدم، فصُلب وقتل بغير ذنب، وعند ذلك تردّى إلى الجحيم فكسر أبوابها وأخرج منها أولياء الله وأنبياءه ثم صعد إلى السماء. وزعموا أنهم يرونه يوم القيامة على تلك الهيئة، أعني قاعدا على يمين أبيه يدين الأمم. الفصل الثاني في سبب كونه جاد بنفسه وسهل عليه سفك دمه قالوا أما سبب كونه جاد بنفسه وسهل عليه سفك دمه ليكون ذلك سنة في القرابين ويكون مجيئه لتنقذ الأولياء والصالحين من الذنب الذي كانوا به معاقبين، إذ كانوا بذنب آدم الذي عصى ربه معذبين، فخلصهم بالماء والدم اللذين خرجا منه عندما صلب على الصليب وطعنه يودس بالحربة. والحربة إلى اليوم مع الصليب الذي صلب عليه موجودا في الكنائس. ولأجل ذلك إشارة التوراة في القرابين التي أمر الله بها موسى عليه السلام في التثنية من ذبح الأنعام وإراقة الدماء تقربا إلى الله تعالى. الفصل الثالث في حكاية صلب المسيح بزعمهم قالوا: قال داود عليه السلام في المزمور الواحد والعشرين الذي حكى فيه صلب المسيح، قالوا: قال سيدنا المسيح وهو على الصليب: "إلهي إلهي لماذا أهملتني، كلمات بعيدة عن خلاصي، إلهي دعوت نهارا فلم تسمع، وليلا فلم أسكت، هللت في القدس: يا مادح إسرائيل، عليك توكلوا آباؤنا فأنجيتهم، إليك هجوا وخلصوا، عليك توكلوا فلم يخزوا، فأما أنا فدودة وليس إنسانا، عار البشر وزالة الشعب، وأنت يا رب رجائي، من ثدي أمي عليك ألقيت من الرحم من بطن أمي، أنت هو إلهي، لا تبعد عني فإن الشدة قريبة، أحدقت بي عجول كثيرة وثيران سمان اكتنفتني، وجعلوا المرارة طعامي، وفي عطشي أسقوني خلّا، ثقبوا يدي ورجلي، أحصوا جميع عظامي، نج نفسي من الحوبة، وخلصني من فم الأسد، لأخبر باسمك في إخوتي وفي وسط الجماعة أسبحك، يخبر بالرب الجليل ويبشرون بعدله الشعب المولود الذي اصطنع الرب. الفصل الرابع في دليل الثالوث من التوراة والإنجيل..

  الكتاب الاول الأجوبة العراقية على الأسئلة اللاهورية لأبي الثناء شهاب الدين محمود الحسيني الآلوسي البغدادي نزل اللهم يا ...