الخميس، 27 أبريل 2023

ليلة القدر--للشيخ / أبي عبد الرحمن بن عقيل الظاهري



 

ليلة القدر--للشيخ / أبي عبد الرحمن بن عقيل الظاهري

"اعلموا أن ليلة القدر في رمضان خاصة دون سائر العام ، والبرهان على ذلك برهان مركب من نصين كريمين .

قال تعالى : {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِيَ أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ } البقرة185 ، فنزول القرآن في شهر رمضان مقدمة أولى .

وقال تعالى : {إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ }القدر1 ، فهذه مقدمة ثانية : أعني نزول القرآن في ليلة القدر .

النتيجة: أن ليلة القدر في رمضان ، لأن القرآن نزل في رمضان ، ورمضان عدة ليال ، وقد نزل في ليلة القدر .

فصح أن ليلة القدر من ليالي رمضان ، وليلة القدر ثابتة إلى يوم القيامة ، لا يخلو رمضان ما من ليلة القدر .

والبرهان على ذلك عدة أمور :

أولها : أن الله قال عنها {تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا } القدر4 ولم يقل تنزّلت .

فصيغة المستقبل ( تنزّل ) دالة على الديمومة .

وثانيها : إجماع الصحابة رضوان الله عليهم على ذلك ، ولا معنى لأي خلاف بعدهم ، بل أجمع على ذلك المحدثون وجمهور الفقهاء .

وثالثها : قال صلى الله عليه وسلم : " ومن قام ليلة القدر إيمانا واحتسابا غفر له ماتقدم من ذنبه " . رواه البخاري وغيره .

فهذا خطاب عام للأمة المحمدية إلى أن تقوم الساعة وينقطع التكليف .

وحاشا لرسول الله صلى الله عليه وسلم أن يأمرنا بقيام ليلة القدر ولا يكون في رمضان ليلة قدر كما زعمت الرافضة وقلة تابعتهم من أهل الرأي .

ورابعها : أن النصوص تواترت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بأن نتحراها في العشر الأواخر من رمضان .

وحاشا لرسول الله صلى الله عليه وسلم أن يأمرنا بتحري معدوم .

واعلموا ـ أيها الأحباب ـ أن ليلة القدر من مواسم العمر التي لا تعوض لما فيها من فيوض رحمة الله وعفوه وعونه على الاستقامة والثبات .

وإنني لأبكي عمري في سنوات كنت فيها من الغافلين .

والقاعدة للعبد المسلم أن أجره على قدر نصبه .

ولهذا لم يعين الله ليلتها ليحصل الجد في تحريها ، وليظهر صدق عبودية من يلتمسها .

ولم يغيب الله علمها بإطلاق رفقاً بعباده ورحمة . وإنما حددها في ليلة مبهمة من عشر ليال آخر الشهر ، فليس من الشاق على العبد أن يجتهد في العبادة عشر ليال ، ومضمون له أن يوافق ليلة القدر في إحداهن .

واعلموا ـ أيها الأحباب ـ أن المواسم الخيرة تبهم في زمان معين كساعة الإجابة في يوم الجمعة للملمح الذي ذكرته لكم .

واعلموا ـ أيها الأحباب ـ أن الخلاف في تعيين ليلة القدر بلغ أربعين قولا .

وهكذا يكون التشتت في ابتغاء تعيين ما لم يقض الله بتعيينه لخلقه .

والذي أوصي به كل مسلم أن يعتقد جازماً بلا تردد أن لا سبيل إلى احتمال أن ليلة القدر في ليلة معينة بأي دلالة شرعية . وأنه لا مطمح للعبد في موافقة ليلة القدر بيقين لا شك فيه إلا إذا اجتهد في العبادة واعتبر كل ليلة من العشر الأواخر ليلة قدر ، فها هنا لن يخيب ، وسيكون وافق ليلة القدر حتما .

وإنما قلت لا دلالة في نصوص الشرع البتة على أن ليلة القدر في ليلة معينة ـ وإن ورد النص بأنها في الوتر من العشر الأواخر ـ لعدة براهين ضرورية لا محيد عنها :

أولها : أن المسلم لا يعلم بداية العشر الأواخر من رمضان حتى يطلع هلال شوال .

فيحتمل أن يكون الشهر ثلاثين يوما فتكون ليلة واحد وعشرين أولى ليالي العشر الأواخر ، وتكون ليالي الوتر ليالي 21 ، و 23 ، و25، و27 ، و 29 .

ويحتمل أن يكون الشهر تسعة وعشرين يوما فتكون ليلة عشرين أولى ليالي العشر الأواخر ، وتكون ليالي الوتر من ليالي العشر الأواخر ليلة 20 ، و 22 ، و 24 ، و 26 ، و 28 ، و30 .

وكل هذا لا سبيل إلى العلم به إلّا بعد هلال شوال ، والعلم بليالي الوتر بعد ذلك لا ينفع من أضاع ليالي من العشر يحسبها غير وتر فكشف طلوع هلال شوال عن كونها وترا .

فهذا يعني أن تحري ليلة القدر يبدأ من ليلة عشرين إلى طلوع هلال شوال ، وهذا أمر غفل عنه علماء العصر ، ولم يتعلمه عوام المسلمين الحريصون على تحري ليلة القدر .

وثاني البراهين : أنه لم يرد في الشرع نصب علامة على ليلة القدر تكون في بدايتها ، وإنما ورد علامتان في صبيحتها :

إحداهما : خاصة برسول الله صلى الله عليه وسلم ، وهو رؤياه الكريمة أن يسجد في صبيحتها على ماء وطين .

وقد صح أن المسجد وكف بالمطر في صبيحة ليلة إحدى وعشرين ، وفي ليلة ثلاث وعشرين . ولم يثبت أن المسجد لم يكف بقية العشر .

قال أبو عبدالرحمن : ولا نستبعد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم علم ليلة القدر بتحقق رؤياه بعد ما أنسيها ، ولكنه لم يعينها لأمته فأمر بتحريها في الوتر من العشر ، وقد قلن لكم إن كل ليلة منذ ليلة العشرين يحتمل أن تكون وترا إلى أن يطلع هلال شوال .

وأخراهما : أن شمس صبيحتها تطلع بلا شعاع .

وما ضمن الله لنا علم ذلك ، فقد يكون ذلك أول طلوعها قبل أن تشرق علينا فنراها .

وثالث البراهين : لو كانت ليلة القدر ليلة إحدى وعشرين أو ثلاث وعشرين ما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : التمسوها في التاسعة والسابعة والخامسة .

ولو كانت ليلة سبع وعشرين ما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : أرى رؤياكم في العشر الأواخر فاطلبوها في الوتر منها .

قال ذلك بمقابل أن رجالاً رأوا أنها ليلة سبع وعشرين .

وإذن فكل ليلة من ليالي الوتر ذكرها رسول الله صلى الله عليه وسلم فهي تفسير للوتر وليست تعييناً لليلة .

ألا فليعلم جميع المسلمين أن المسلم لن يضمن موافقة اجتهاده في العبادة والدعاء لليلة القدر حتى يجتهد العشر الأواخر كلها ابتداء من ليلة عشرين .

واعلموا ـ أيها الأحباب ـ أن ليلة القدر غير متنقلة بمعنى أن تكون في عام مثلاً ليلة ثلاث وعشرين ، وفي عام ليلة سبع وعشرين . بل هي ليلة واحدة ثابتة معينة فعلم الله مبهمة في علم الخلق .

والبرهان على ذلك أن الله سبحانه قال : {إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ }القدر1

ولم يقل في ليلة قدر .

وبرهان آخر وهو أنها لو كانت متنقلة لكانت رؤيا رسول الله صلى الله عليه وسلم للدلالة على عام واحد ، وليس كذلك سياق الحديث ، فسياقه يدل على أنها ليلة ثابتة .

وبرهان ثالث وهو قول رسول الله صلى الله عليه وسلم : (هي في العشر الآواخر في تسع يمضين أو في سبع يبقين)

ولو كانت متنقلة لقال : تارة في تسع ، وتارة في سبع .

وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وحي غير متلو ، وما كان ربك نسيا .

واعلموا ـ أيها الأحباب ـ أن ليلة القدر عظيمة القدر لقوله تعالى:

{خَيْرٌ مِّنْ أَلْفِ شَهْرٍ} القدر3 فهذا أحد معاني تسميتها .

وهي أيضاً ليلة تقدير لقوله تعالى : {فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ }الدخان4

وقوله تعالى : { تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِم مِّن كُلِّ أَمْر}القدر4

وهذا شامل لتقدير الأقدار والأرزاق والآجال في تلك السنة.

وتعليل التسمية بأكثر من معنى وارد ، فإننا نجد في الصلاة الشرعية جميع المعاني اللغوية لمادة الصاد واللام والحرف المعتل .

وحري بمن تحرى ليلة القدر أن يحسن الله خاتمته وأن يحييه حياة طيبة ، لأن الله يمحو ويثبت ، وتحري ليلة القدر التجاء إلى الله واستعاذة بقدرته في وقت إجابة وتقدير وسلام إلى مطلع الفجر .

وما أفتيتكم ـ أيها الأحباب ـ إلّا بمقتضى أصول الأخذ بالظاهر التي أرجو أن ألقى الله عليها متمثلاً لمقتضاها غير مغير ولا مبدل ولا صارف بلا برهان .

ولقد بكرت لكم بالحديث عن ليلة القدر قبل أوقات تحريها لتعقدوا العزم في وقت مبكر ، ولتوطنوا النفس ، وليكون عندكم مهلة للمراجعة إن لم تثقوا بفتواي ، والله المستعان " . ___________

رمضان هبة الرحمن لأهل الإيمان من الأعمال الصالحة في شهر رمضان وبيان ثوابها



رمضان هبة الرحمن لأهل الإيمان (4)

من الأعمال الصالحة في شهر رمضان وبيان ثوابها (1)

الحمد لله، وأشهد أن لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله صلى الله عليه وآله وسلم.

فمن الأعمال الصالحة في شهر رمضان، المسارعة بالتوبة إلى الله تعالى:

لقوله تعالى: ﴿ وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَ الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ﴾ [النور: 31].

وعَن أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّهُ قَالَ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: "وَاللَّهِ إِنِّي لَأَسْتَغْفِرُ اللَّهَ وَأَتُوبُ إِلَيْهِ فِي الْيَوْمِ أَكْثَرَ مِنْ سَبْعِينَ مَرَّةً"[1].

وفي رواية: "إِنِّي لَأَسْتَغْفِرُ اللَّهَ وَأَتُوبُ إِلَيْهِ فِي الْيَوْمِ مِائَةَ مَرَّةٍ"[2].

حب الله تعالى وفرحه لتوبة عبده:

لقوله تعالى: ﴿ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ ﴾ [البقرة: 222].

عن أَنَسٍ بْنِ مَالِكٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لَلَّهُ أَشَدُّ فَرَحًا بِتَوْبَةِ عَبْدِهِ حِينَ يَتُوبُ إِلَيْهِ؛مِنْ أَحَدِكُمْ كَانَ عَلَى رَاحِلَتِهِ بِأَرْضِ فَلَاةٍ فَانْفَلَتَتْ مِنْهُ وَعَلَيْهَا طَعَامُهُ وَشَرَابُهُ فَأَيِسَ مِنْهَا، فَأَتَى شَجَرَةً فَاضْطَجَعَ فِي ظِلِّهَا، قَدْ أَيِسَ مِنْ رَاحِلَتِهِ، فَبَيْنَا هُوَ كَذَلِكَ إِذَا هُوَ بِهَا قَائِمَةً عِنْدَهُ فَأَخَذَ بِخِطَامِهَا، ثُمَّ قَالَ مِنْ شِدَّةِ الْفَرَحِ: اللَّهُمَّ أَنْتَ عَبْدِي وَأَنَا رَبُّكَ، أَخْطَأَ مِنْ شِدَّةِ الْفَرَحِ"[3].

وعَنْ أَبِي مُوسَى عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ يَبْسُطُ يَدَهُ بِاللَّيْلِ لِيَتُوبَ مُسِيءُ النَّهَارِ، وَيَبْسُطُ يَدَهُ بِالنَّهَارِ لِيَتُوبَ مُسِيءُ اللَّيْلِ، حَتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ مِنْ مَغْرِبِهَا"[4].

الحفاظ على الصلاة في جماعة:

عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ - رضي الله عنه - أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -قَالَ: "لَوْ يَعْلَمُ النَّاسُ مَا في النِّدَاءِ وَالصَّفِّ الأَوَّلِ، ثُمَّ لَمْ يَجِدُوا إِلاَّ أَنْ يَسْتَهِمُوا عَلَيْهِ لاَسْتَهَمُوا، وَلَوْ يَعْلَمُونَ مَا في التَّهْجِيرِ لاَسْتَبَقُوا إِلَيْهِ، وَلَوْ يَعْلَمُونَ مَا في الْعَتَمَةِ وَالصُّبْحِ لأَتَوْهُمَا وَلَوْ حَبْوًا"[5].

وعنه - رضي الله عنه - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: "خَيْرُ صُفُوفِ الرِّجَالِ أَوَّلُهَا، وَشَرُّهَا آخِرُهَا، وَخَيْرُ صُفُوفِ النِّسَاءِ آخِرُهَا، وَشَرُّهَا أَوَّلُهَا"[6].

وَعَنِ الْعِرْبَاضِ بن سَارِيَةَ - رضي الله عنه -: أَنَّ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم -: "كَانَ يَسْتَغْفِرُ لِلصَّفِّ الْمُقَدَّمِ ثَلاثًا، وَلِلثَّانِي مَرَّةً"[7].

وعَنِ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ - رضي الله عنه -، قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يَتَخَلَّلُ الصُّفُوفَ مِنْ نَاحِيَةٍ إِلَى نَاحِيَةٍ، يَمْسَحُ مَنَاكِبَنَا وَصُدُورَنَا، وَيَقُولُ: "لاَ تَخْتَلِفُوا فَتَخْتَلِفَ قُلُوبُكُمْ، وَكَانَ يَقُولُ: إِنَّ اللهَ وَمَلاَئِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى الصُّفُوفِ الْمُتَقَدِّمَةِ".

• وفي رواية: كَانَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - يَمْسَحُ صُدُورَنَا فِي الصَّلاَةِ، مِنْ هَا هُنَا إِلَى هَا هُنَا، فَيَقُولُ: سَوُّوا صُفُوفَكُمْ، لاَ تَخْتَلِفُوا فَتَخْتَلِفَ قُلُوبُكُمْ، إِنَّ اللهَ وَمَلاَئِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى الصَّفِّ الأَوَّلِ، أَوْ قَالَ: الصُّفُوفِ[8].

وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ - رضي الله عنه -، قَالَ: سَأَلْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: "أَىُّ الْعَمَلِ أَفْضَلُ؟ قَالَ: "الصَّلاَةُ لِوَقْتِهَا". قَالَ: قُلْتُ: ثُمَّ أَيٌّ؟ قَالَ: "بِرُّ الْوَالِدَيْنِ". قَالَ: قُلْتُ: ثُمَّ أَيٌّ؟ قَالَ: "الْجِهَادُ في سَبِيلِ اللَّهِ"[9].

وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رضي الله عنه - أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: "أَلاَ أَدُلُّكُمْ عَلَى مَا يَمْحُو اللَّهُ بِهِ الْخَطَايَا، وَيَرْفَعُ بِهِ الدَّرَجَاتِ "، قَالُوا: بَلَى يَا رَسُولَ اللَّهِ! قَالَ: " إِسْبَاغُ الْوُضُوءِ عَلَى الْمَكَارِهِ، وَكَثْرَةُ الْخُطَى إِلَى الْمَسَاجِدِ، وَانْتِظَارُ الصَّلاَةِ بَعْدَ الصَّلاَةِ، فَذَلِكُمُ الرِّبَاطُ"[10].

وعَنْه - رضي الله عنه - عَنْ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: "سَبْعَةٌ يُظِلُّهُمْ اللَّهُ فِي ظِلِّهِ يَوْمَ لَا ظِلَّ إِلَّا ظِلُّهُ، الْإِمَامُ الْعَادِلُ، وَشَابٌّ نَشَأَ فِي عِبَادَةِ رَبِّهِ، وَرَجُلٌ قَلْبُهُ مُعَلَّقٌ فِي الْمَسَاجِدِ، وَرَجُلَانِ تَحَابَّا فِي اللَّهِ اجْتَمَعَا عَلَيْهِ وَتَفَرَّقَا عَلَيْهِ، وَرَجُلٌ طَلَبَتْهُ امْرَأَةٌ ذَاتُ مَنْصِبٍ وَجَمَالٍ فَقَالَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ، وَرَجُلٌ تَصَدَّقَ أَخْفَى حَتَّى لَا تَعْلَمَ شِمَالُهُ مَا تُنْفِقُ يَمِينُهُ، وَرَجُلٌ ذَكَرَ اللَّهَ خَالِيًا فَفَاضَتْ عَيْنَاهُ"[11].

وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رضي الله عنه - عَنْ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: "مَنْ غَدَا إِلَى الْمَسْجِدِ أَوَ رَاحَ، أَعَدَّ اللَّهُ لَهُ نُزُلَهُ مِنْ الْجَنَّةِ، كُلَّمَا غَدَا أَوْ رَاحَ"[12].

[1] البخاري (6307)، وأحمد (7780).

[2] أحمد (9806)، وابن ماجة (3815).

[3] البخاري (6309)، ومسلم (2747) واللفظ له.

[4] مسلم(2759)، وأحمد في "المسند" (19547).

[5] البخاري (615)، مسلم (437)، والنسائي (540، 671) وصححه الألباني.

قال في القاموس: التهجير في الهاجرة، والتهجير في قوله صلى الله عليه وسلم: " ولو يعلمون ما في التهجير لاستبقوا إليه " بمعنى التبكير إلى الصلوات، وهو المضي في أوائل وقتها، وليس من الهاجرة. أ هـ

ذكره الألباني في المشكاة (1/198) ط. المكتب الإسلامي.

[6] مسلم (440)، وأحمد(8409، 8629)، وأبو داود(678)والترمذي(224)، وابن ماجة (1000).

[7] صحيح: رواه أحمد(17181) تعليق شعيب الأرنؤوط: حديث صحيح وهذا إسناد منقطع خالد بن معدان إنما يرويه عن جبير بن نفير عن العرباض وبقية رجاله ثقات رجال الشيخين غير أن صحابيه لم يخرج له سوى أصحاب السنن، وابن ماجة (996)، وابن حبان (2159) قال شعيب الأرنؤوط: إسناده صحيح، وابن خزيمة (1558) قال الأعظمي: إسناده صحيح، والحاكم في "المستدرك"(788) وصححه الألباني في "صحيح الجامع" (4952)، و"صحيح الترغيب" (490).

[8] صحيح: رواه أحمد (18541، 18669) وصححه شعيب الأرنؤوط، وأبو داود (664)، وابن ماجه (997) وصححه الألباني.

[9] البخاري (527، 7534)، ومسلم (85)، وأحمد (3973)، والترمذي (173، 1898)، والنسائي (611).

[10] مسلم (251)، وابن حبان (1038) قال شعيب الأرنؤوط: إسناده صحيح.

[11] البخاري (660، 1423)، مسلم (1031).

[12] البخاري (662)، مسلم (669).

مجلة الريان العدد الثاني1429..




 مجلة الريان العدد الثاني1429..
مجلة الريان العدد الثاني1429..

 مجلة الريان العدد الثاني1429.. أما بعد ، معاشر الصائمين .. ما أسرع ما تمضي الأيام .. شهر رمضان ، ضيف كريم استقبلناه بالأمس ، وها هو اليوم قد انتصف، فهل فينا من قهر نفسه وانتصف؟ وهل فينا من قام فيه بما عرف؟ وتشوقت نفسه لنيل الشرف؟

لقد مضى من رمضان صدره، وانقضى منه شطره، واكتمل منه بدره، فاغتنموا فرصة تمرُّ مرَّ السحاب، وادخلوا قبل أن يُغلق الباب .. فإنه يوشك الضيف أن يرتحل، وشهر الصوم أن ينتقل، فأحسنوا فيما بقي، يُغفَر لكم ما مضى، فإن أسأتم فيما بقي أُخذتم بما مضى وبما بقي .

رحل نصف رمضان ، وبين صفوفنا الصائم العابد، الباذل المنفق الجواد، نقي السريرة، طيب المعشر ، فهنيئاً لهؤلاء العاملين ما ادخروه عند رب العالمين .

رحل نصف رمضان ، وبين صفوفنا صائم عن الطعام والشراب، يبيت ليله يتسلى على أعراض المسلمين، وتقامر عينه شهوة محرمة يرصدها في ليل رمضان، يده امتدت إلى عاملٍ مسكين فأكلت ماله، أو حفنةِ ربا فأخذتها دون نظر إلى عاقبة ، أو تأمل في آخرة .


رحل نصف رمضان ، وبين صفوفنا من فاتته صلوات وجماعات، قد آثر النوم والراحة على كسب الطاعات .. وبين صفوفنا بخيلٌ شحيح، أسودُ السريرة، سيءُ المعشر، دخيلُ النية، فأحسن الله عزاء هؤلاء جميعاً في نصفهم الأول، وجبرهم في مصيبتهم، وأحسن الله لهم استقبال ما بقي لهم .


أيها المفرطون في شهر رمضان القائم، هل أنتم على يقين من العيش إلى رمضان قادم؟! فقوموا بحق شهركم، واتقوا الله في سرِّكم وجهركم، واعلموا أن عليكم ملكين يصحبانكم طول دهركم، ويكتبان كل أعمالكم، فلا تهتكوا أستاركم عند من لا تخفى عليه أسراركم.

إن أيام رمضان يجب أن تُعظَّم وتصان، وتُكرَّم ولا تُهان، فهل حبستم غرضكم فيها عن فضول الكلام والنظر؟! وكففتم جوارحكم عن اللهو والأشر؟! واستعددتم من الزاد ما يصلح للسفر؟! أم أنتم ممن تعرض في هذا الشهر للمساخط، وقارف المظالم والمساقط .

في صحيح ابن خزيمة وابن حبان وصححه الألباني أن رسول الله r صعد المنبر فقال: ((آمين، آمين، آمين))، فقال الصحابة: يا رسول الله، إنك صعدت المنبر فقلت: آمين، آمين، آمين!!، فقال : ((إن جبريل عليه السلام أتاني، فقال: من أدرك شهر رمضان فلم يغفر له، فدخل النار فأبعده الله، قل: آمين، قلت: آمين)) [أخرجه ابن خزيمة وابن حبان].وكان قتادة رحمه الله يقول: كان يقال: من لم يغفر له في رمضان فلن يغفر له .

أيها الإخوة المؤمنون ، إننا مسؤولون عن هذه الأوقات من أعمارنا، في أي مصلحة قضيناها؟ أفي طاعة الله وذكره، وتلاوة كتابه وتعلم دينه، أم قضيناها في المقاهي وأمام القنوات ، أو في اللهو واللعب الذي لا يعود علينا بكبير فائدة، بل هو من أسباب البعد عن الله تعالى .

فلنستدرك باقي الشهر، فإنه أشرف أوقات الدهر، هذه أيام يحافظ عليها وتصان، هي كالتاج على رأس الزمان، ولنعلم أننا مسؤولون عما نضيعه من أوقات وأحيان .

أيها المؤمنون، إن شهر رمضان شهر العتق من النيران، شهر فكاك الرقاب من دار الشقاء والحرمان ، فعن أبي أمامة رضي الله عنه قال: قال رسول الله : ((لله عز وجل عند كل فطر عتقاء)) [أخرجه أحمد والطبراني وحسنه الألباني .

فاجتهدوا – يرعاكم الله – ما استطعتم في إعتاق رقابكم، وفكاك أبدانكم، وشراء أنفسكم من الله جل جلاله.

أيها المؤمنون، هذا أوان التوبة والاستغفار، والأوبة والانكسار .

متى يتوب ، من لم يتب في رمضان؟ ورغم أنف رجل أدرك رمضان فلم يغفر له .

إن رمضان فرصة للمذنبين.. فالشياطين مصفدة.. وشهوات النفس مقيدة .. والنفحات ممنوحة .. وأبواب الجنة مفتوحة.   قال ابن رجب: وما في هذه المواسم الفاضلة موسمٌ إلا ولله تعالى فيه وظيفة من وظائف طاعته، ولله فيه لطيفة من لطائف نفحاته، يصيب بها من يعود بفضله ورحمته عليه، فالسعيد من اغتنم مواسم الشهور والأيام والساعات، وتقرب فيها إلى مولاه بما فيها من وظائف الطاعات فعسى أن تصيبه نفحة من تلك النفحات فيسعد بها سعادة يأمن بعدها من النار وما فيها من اللفحات . اهـ

وقد روى الطبراني وحسنه الألباني في السلسلة الصحيحة عن أنس t أن النبي r قال: "افعلوا الخير دهركم وتعرضوا لنفحات رحمة الله فإن لله نفحات من رحمته يصيب بها من يشاء من عباده" .

الله أكبر .. هذه نفحات القدس قد تنزلت .. هذه نسمات الأنس قد هبت .. هذه بساتين الجنان قد تزينت .. وجدير بالمؤمن أن يشمر ويجتهد .. وحري بالغافل أن يعاجل ، وجدير بالمقصر أن يشمر . وأن يقصر عن التقصير في الشهر القصير .

 

مع القرآن في شهر القرآن

بقلم وليد بن إدريس المنيسي

zWz03691

 

 

 

 

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وأصحابه أما بعد


إنّ شهر رمضان هو شهر القرآن، قال تعالى:(( شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِى أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لّلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِّنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ ))[البقرة:185]، أنزل الله عز وجل فيه القرآن من اللوح المحفوظ إلى بيت العزة من السماء الدنيا، وهو بيت لله حيال الكعبة، وكان هذا الإنزال جملة واحدة في ليلة القدر من رمضان، ثم أنزل الله عز وجل القرآن الكريم مُفرّقًا في ثلاث وعشرين سنة، يستمع الروح الأمين جبريل عليه السلام إلى الآيات من رب العزة سبحانه، ثم ينزل بها على قلب رسول الله .

وكانت بداية هذا النزول أيضًا في شهر رمضان في ليلة القدر لمّا نزل جبريل عليه السلام على رسول الله بالآيات الأولى من سورة العلق ((اقْرَأْ بِاسْمِ رَبّكَ الَّذِى خَلَقَ خَلَقَ الإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ اقْرَأْ وَرَبُّكَ الأَكْرَمُ الَّذِى عَلَّمَ بِالْقَلَمِ عَلَّمَ الإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ [العلق:1-5]. قال تعالى: (وَإِنَّهُ لَتَنزِيلُ رَبّ الْعَالَمِينَ نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الأمِينُ عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ بِلِسَانٍ عَرَبِىّ مُّبِينٍ)) ولأجل اختصاص شهر رمضان بالقرآن الكريم فقد كان النبي يخصه بالإكثار من تلاوة القرآن وتدارسه، فكان يختم القرآن في كل رمضان مرة أو مرتين، قراءة على جبريل عليه السلام سوى قراءته لنفسه ، وكان يأتيه جبريل عليه السلام في كل ليلة من ليالي رمضان، فيتدارسان القرآن كما ثبت في صحيح البخاري من حديث ابن عباس رضي الله عنها.

واقتدى الصحابة وسلف الأمة برسولنا الكريم ، فكانوا يختمون القرآن في رمضان مرات عديدة في الصلاة وخارج الصلاة، وكان الإمام مالك إذا دخل شهر رمضان يفر من إقراء الحديث ويتفرغ لقراءة القرآن من المصحف، وكان بعض السلف يقول عن شهر رمضان: "إنما هو لقراءة القرآن وإطعام الطعام".

أيها المسلمون، إن القرآن الكريم هو الكتاب المنير، وهو الذكر الحكيم، وهو الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، وصفه الذي تكلم به وأنزله إلينا بأنه الكتاب المنير؛ لأنه ينير للإنسان طريقه، وينقذه من الظلمات، وينير للمسلم قلبه، فيمتلئ سعادة ورضًا وطمأنينة، وسماه الله تعالى الفرقان؛ لأنه يفرق بين الحق والباطل، قال تعالى: (وَأَنزَلَ التَّوْرَاةَ وَالإِنجِيلَ مِن قَبْلُ هُدًى لّلنَّاسِ وَأَنزَلَ الْفُرْقَانَ [آل عمران:3، 4].

قال تعالى: (الَّذِينَ ءامَنُواْ وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلاَ بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ [الرعد:28]، وقال تعالى: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ ءايَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ [الأنفال:2].

أيها المسلمون، إن هذا القرآن الكريم هو الهدى والشفاء والرحمة، فقد سماه ربنا سبحانه هدى وشفاءً ورحمة فقال تعالى: قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ ءامَنُواْ هُدًى وَشِفَاء وَالَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ فِى ءاذَانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى [فصلت:44]، وقال سبحانه: وَنُنَزّلُ مِنَ الْقُرْءانِ مَا هُوَ شِفَاء وَرَحْمَةٌ لّلْمُؤْمِنِينَ وَلاَ يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إَلاَّ خَسَارًا [الإسراء:82].

أيها المسلمون، إن القرآن الكريم هو الذي يحيي قلب المسلم إذا مات، وينبهه إذا غفل، فعن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال: قال : ((مثل الذي يذكر ربه والذي لا يذكر ربه مثل الحي والميت)) رواه البخاري.

والقرآن الكريم هو الذي يملأ قلب المسلم رجاءً إذا أصابه يأس أو قنوط، وهو الذي يملأ قلبه حذرًا وخوفًا إذا أصابه أمن من مكر الله وعُجْب وغرور.

لقد وصف الوليد بن المغيرة ـ قبحه الله ـ وهو عدو لدود لرسول الله ، وصف هذا الكتاب لما سمعه فقال: ما هو بكلام الإنس، وما هو بكلام الجن، وإن فيه لحلاوة، وإن عليه لطلاوة، وإن أعلاه لمثمر، وإن أسفله لمغدق. والفضل ما شهدت به الأعداء.

وقد تحدى الله عز وجل الإنس والجن أن يأتوا بمثل هذا القرآن، وبين سبحانه أنهم لم يفعلوا ولن يفعلوا، فقال سبحانه: (وَإِن كُنتُمْ فِى رَيْبٍ مّمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُواْ بِسُورَةٍ مّن مِّثْلِهِ وَادْعُواْ شُهَدَاءكُم مِّن دُونِ اللَّهِ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ فَإِن لَّمْ تَفْعَلُواْ وَلَن تَفْعَلُواْ فَاتَّقُواْ النَّارَ الَّتِى وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ [البقرة:23، 24]، وقال سبحانه: (قُل لَّئِنِ اجْتَمَعَتِ الإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَن يَأْتُواْ بِمِثْلِ هَاذَا الْقُرْءانِ لاَ يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا [الإسراء:88]. لا يأتون بمثله في صدق أخباره، ولا في عدل شرائعه، ولا في جمال ألفاظه، ولا في جلال معانيه.

لقد رغَّب رسول الله في تلاوة كتاب الله أعظم ترغيب فقال: ((من سرّه أن يحب الله ورسوله فليقرأ في المصحف)) رواه البيهقي في الشعب عن ابن مسعود رضي الله عنه وحسنه الألباني صحيح الجامع (6289)، وعن ابن مسعود أيضًا قال : ((من قرأ حرفًا من كتاب الله تعالى فله به حسنة، والحسنة بعشر أمثالها، لا أقول الَمِ حرف، ولكن ألف حرف، ولام حرف، وميم حرف)) رواه الترمذي وصححه، وروى البخاري ومسلم عن عائشة رضي الله عنها عن النبي : ((الذي يقرأ القرآن وهو ماهر به مع السفرة الكرام البررة، والذي يقرأ القرآن ويتتعتع فيه وهو عليه شاقّ له أجران))، وروى مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي : ((ما جلس قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده)).

قد حذرنا الله تعالى من هجر القرآن، وبيّن سبحانه أن الرسول سيشكو إلى ربه يوم القيامة مِنْ هجر قومه القرآن، قال تعالى: وَقَالَ الرَّسُولُ يارَبّ إِنَّ قَوْمِى اتَّخَذُواْ هَاذَا الْقُرْءاَنَ مَهْجُورًا [الفرقان:30].

وهجر القرآن أنواع، منها هجر تلاوته، وهجر العمل به، وهجر تدبره، وهجر التحاكم إليه، وهجر الاستشفاء به.

 

 

فعلينا أن نتلو القرآن وأن نتدبره، فإن الله تعالى بيّن أن الذي لا يتدبر القرآن على قلبه أقفال تحول دون وصول الهدى والنور، فقال سبحانه: أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْءانَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا [محمد:24].

وعلينا أن نعمل بأحكام القرآن، فإن الله تعالى ما أنزله إلا لتطاع أوامره وتجتنب نواهيه، وعلينا أن نجعل القرآن حكمًا على بيوتنا وعلى مجتمعاتنا، وعلينا أن نربي به أنفسنا وأولادنا، فإن القرآن شفاء للأبدان كما هو شفاء للأرواح والقلوب.

أيها المسلمون، علينا أن نتطلع إلى حفظ القرآن الكريم والعمل به، حتى نكون من أهل الله، فإن أهل القرآن هم أهل الله تعالى، عن أنس رضي الله عنه قال : ((إن لله تعالى أهلين من الناس، وأهل القرآن هم أهل الله تعالى وخاصته)) رواه ابن ماجه وأحمد والنسائي وهو في صحيح الجامع (2165).

اللهم اجعلنا من أهل القرآن، وارزقنا تلاوته آناء الليل وأطراف النهار على الوجه الذي يرضيك عنا.

 

 

 

 

 

 

 


لئن أدركت رمضان ليَرينَّ اللهُ ما أصنع  !!


للشيخ : عمر بن عبد الله المقبل .


أخذ صاحبي مكانه في مصلى العيد، وبدأ يناجي نفسه ويحادثها، ويسترجع معها شريط الذكريات لشهر كاملٍ... شهرٍ مضى وكأنه يوم واحد... جلس وهو يعتصر ألماً على تلك الليالي التي تصرمت، والأيام التي تقضت، ومما زاد ألمه أنه قارن نفسه ببعض من حوله، فإذا المسافة بينه وبينهم كبيرة.. لقد دخلوا الميدان في يوم واحد بل في ساعة واحدة، ولكنه تباطأ وسوّف؛ بل ونام كثيراً حتى سبقه السابقون، لقد حاول أن ينظر إليهم بمقرب الصور ( الدربيل ) فلم يستطع، فقد سبقوه سبقاً بعيداً، وظفروا بالجوائز الكبرى..
استنجد صاحبي بذاكرته ليقلب من خلالها صفحات عمله في هذا الشهر الذي انصرم، لعله يجد فيها ما يرفع من معنويات نفسه المنكسرة، فبدأ يقلب صفحات البر التي تيسر له أن يقوم بشيء منها.. ففتح صفحة قراءة القرآن، فإذا هو لم يكد يصل إلى ختمة واحدة إلا بشق الأنفس ! وهو يسمع ـ ليس في أخبار السلف السابقين ـ بل في أخبار أناس حوله من الصالحين بل ومن الشباب من ختم خمس مرات، ومن ختم ست بل وعشر مرات !!
حاول أن يخفف حسرته هذه ليفتح صفحة البذل والجود والعطاء لمن هم حوله أو لمن هم خارج بلاده من منكوبي المسلمين، خاصة وأنه يعلم أن الله تعالى قد أعطاه وأنعم الله عليه بالمال، وإذا هو لم يكن له النصيب الذي يليق بمثله من الصدقة والصلة والإحسان.. تنهد .. سكت قليلاً... نظر فإذا صدقته وبذله لا يتناسب مع ما آتاه الله تعالى من المال.. فالسائل والمحروم ليس لهم من ماله في هذا الشهر نصيب إلا النـزر اليسير، بل قد يكون بعض كرام النفوس الذين عافاهم الله تعالى من شح النفس ـ مع قلة ذات أيديهم ـ أكثر منه بذلاً...
أشاح بوجهه عن هذه الصفحة، وحاول أن يخفي ألمه وحسرته، بتقليب صفحة أخرى لعله يجد نفسه سابقاً ولو في ميدان واحد، فإذا بصفحة صوم الجوارح تواجهه، وهنا أسقط في يده، لقد تذكر ليالٍ كثيرة أطلق لبصره ولسمعه وللسانه فيها العنان...
تذكر تلك المجالس التي يجتمع فيها هو وأصحابه على مشاهدة البرامج التي يعدها قطاع الطريق في هذا الشهر المبارك ـ طريق الجنة ـ من الدعاة إلى أبواب جهنم ببرامجهم الفضائحية... من أفلام ومسلسلات يستحي العاقل ـ فضلاً عن المؤمن المشفق على قلبه وعمله ـ أن يشاهدها في غير رمضان فكيف في شهر الرحمة والرضوان ؟!
وتذكر صاحبنا ـ والألم والحسرة يكادان يفلقان كبده ـ كم ضاع وقته في تتبع المسابقات الدنيوية في الصحف والقنوات التي أشغلته عن المسابقات الأخروية... تذكرها وهو يبكي على ما أصيب به من خذلان : كيف أشغل نفسه بمسابقات دنيوية نسبة فوزه بها في أحيان كثيرة تصل إلى الواحد من 500.000 أو أكثر، يبذل فيها جهداً ومالاً ووقتاً، وفي النهاية لا يفوز إلا خمسة أو عشرة أو حتى مئة من ملايين المتسابقين ! تذكرها وهو يعاتب نفسه كيف أعرضت عن مسابقات الفوز بها مضمون؟! وأي فوز هو ؟ إن جائزة مسابقتنا هي الجنان، ورضا الرحمن، وأنهار، وأشجار، وحور عين كأمثال اللؤلؤ المكنون ، ونسبة الفوز فيها لمن أخلص وتابع مضمونة 100% !! ولكنه حب الدنيا الذي زاد عن حده، واللهث وراءها !!
وبينما هو جالس في المصلى، التفت صاحبي في مصلى العيد فرأى بعض أصحابه في الاستراحة و الجلسة الليلية الرمضانية... رآهم في أحسن حُلّة، وأجمل لباس، والابتسامات تتوزع هنا وهناك...
ولما حوّل بصره إلى ناحية أخرى نظر فإذا جملة من العباد والصالحين في مقدمة الصفوف ممن عرفهم بأنواع الطاعات وأصناف القربان، رآهم والبشر والسرور يطفح على وجوههم ، وكأن الواحد منهم ـ لولا خشية إفشاء العمل ـ لقال بلسان حاله : هاؤم اقرؤوا كتابيه .. لقد لبسوا الجديد كما لبسه أصحابه، ولكن شتان بين ابتسامة وابتسامة !! وشتان بين جديد وجديد... ، هنا، أخذت الأحاسيس تتردد في نفسه، وبدأت الأسئلة تتدفق على ذهنه... هؤلاء أصحابي الذين أمضيت ما أمضيت معهم من الوقت فيما لا فائدة فيه؛ بل فيما حرَّم الله أحياناً.. على ماذا يبتسمون يا ترى ؟! أهم يبتسمون ويضحكون على التخلص من رمضان أم على ماذا ؟ أم فرحا بإطلاق العنان لشهوات النفس ؟ أم على لبس الجديد أم على ماذا يا ترى ؟ وتذكر لحظتها كلمة سمعها في خطبة العيد العام الماضي : ليس العيد لمن لبس الجديد ، ولكنه لمن رضي عنه ربُّ العبيد ، وأعتقه من العذاب الشديد ...
طافت به هذه التساؤلات وهو يقلب طرفه في أولئك الصالحين والعباد وهو يتذكر ما قرأه في بعض الكتب ، وهو أن الصالحين يفرحون بالعيد لتمام نعمة الله عليهم ببلوغ الشهر وتمامه ، والرجاء يحدوهم من الرب الكريم أن يقبله منهم ! وتذكر تلك الكلمة التي سمعها من إمام المسجد، والتي كان الإمام يحيى بن أبي كثير يقولها إذا جاء شهر رمضان : اللهم سلمني لرمضان وسلم لي رمضان ، وتسلمه مني مُتقبلا.
خرج صاحبنا من مصلى العيد ، وهو يعد نفسه الوعود الصادقة ، ويمنيها بالعزمات الأكيدة ، ويقول في نفسه : لئن أحياني الله تعالى إلى رمضان القادم ليَرينَّ اللهُ ما أصنع !! ولأعيشنَّ هذه الفرحة التي عاشها الصالحون العاملون...
هذه ـ أخي الحبيب ـ مشاعر نادم على التفريط، جالت في ذهنه وبسرعة وهو في مصلى العيد ينتظر الصلاة مع المسلمين في عيد الفطر الماضي...
وهي بالتأكيد مشاعر كل مؤمن في قلبه حسٌ وإدراك لفضائل هذا الشهر الكريم، ومناقبه وعظيم منزلته عند الله  .
ودارت الأيام، وأقبل شهر رمضان، وهاهو اليوم ينقل لكم عزمه وتصميمه ـ بإذن الله ـ على استغلال أيام وليالي هذا الشهر المبارك بكل ما يستطيع!.
ومما زاد من عزمه وتصميمه أنه نظر من حوله، فإذا الموت قد أخذ واحداً من أفراد عائلته، وشخصاً من حيهم الذي يسكن فيه، كما أن زميله في العمل أو الدراسة قد وافته هو الآخر منيتُه.. كل ذلك جعله يحمد الله أن أمهله حتى وصل إلى هذا اليوم راجياً من ربه أن يبلغه الشهر الكريم، فقد تقطع قلبه شوقاً إليه ...
وما له لا يشتاق، وهو يسمع فضائله العظيمة، ومناقبه الكبيرة ؟ أليس هو شهر القرآن، والرحمة والدعاء، والمغفرة، والرضوان ؟!
ما له لا يشتاق، بل لو تقطع قلبه شوقاً لما كان ـ وربي ـ ملوماً ، وهو يسمع قول الحبيب صلى الله عليه وسلم يقول : "من صام رمضان إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه " ؟ "ومن قام رمضان إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه" ؟ "ومن قام ليلة القدر إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه" ؟
أَيُلام هذا ؟! وهو يعلم أن الذي يعده بهذه الكنوز ليس قناة فضائية ولا صحيفة سيارة، بل الذي يعده هو محمد -صلى الله عليه وسلم- ؟!.
أًيُلام هذا على شوقه، وهو يسمع حديث المصطفى عليه الصلاة والسلام: "إذا دخل رمضان فتحت أبواب الجنة ، وغلقت أبواب النار ، وصفدت الشياطين " ...
لا تلوموه ـ يا أحبة ـ فهو يعلم أن أبواب الجنة ما فتحت، وأن أبواب النار لم تغلق من أجل الملائكة ! ولا من أجل الجبال ! ولا من أجل الشجر ! ولا من أجل الدواب ! بل فتحت أبواب الجنة من أجله هو


وإخوانه المؤمنين إنسهم وجنهم ...
نعم ! من أجله هو من بين مخلوقات السماوات والأرض ! ولا أغلقت أبواب النار إلا لأجله هو... أفَيُلامُ هذا على فرحه وسروره وغبطته وحبوره؟!
من ذا الذي يلومه ؟! وهو يسمع قول النبي -صلى الله عليه وسلم-: "من قرأ القرآن فله بكل حرف عشر


حسنات" وقد علم أن القرآن ثلاثُمائة ألف حرف تقريباً، أي أنه في الختمة الواحدة له ثلاث ملايين حسنة ! وفضل الله أوسع وأعظم ولسنا نعده ولا نحصيه، فإذا ضوعفت الحسنة إلى سبعمائة ضعف، فمن الذي يستطيع عد ذلك ؟! .
فنسأل الله تعالى، وهو واسع الفضل والعطاء، ذو المن والجود والكرم والسخاء، نسأله أن يمن علينا وعلى أخينا الكريم باستغلال أيام العمر فيما يرضيه عنا، وأن لا يحرمنا فضله بذنوبنا، ولا نواله بسوء فعالنا، إن ربي لطيف لما يشاء، إنه هو العليم الحكيم.


ramadan-time


 

 

 

 

 

 

 

أحاديث نبوية في الصيام فوائد وأحكام


للشيخ إبراهيم بن محمد الحقيل


عَنْ عَائِشَةَ رَضيَ الله عَنْهَا قَالَتْ: «كَانَ النَّبيُّ صلى الله عليه وآله وسلم إذا دَخَلَ العَشْرُ شَدَّ مِئزَرَهُ وأَحيَا لَيلَهُ وَأَيْقَظَ أَهْلَهُ» رَوَاهُ الشيخان([1]).

وعَنْ عَائِشَةَ رَضيَ الله عَنْهَا قَالَتْ: «كَانَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وآله وسلم يَجتَهِدُ في العَشْرِ الأوَاخِرِ مَا لا يَجتَهِدُ في غَيْرهِ» رَوَاهُ مسلم([2]).

وعَنْ عَليٍّ t: «أَنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وآله وسلم كَانَ يُوقِظُ أَهْلَهُ في العَشْرِ الأوَاخِرِ مِنْ رَمَضَانَ» رَوَاهُ الترمذي وقَالَ: هذا حَديثٌ حَسَنٌ صَحيح([3]).

وفي لَفْظٍ لِلإمَامِ أَحْمَدَ: «كَانَ الرَّسُولُ صلى الله عليه وآله وسلم إذا دَخَلَ العَشْرُ أَيْقَظَ أَهْلَهُ ورَفَعَ المِئزَرَ، قِيلَ لأَبي بَكْرِ ابْنِ عَيَّاشٍ: مَا رَفْعُ المِئزَرِ؟ قَالَ: اعْتِزَالُ النِّسَاءِ»([4]).

الفوائد والأحكام:

الأول: شِدَّةُ اجْتِهَادِ النَّبيِّ صلى الله عليه وآله وسلم في العِبَادَةِ مَع أَنَّ الله تَعَالَى قَدْ غَفرَ لَهُ مَا تَقدَّمَ مِنْ ذَنْبهِ ومَا تَأَخَّرَ، وأَنَّ اجْتِهَادَهُ في لَيَالِي العَشْرِ أَكْثَرُ مِنْ اجْتِهَادِهِ في غَيرِهَا مِنْ الَّليالي.

الثاني: أَنَّ الهَديَ النَّبَويَّ في العَشْرِ الأخِيرَةِ مِنْ رَمَضَانَ: إِحْياءُ الَّليْلِ بِالصَّلاةِ والذِّكْرِ، واعْتِزَالُ النِّسَاءِ.

الثالث: استِحبَابُ إيقَاظِ الأَهْلِ لِصَلاةِ الَّليْلِ في العَشْرِ الأَوَاخِرِ مِنْ رَمَضَانَ، فَإِنْ كَانَ مِن عَادَتِهم السَّهَرُ في رَمَضَانَ كَما في هَذِهِ الأَزمَانِ فَلْيَكُنْ عَلى الصَّلاةِ والذِّكْرِ لا على الَّلهْوِ والَّلعِبِ.

الرابع: أَنَّهُ يَجوزُ لِلرَّجُلِ حَمْلُ أَهْلِهِ وَوَلَدِهِ عَلى فِعْلِ النَّوَافِلِ، وإِلزَامُهُم بها، وتَجِبُ طَاعَتُهُ في ذَلكَ([5]).

الخامس: اسْتِحْبَابُ استِغرَاقِ الَّليلِ كُلِّهِ في العَشْرِ الأوَاخِرِ بالصَّلاةِ والذِّكْرِ ما أَمْكَنَ ذَلكَ؛ لأَنَّه فِعْلُ النَّبيِّ  صلى الله عليه وآله وسلم كَما هُوَ ظَاهِرُ الأحَادِيثِ، ومَا وَرَدَ مِنَ النَّهْيِّ عَنْ قِيَامِِ الَّليلِ كُلِّهِ فَمَحْمُولٌ عَلى المُدَاوَمَةِ عَلى ذَلِكَ طِوَالَ العَامِِ، وأَمَّا الَّليالي الَّتي لَها مَزيدُ فَضْلٍ كَالعَشْرِ الأَوَاخِرِ فمَخْصُوصَةٌ مِنَ العُمُومِِ([6]).

السادس: أَنَّ الحِكْمَةَ مِنَ الاجْتِهَادِ في لَيَالي العَشْرِ طَلَبُ لَيْلةِ القَدْرِ، ومِنْ رَحْمَةِ الله تَعَالى بِعِبَادِهِ أَنْ جَعَلَهَا مَحصُورَةً في تِلْكَ الَّليالي، وَلَوْ كَانَتْ في كُلِّ العَامِ لَلَحِقَهُمْ في طَلَبِهَا مَشَقَّةٌ عَظِيمَةٌ، ولما أَدْرَكَهَا أَكْثرُ النَّاسِ([7]).     صور ورود

عَنْ سِهْلِ بنِ سَعْدٍ t عَنْ النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «في الجنَّةِ ثَمَانِيَةُ أبْوَابٍ فيهَا بَابٌ يُسَمَّى الرَّيَّانُ لا يَدْخُلُهُ إِلاّ الصَّائِمُونَ» رَوَاهُ الشَّيخَان([8]).

وفي لَفْظٍ لِلْبُخَاريّ: «إِنَّ في الجَنَّةِ بَاباً يُقَالُ لهُ الرَّيَّانُ يَدخُلُ منهُ الصَّائِمونَ يَوْمَ القِيامَةِ لا يَدخُلُ منْهُ أحَدٌ غَيرُهُمْ، يقَالُ: أَيْنَ الصَّائِمونَ؟ فَيَقُومُونَ، لا يَدخُلُ منْهُ أَحَدٌ غَيرُهُم، فَإِذا دَخَلُوا أُغْلِقَ فَلَم يَدخُلْ مِنْهُ أَحَدٌ»([9]).

وفي لَفْظٍ للتِّرمِذِيّ: «إِنَّ في الجنَّةِ لبَاباً يُدعَى الرَّيَّانُ، يُدعَى لهُ الصَّائِمُونَ، فَمَنْ كَانَ مِنَ الصَّائِمِينَ دَخَلَهُ، وَمَنْ دَخَلَهُ لم يَظْمَأْ أَبَداً»([10]).

وعَنْ أبي هُرَيرَةَ t أَنَّ رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم قَالَ: «مَنْ أَنفَقَ زَوجَينِ في سَبيلِ الله نُودِيَ مِنْ أبْوابِ الجَنَّةِ: يا عَبدَ الله: هَذَا خَيْرٌ، فَمَنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الصَّلاةِ دُعِيَ مِنْ بَابِ الصَّلاةِ، ومَنْ كَانَ منْ أهْلِ الجِهادِ دُعِيَ من بَابِ الجِهادِ، ومَنْ كَانَ مِنْ أهْلِ الصِّيَامِ دُعِيَ من بَابِ الرَّيَّانِ، ومَنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الصَّدَقَةِ دُعِيَ من بَابِ الصَّدَقَةِ، فقَالَ أَبو بَكْرt : بِأَبي وأُمِّي يا رَسُولَ الله، مَا عَلى مَن دُعِيَ من تلكَ الأَبوَابِ مِنْ ضَرُورَةٍ فَهَلْ يُدْعَى أَحَدٌ من تِلكَ الأَبوَابِ كلِّها؟ قَالَ: نَعَم، وأَرجُو أن تَكُونَ مِنهُم» رواه الشيخان([11]).

وفي لَفظٍ لَهُما: «دُعَاه خَزَنَةُ الجَنَّةِ، كُلُّ خَزَنَةِ بَابٍ أَيْ: فُلْ، هَلُمَّ»([12]).

وفي لَفظٍ للإِمامِ أَحْمدَ: «لِكلِّ أَهْلِ عَمَلٍ بَابٌ مِنْ أَبْوَابِ الجَنَّةِ يُدْعَونَ بذَلكَ العَمَل، ولأَهْلِ الصَّيامِ بَابٌ يُدْعَوْنَ مِنهُ، يُقَالُ لَهُ: الرَّيَّان، فقَالَ أَبو بَكر: يا رَسُولَ الله، هَلْ أَحَدٌ يُدْعَى مِنْ تِلْكَ الأَبْوابِ كُلِّها؟ قَالَ: نَعَم، وأَرجُو أنْ تَكُونَ مِنهُم يا أَبا بَكْر»([13]).

وأَبُو بَكْرٍ t حِينَ سَأَلَ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم يَقصِدُ بذَلكَ أنَّ مَنْ دُعِيَ مِنْ بَابٍ وَاحِدٍ مِنْ أَبوَابِ الجَنَّةِ فَإِنَّ ذَلكَ يَكفِيهِ، وليسَ مُحْتَاجَاً إلى أنْ يُدْعَى منْ كُلِّ الأَبْوابِ، إذْ يَحصُلُ مقْصُودُهُ بِدُخُولِ الجَنَّةِ، ومعْ ذَلكَ فهَلْ يُدعَى أَحَدٌ من كلِّ الأَبوَاب؟ فَأَجَابَهُ النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم بِنَعَم.


الفوائد والأحكام :

الأول: فَضيلَةُ الصِّيامِ حَيْثُ اُخْتُصَّ بِبَابٍ مِنْ أَبْوابِ الجَنَّةِ الثَّمانِيةِ.

الثاني: بَابُ الرَّيَّانِ عَلَمٌ عَلى بَابٍ في الجَنَّةِ، وهُوَ مُشْتَقٌّ مِنَ الرِّيِّ وهُوَ ضِدُّ العَطَشِ، ولما كَانَ الصَّائِمُ حَابِسَاً نَفسَهُ عَنْ المَاءِ وهُوَ أشَدُّ ما يَحتاجُ إليهِ الإِنسَانُ نَاسَبَ أَنْ يَكُونَ جَزَاؤُهُ أَنْ يَروَى في الآخِرَةِ ولا يَظمَأُ أَبَدَاً.

الثالث: أنَّ للطَّاعَاتِ المذكُوُرَةِ في الحَديثِ وَهِيَ: الصَّلاةُ والجِهادُ والصِّيامُ والصَّدَقَةُ أَبوَاباً في الجَنَّةِ، كُلُّ بَابٍ يَختَصُّ بأَهْلِ هَذِهِ الطَّاعَةِ، والمَقصُودُ مَنْ كَانَ الغَالِبُ عَلَيهِ في عَمَلِهِ وطَاعَتِهِ ذَلكَ.

الرابع: أنَّ لأَبْوَابِ الجَنَّةِ خَزَنَةً مِنَ المَلائِكَةِ يَدْعُونَ كُلَّ صَاحِبِ عَمَلٍ مِنْ بَابِهِ المُختَصِّ بهِ حَسَبَ عَمَلِهِ، وهَذا دَلِيلٌ عَلى أَنَّ المَلائِكَةَ يُحِبُّونَ صَالِحِي بَنِي آدَم ويَفرَحُونَ بهم([14]).

الخامس: فَضلُ أبي بَكر t ، وأَنَّهُ يُدعَى منْ كُلِّ الأَبْوابِ؛ لأَنَّهُ يَعمَلُ بِأَعْمَالِها، والرَّجَاءُ مِنَ النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم في قَولِهِ لأبي بَكر «وَأَرجُو أنْ تَكُونَ مِنهُم» وَاقِعٌ لا مَحَالةَ، وجَاءَ في حَديثِ ابنِ عبَّاسِ رَضيَ الله عَنْهُما مَا يُفِيدُ أَنَّ أَبا بَكرٍ يُدْعَى مِنْ كُلِّهَا، بَلْ وَمِنْ كُلِّ دُورِ الجنَّةِ وَغُرَفِهَا ([15]).السادس: في الحَدِيثِ إِشعَارٌ بِقِلَّةِ من يُدْعَى من تِلكَ الأَبْوَابِ كُلِّها([16]).

السابع: في الحدِيثِ إِشارَةٌ إِلى أَنَّ المُرادَ ما يُتَطَوَّعُ به مِنَ الأَعْمَالِ المذْكُورَةِ لا وَاجِبَاتِهَا؛ لِكَثْرَةِ من يَجتَمِعُ له العَمَلُ بالوَاجِبَاتِ كلِّها، بِخِلافِ التَّطَوُّعاتِ فَقَلَّ مَنْ يَجتَمِعُ له العَمَلُ بجَميعِ أَنوَاعِ التَّطَوُّعاتِ فَيُنَادَى من كلِّ الأَبوَاب([17]).

الثامن: جَوازُ الثَّناءِ على الإنْسَانِ في وَجهِهِ إذا لَم يُخفْ عَليهِ فِتنَةٌ بإعجَابٍ وغَيْرِه([18]).

التاسع: أَنَّ دُعَاءَ مَنْ أَتَى بهذِهِ الأَعمَالِ الصَّالِحَة كُلِّها، ودَاوَمَ عَليهَا مِنْ كُلِّ أبوَابِ الجَنَّة تكْرِيمٌ له وتَشرِيف، ولكِنَّه يَدْخُل من بَابٍ واحِدٍ منها.

العاشر: أَنَّ أعمَالَ البِرِّ لا يُفتَحُ في الأغْلَبِ للإِنسانِ الوَاحِدِ في جَمِيعِها، وأَنَّ مَنْ فُتِحَ له في شَيءٍ منها حُرِم غَيرَها في الأَغلَب، وأَنَّهُ قدْ يُفْتَحُ في جَمِيعِهَا للقَلِيلِ مِنَ النَّاسِ، وأَنَّ أَبا بَكرٍ t مِنْ ذَلكَ القَليل([19]).

الحادي عشر: أَنَّ مَنْ أَكثَرَ مِنْ شَيءٍ عُرِفَ به، ونُسِبَ إليْه، أَلا تَرى إلى قَولهِ صلى الله عليه وسلم: «فَمَن كَانَ مِنْ أَهلِ الصَّلاةِ» يُريدُ مَنْ أَكثَرَ منهَا فَنُسِبَ إِليها، وإلا فَجَميعُ المُسلِمينَ مِنْ أَهلِ الصَّلاة([20]).



رمضان شهر الانتصارات بقلم عبد الرحمن السعيدي


إن شهر رمضان المبارك يحمل في سجله التاريخي عبر الأزمنة والعصر الإسلامي انتصارات للأمة المسلمة وانكسارات لأعدائها، فأعظم الفتوحات والانتصارات الإسلامية تمت في هذا الشهر الكريم وإذا تحدثنا عن النصر والانتصار فيجب أن نذكر قرين النصر وهو الجهاد والاستشهاد ولا جهاد إلا بالصبر والتحمل ولا يتحقق النصر إلا بالثبات والتضحية قال الله jalalah﴿ يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ (7)﴾( محمد).
وعلى الرغم من إن المسلمين كانوا يبذلون جهدهم وأقصى ما عندهم من جهد فلم يمنعهم ذلك من بذل جهدهم في الجهاد ونصرة الدين ومواجهة جحافل الكفر والاستعمار على مدا التاريخ.

أولاً: غزوة بدر الكبرى السنة الثالثة هجرية

ففي العام الثاني من الهجرة وقعت معركة الفرقان وهي من أهم المعارك عند المسلمين فكانت بداية تأسيس النصر وشروطه الأساسية وكانت كلمة الله هي العليا وكلمة الذين كفروا هي السفلى وهي أولى المعارك بين المسلمين والكفار ولو لا أن الله كتب النصر في هذه المعركة لدينه وجنده ورسوله محمد prophetلأندثر الإسلام كما كان يخاطب النبي prophetربّه فقال :" اللهّم إن تهلك هذه العصابة فلن تعبد في الأرض".

ثانيا: فتـح مكة المكرمة السنة الثامنة

في العشرين من رمضان السنة الثامنة هجرية كان الفتح العظيم والمبين لقوله jalalah﴿ إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحاً مُّبِيناً(1)ْ﴾(الفتح) فدخل الرسول prophetمكة فاتحا بعد أن أخرج منها كرها فعاد إليها فاتحا بعشرة ألاف من المقاتلين ودخلها وطهرها من الأوثان والأصنام وقال للناس بعد فتحها ﴿ وَقُلْ جَاء الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقاً(81)(الإسراء).

ثالثاً: موقعة أو معركة البويب 13 هـ بالعراق

في رمضان من العام 13 هـ في خلافة عمر بن الخطاب sahabyوقعت موقعة البويب على ضفاف نهر الفرات في بلاد فارس وكانت المواجهة بوصية من أبي بكر قبل وفاته sahabyوالذي قاد جيش المسلمين هو الصحابي الجليل المثنى بن حـارثة sahabyوانتصر المسلمون على الفرس ورفع الله لواء الإسلام.

رابعاً: فتـح الأندلـس سنة 92 هجرية

وفي رمضان عام 92 هـ فتح الله الأندلس على يد المسلم البربري الجزائري طارق بن زياد قدس الله سرّه بعد أن انتصر المسلمون على جيوش بلاد القوط الأسبان بقيادة القائد القوطي روزريق وكان يوما مشهودا من أيام رمضان المبارك حيث قال القائد المسلم كلمة خالدة حرق المسلمين على الجهاد والاستشهاد "يأيّها المسلمون البحر وراءكم والعدو أمامكم" بعد أن أحرق سفنهم ومراكبهم لكي لا يفروا من المعركة وانتصروا بهذه الروح الجهادية في رمضان المبارك.

خامساً: فتح عموريـة سنة 223 هجرية.

وفي شهر رمضان من عام 223 هجرية كان فتح عمورية إحدى المدن الرومية المعروفة بقوة الحصون وأنها في الخطوط الأمامية للخلافة الإسلامية وكان سبب المعركة إن جيش الروم أغاروا على المسلمين واسروا مجموعة من المسلمين وكانت من بينهم امرأة استنجدت بالمعتصم بالله خليفة المسلمين حيث صرخت بأعلى صوتها "يا معتصماه " فوصلت صرختها مسامع الخليفة فجهز جيشا عرمرم لا قبل للروم به فدكّ حصون عمورية وفتحها وفك أسر المسلمين وغيرهم حتى النصارى واليهود الذين كانوا في سجون الروم وكان المعتصم بالله على رأس الجيش وذلك في شهر رمضان الكريم.

سادسا: معركــة عين جالوت عام 658 هجرية

وفي رمضان عام 658 هـ دارت رحى معركة عين جالوت على ارض فلسطين الحبيبة وكانت المعركة بين المسلمين المماليك بقيادة القائد الفذ المظفر قطز وبين جحافيل المغول الهمجيين الوثنيين الذين عاثوا في الأرض فساداً وزرعوا في المسلمين الخوف والرعب بعد إن دكوا في طريقهم كل العواصم الإسلامية منها عاصمة الخلافة بغداد فكسر القائد المملوكي حاجز الخوف وتحدى المغول وأباد جيشهم وهزمهم شر هزيمة في رمضان عام 658 هجرية بعين جالوت.

سابعاً: فتح مدينة إنطاكية عام 666 هجرية

في شهر رمضان عام 666 هـ كان فتح إمارة إنطاكية عاصمة الصليبين في بلاد الشام وقاد هذا الفتح العظيم القائد المملوكي الظاهر بيبرس sahabyالذي كتب على يديه هزيمة المغول للمرة الثانية والصليبين ورفع الله به راية الإسلام.

 

 

ثامناً : معركة شقحب عام 702 هجرية

في رمضان من عام 702 هـ كانت معركة شقحب على مشارف مدينة دمشق بين المسلمين بإيعاز وتعبئة شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى وبين المغول بعد أن استباحوا ديار المسلمين مرة أخرى وأقسم شيخ الإسلام إن يكون النصر حليف المسلمين ثمّ أمر المسلمين بالإفطار ليتقووا على عدوهم وفعلا أبرّ الله قسم الشيخ ونصر جند الحق وهزم المغول جند الباطل.


تاسعاً : معركة أكتوبر 1973 م

في رمضان السادس أكتوبر من عام 1973 م في العاشر منه التقت الجيوش العربية في ارض مصر المسلمة مع جيش الغدر و العدوان اليهود وهزمت الجيوش المسلمة الجيش اليهودي وتسمى حرب ستة أيام لو لا تدخل الدول الكبرى وفرضها لمنطق وقف القتال وفك الاشتباك لهزم اليهود في رمضان شر هزيمة.
وما زالت الأمة المسلمة تشهد انتصارات وتلحق الهزائم بأعدائها وسجل رمضان معارك طاحنة عبر التاريخ وكانت سببا في النصر منها الجهاد في الجزائر لطرد المستعمر الفرنسي ولبنان من خلال المقاومة والعراق وفلسطين المحتلة فرمضان أكبر دافع ومحفز للنصر والاستقلال.


 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 


jamila



الحمد لله الذي أنعم علينا ببلوغ هذا الشهر الكريم نحمده سبحانه وتعالى على آلائه العظيمة ومننه الكبرى وكرمه البيّن سبحانه وتعالى ما أكرمه وما أعظمه لا إله إلا هو ولا رب سواه. أيها المسلمون هذه نعم الله تتجدد بمرور أيام رمضان وهذه آلائه تتوالى علينا بتوالي ليالي هذا الشهر الفضيل ...ومع هذه الخيرات المتوالية علينا نلاحظ رتابة  على أنفسنا خاصة في العشر الأواسط فتلحظ هدأ الرجل على بعض الصلوات في المساجد خلافاً لما كان عليه في أول الشهر، ونلاحظ نوعاً من القلة في قراءة القرآن في وسط الشهر عما كان عليه في أوله، ثم تأتي العشر الأواخر بعد ذلك وما فيها من القيام وليلة القدر لتنبعث بعض الهمم والعزائم مرة أخرى، لكن فكروا معي هل من الصحيح أن يحدث لدينا نوع من التكاسل ونوع من الفتور في وسط هذا الشهر أمن أنه ينبغي علينا استدراك ذلك ويجب علينا أن لا نخسر شيئاً من أيام رمضان ولا نركن إلى شيء من البرود في أواسط هذا الشهر ولعل من أسباب هذا أن بعض الناس يحسون بالعبادة في أول الشهر فإذا  مر عليهم فترة فإن عبادتهم تتحول إلى عادة وشيء رتيب، فما هي السبل لمنع هذا التحول كيف نمنع تحو ل عبادتنا عبادة الصيام إلى عادة كيف نعيد اللذة والحيوية إلى هذه العبادة ونحن في أواسط رمضان؟

أولاً:ينبغي أن نحقق التعبد في الصيام باستحضار النية أثناء القيام به وأن العبد يصوم لرب العالمين، النية لا بد أن تكون موجودة دائماً الصيام لله رب العالمين، والهدف من هذا الامتناع "أي: الملذات" إرضاء رب العالمين(إنما الأعمال بالنيات).

ثانياً:مما يمنع تحول صيامنا إلى عادة..أن نستمر في تذكر الأجر في هذا الصيام وفضيلة العبادة في هذا الشهر الكريم، تذكر دائماً ونعيد إلى الأذهان حديثه-صلى الله عليه وسلم-(من صام رمضان إيماناً واحتساباً غفر له متقدم من ذنبه، فما هو الشرط في هذه المغفرة؟إنه الاحتساب في كل الشهر، ليس في أوّله فقط وإنما الاحتساب شرط في حصول المغفرة الاحتساب في جميع أيام الشهر، في أوله وفي وسطه وفي آخره فالمحتسب على الله في الأجر يشعر بكل يوم وبكل صوم ويرجع دائماً إلى الله سبحانه وتعالى يطلب المغفرة.

ثالثاً:أن نتمعن في هذا الأجر العظيم الذي يكون بغير اعتبار عدد معين، (كل عمل ابن آدم له كل عمل ابن آدم يضاعف الحسنة بعشرة أمثالها إلى سبع مئة ضعف، إلا الصوم فإنه لي وأنا أجزي به)الصيام سبب لتكفير جميع الذنوب، إلا الكبائر، الصلوات الكبائر والجمعة إلى الجمعة ورمضان إلى رمضان مكفرات لما بينهنّ إذا اجتنبت الكبائر؛ لا بد أن لا تغيب هذه الأحاديث عن أذهاننا ونحن الآن أشرفنا على الثلث الثاني من شهر رمضان، الصيام يشفع لك يوم القيامة، يقول الصيام:أيا ربي منعته الطعام والشهوة، منعته الشهوات في النهار فشفّعني فيه.هكذا يقول الصيام يوم القيامة.

رابعاً:فضائل الصيام وأهله كثيرة متعددة يفرح الصائم بفطره، وعند لقاء ربه، والباب المخصص الذي يدخله الصائمون إلى الجنة "باب الريان" والخلوف الذي هو أطيب عند الله من ريح المسك وفتح أبواب الجنة وتغليق أبواب الجحيم وسلسلة الشياطين مما يمنع تحوّل الصيام إلى عادة مما يعيد الحيوية إلينا في وسط الشهر هذا أن نعرف حديثه-صلى الله عليه وسلم-(إذا كان أول ليلة من رمضان صفدت الشياطين ومردت الجن وغلّقت أبواب النار فلم يفتح منها باب، وفتحت أبواب الجنة فلم يغلق منها باب وينادي منادي كل ليلة- أول الشهر وأوسط الشهر وآخر الشهر كل ليلة- في جميع رمضان يا باغي الخير أقبل ويا باغي الشر أقصر)ثم انتبهوا أيها المسلمون لهذه العبارة العظيمة في هذا الحديث عبارة حساسة جداً تجعل الصوم عبادة لنا في جميع الشهر، عبارة تمنع من تحول صيامنا إلى عادة، عبارة تمنعنا من التكاسل والفتور، قال-صلى الله عليه وسلم-(ولله عتقاء من النار وذلك كل ليلة)فقد تكون أنت عتيق الله من النار في أواسط هذا الشهر، فلماذا الكسل والتواني؟لابد من الانبعاث وإعادة الهمة.

خامساً:ونتذكر كذلك أن بعض كتب الله العظيمة نزلت في أواسط رمضان، قال- صلى الله عليه وسلم-(أنزل الإنجيل بثلاث عشرة مضت من رمضان وأنزل الزبور لثمان عشرة خلت من رمضان)فنزول الإنجيل والزبور كانا في الوسط وسط هذا الشهر الكريم، كما كان نزول صحف إبراهيم-عليه السلام-والتوراة في أول الشهر، ونزول القرآن العظيم في أواخر الشهر.

سادساً:من الأسباب التي تمنع تحول هذه العبادة إلى عادة التأمل فيها والوقوف على شيء من حكم الله؛ توحيد المسلمين، المواساة الإحسان، أثر الجوع والعطش والأمر بضبط النفس..أمور كثيرة.

سابعاً:التفكر حديثه-صلى الله عليه وسلم-(رغم أنف رجل دخل عليه رمضان ثم انسلخ قبل أن يفغر له من أدرك شهر رمضان ولم يغفر له فأدخله الله النار فأُدخل النار فأبعده الله قال جبريل لمحمد:قل آمين، قال محمد-صلى الله عليه وسلم-:آمين.

ثامناً:تنويع العبادة في أيام الشهر صيام، قيام، قرآن، إطعام، إنفاق، زكاة وصدقة، وصدقات..وهكذا تتنوع العبادة، فيتجدد النشاط وتعود الحيوية، يا عباد الله لا تفقدوا لذة مناجاتكم وعبادتكم لله في أي جزء من هذا الشهر، وكذلك التعبير عن الابتهاج والتذكير في مجامع الناس بعظمة هذا الشهر وحلاوة أيامه ولذة عبادته.

تاسعاً:ومن الوسائل، عد كم ذهب من الشهر يرجعك إلى الحقيقة ويبين لك ما بقي، فتشعر بالرغبة في مزيد من الاجتهاد كم مضى من شهرنا..كم ذهب من شهرنا..كم ذهب؟ ذهب الثلث والثلث كثير.

عاشراً:مقارنة الحالب ما قبله وما بعده، قارن حالك بما قبل الشهر وبما بعده لتعرف عظمة هذا الشهر..لتعرف قيمة هذا الشهر قبل أن يفوت الأوان فلا تفدك المعرفة.

الحادي عشر:تذكر طول الوقت الذي سيمر حتى يأتي شهرنا مرة أخرى تذكر طول الوقت الذي سيمر حتى يأتي هذا الشهر مرة أخرى، أشهر طويلة عديدة مديدة ستبقى حتى يأتي الشهر مرة أخرى هذا التذكر يبعث إلى ازدياد النشاط ومضاعفة العبادة وترك الكسل ونفض الغبار والقيام لله رب العالمين.

الثاني عشر:ابتغاء وجه الله في هذا الصيام قال-صلى الله عليه وسلم-(من صام يوماً في سبيل الله-يعني:صابراً ومحتسباً، وقيل في الجهاد-باعد الله بذلك اليوم حر جهنم عن وجهه سبعين خريفاً)وقال(من صام يوماً في سبيل الله باعد الله منه جهنم مسيرة مئة عام)وقال(من صام يوماً في سبيل الله جعل الله بينه وبين النار خندقاً كما بين السماء والأرض)وقال(من صام يوماً في سبيل الله زحزح الله وجهه عن النار بذلك اليوم سبعين خريفاً).

وثانياً أيها المسلمون:إن الاجتماع لقيام الليل لم يشرع إلا في رمضان وصلاة التراويح هذه عبادة جليلة ينبغي أن تعطى حقها، هذا القيام لابد أن يقام بحقه، التبكير إلى المساجد وعدم تضييع صلاة العشاء في الجماعة الأولى والفرض أهم من النفل.

ثانياً:أن لا يكون تقصد مساجد معينة للصلاة فيها من أجل جمال الصوت فقط وحسن النبرة وإنما ينبغي أن يكون الالتذاذ بسماع كلام الله وفهمه أعظم من الاستلذاذ بسماع صوت القارئ ولحنه، ينبغي أن يكون الالتذاذ بسماع كلام الله وفهمه أكبر وأعظم من الاستلذاذ بسماع صوت القارئ ولحنه، وهذه نقطة مفقودة عند كثير ممن يسعون ويجرون ويتنقلون في المساجد، ونريد من المسلمين أن يعقلوا كلام الله، ولا بأس بأن يقبلوا على صاحب الصوت الحسن فإن الصوت الحسن يزيد القرآن حسنه، والتفاعل مع الألحان أكثر مما يتفطنون للمعاني ومعرفة فقه هذا القرآن وهو يتلى على مسامعهم.

ثالثاً:استحضار القلب عند الآيات الرحمة..العذاب..الثواب..العقاب..القصص..الأمثال..أهوال القيامة..ذكر أسماء الرب وصفاته-جل وعلا- فينبغي أن تكون الأذان حاضرة للإيصال هذا إلى القلوب الحاضرة الحية لينبعث تذكر ويحدث التفاعل مع سماع هذه الآيات، ونظرة إلى بعض الناس الذين يخشعون في الذكر و لا يخشعون في الدعاء ما لا يخشعون في التلاوة و لا في سماع كلام الله...أمرٌ عجيب! يتعجب المسلم من حالهم!  فينبغي أن يُعرَفَ قدر الكلام...وقدر الكلام بقدر المتكلم كلام الله لا شيء أعلى منه، كلام الله لا شيء أحلى منه، و كلام الله لا شيء أجل منه و لا أدعى على التقبل و لا التذكر و لا التأثر و لا الخشوع لا شيء أدعى من كلام الله إلى كل ذلك.

رابعاً:  عدم رفع الصوت بالبكاء و النحيب و الصياح

كان صلى الله عليه و سلم يصلي و في صدره أزيز كأزيز المرجل من البكاء كما تغلي القدر بهذا الصوت المكتوم كان صلى الله عليه و سلم يبكي في صلاته. فالإخلاص في كتم البكاء والصياح وعدم الزعيق ورفع الصوت.بكاء القلب أهم!كان بكاء السلف في الصلاة نشيجاً ودموعاً تسيل، وربما يبكي أحدهم تسيل دموعه ولا يشعر من بجانبه. هذا هو الإخلاص لا صياحاً و لا صراخاً...لا صياحاً و لا صراخاً...عليك بالتأثر الذي لا يشعر به الناس.

اللهم اجعلنا من أهل السنة والقائمين بالسنة والمحافظين على السنة أحينا على السنة وأمتنا على السنة اللهم اجعل شهرك هذا شهر نصر للإسلام والمسلمين وشهر عزة وتمكين للمجاهدين.

 

 

 

 

 

 

 

 

 





رحمه الله فتاوى رمضانية مختارة  للشيخ محمد بن صالح العثيمين


 

السؤال: يعيب بعض علماء المسلمين على المسلم الذي يصوم ولا يصلي، فما دخل الصلاة في الصيام، فأنا أريد أن أصوم لأدخل مع الداخلين من باب الريان، ومعلوم أن رمضان إلى رمضان مكفرات لما بينهن، أرجو التوضيح وفقكم الله؟
الجواب: الذين عابوا عليك أن تصوم ولا تصلي على صواب فيما عابوه عليك، وذلك لأن الصلاة عمود الإسلام، ولا يقوم الإسلام إلا بها، والتارك لها كافر خارج عن ملة الإسلام، والكافر لا يقبل الله منه صياماً، ولا صدقة، ولا حجاً ولا غيرها من الأعمال الصالحة لقول الله تعالى: { وَمَا مَنَعَهُمْ أَن تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقَاتُهُمْ إِلاَّ أَنَّهُمْ كَفَرُواْ بِاللّهِ وَبِرَسُولِهِ وَلاَ يَأْتُونَ الصَّلاَةَ إِلاَّ وَهُمْ كُسَالَى وَلاَ يُنفِقُونَ إِلاَّ وَهُمْ كَارِهُونَ } [التوبة:54]. وعلى هذا فإذا كنت تصوم ولا تصلي، فإننا نقول لك أن صيامك باطل غير صحيح، ولا ينفعك عند الله، ولا يقربك إليه. وأما ما وهمته من أن رمضان إلى رمضان مكفراً لما بينهما فإننا نقول لك: إنك لم تعرف الحديث الوارد في هذا فإن رسول الله يقول: « الصلوات الخمس والجمعة إلى الجمعة ورمضان إلى

 

 

 

رمضان مكفرات لما بينهن ما اجتنبت الكبائر » . فاشترط النبي عليه الصلاة والسلام لتكفير رمضان

إلى رمضان أن تجتنب الكبائر، وأنت أيها الرجل الذي لا يصلي ويصوم لم تجتنب الكبائر، فأي كبيرة أعظم من ترك الصلاة، بل إن ترك الصلاة كفر، فكيف يمكن أن يكفر الصيام عنك، فترك الصلاة كفر. ولا يقبل منك الصيام. فعليك يا أخي أن تتوب إلى ربك، وأن تقوم بما فرض الله عليك من صلاتك ثم بعد ذلك تصوم. ولهذا بعث الله النبي معاذاً إلى اليمن قال: « ليكن أول ما تدعوهم إليه شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، فإن هم أجابوك لذلك فأعلمهم أن الله افترض عليهم خمس صلوات لكل يوم وليلة » فبدأ بالصلاة ثم الزكاة، بعد ذكر الشهادتين [الشيخ ابن عثيمين].

السؤال: فضيلة الشيخ، ما حكم الجماع في نهار رمضان ذاكراً أو ناسياً؟ وما الذي يلزمه؟

الجواب: الجماع في نهار رمضان كغيره من المفطرات ، إن كان الإنسان في سفر ليس عليه في ذلك بأس سواء كان صائماً أم مفطراً، لكن إذا كان صائماً وجب عليه قضاء ذلك اليوم، وأما إن كان ممن يلزمه الصوم، فإنه إن كان ناسياً فلا شيء عليه أيضاً، لأن جميع المفطرات إذا نسي الإنسان فأصابها فصومه صحيح، وإن كان ذاكراً ترتب على ذلك خمسة أمور: الإثم ، وفساد صوم ذلك اليوم،ولزوم الإمساك، ولزوم القضاء والكفارة، والكفارة عتق رقبة، فإن لم يجد فصيام شهرين متتابعين، فإن لم يستطع فإطعام ستين مسكيناً؛ لحديث أبي هريرة رضي الله عنه أن رجلاً جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله ، هلكت ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : (( ما أهلكك؟)) قال: وقعت على امرأتي في رمضان وأنا صائم، فذكر له النبي صلى الله عليه وسلم الكفارة عتق رقبة،فقال إنه لا يجد ، فقال: صيام شهرين متتابعين، فقال: إنه لا يستطيع، فقال: إطعام ستين مسكيناً، فقال: إنه لا يجد، ثم جلس الرجل وأتى النبي صلى الله عليه وسلم بتمر، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم : (( خذ هذا فتصدق به)) فقال الرجل: أعلى أفقر مني يا رسول الله، فوالله ما بين لابتيها أهل بيت أفقر مني، فضحك النبي صلى الله عليه وسلم حتى بدت أنيابه أو نواجذه ثم قال: (( أطعمه أهلك))(190).

السؤال: فضيلة الشيخ، مما يتعبد أو يتقرب به إلى الله عز وجل في شهر رمضان التراويح، فما المقصود بالتراويح والتهجد؟

الجواب: التراويح: القيام، قيام رمضان الذي قال فيه النبي صلى الله عليه وسلم : (( من قام رمضان إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه))(197) ، وسميت تراويح؛ لأن الناس فيما سبق كانوا يطيلونها، وكلما صلوا أربع ركعات- يعني بتسليمتين - استراحوا قليلاً ثم استأنفوا ، وعلى هذا يحمل حديث عائشة رضي الله عنها: (( كان النبي صلى الله عليه وسلم يصلي أربعاً، فلا تسألن عن حسنهن وطولهن، ثم يصلي أربعاً، فلا تسأل عن حسنهن وطولهن، ثم يصلي ثلاثاً))(198) فإنها تريد بذلك أنه يصلي أربعاً بتسليمتين ، لكن يفصل بينهما وبين الأربع الأخريات.

وهذه التراويح سنة سنها رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولكنه صلى بأصحابه ثلاث ليال ثم تأخر، وقال: (( إني خشيت أن تفرض عليكم))(199) ، وينبغي للإنسان أن لا يفرط فيها؛ لينال أجر من قام رمضان، وهو مغفرة ما تقدم من الذنب، وينبغي أن يحافظ عليها مع الإمام، لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (( من قام مع الإمام حتى ينصرف كتب له قيام ليلة))(200) ولا يخفى أن التراويح التي تفعل الآن فيها أخطاء من الأئمة ومن غيرهم

السؤال: فضيلة الشيخ، بعض الناس يحيون ليلة القدر بالصلاة والعبادة ولا يحيون غيرها في رمضان، فهل هذا موافق للصواب؟

الجواب: لا، ليس موافقاً للصواب، فإن ليلة القدر تنتقل، فقد تكون ليلة سبعة وعشرين، وقد تكون في غير تلك الليلة، كما تدل عليه الأحاديث الكثيرة في ذلك، فقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه ذات عام أري ليلة القدر، فكان ذلك ليلة إحدى وعشرين ، ثم إن القيام لا ينبغي أن يخصه الإنسان بالليلة التي يرجو أن تكون هي ليلة القدر، فالاجتهاد في العشر الأواخر كلها من هدي النبي صلى الله عليه وسلم .فقد كان إذا دخل العشر شد المئزر،وأيقظ أهله، وأحيا ليله عليه الصلاة والسلام، فالذي ينبغي للمؤمن الحازم أن يجتهد في هذه الأيام العشر في ليال هذه الأيام العشر كلها حتى لا يفوته الأجر.

السؤال(188): فضيلة الشيخ، هل الاعتكاف له زمان محدد، أي أنه يقتصر على رمضان أم يجوز في غير رمضان؟

الجواب: المشروع أن يكون في رمضان فقط؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يعتكف في غير رمضان، إلا ما كان منه في شوال حين ترك الاعتكاف سنة في رمضان، فاعتكف في شوال، ولكن لو اعتكف الإنسان في غير رمضان لكان هذا جائز، لأن عمر رضي الله عنه سأل النبي صلى الله عليه وسلم فقال: إني نذرت أن أعتكف ليلة أو يوماً في المسجد الحرام، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم  : (( أوف بنذرك))(202)

السؤال: فضيلة الشيخ ، ما حكم زكاة الفطر ؟

الجواب : زكاة الفطر فريضة ، فرضها رسول الله صلى الله عليه وسلم كما قال عبد الله بن عمر رضي الله عنهما : فرض رسول الله صلى الله عليه وسلم زكاة الفطر من رمضان صاعاً من تمر ، أو صاعا من شعير ))(203) ، فلو أخرج من الدراهم أو من الثياب أو من الفرش أو من الأواني ، فإنه لا يصح أن يكون فطرة ولو كان أغلى من صاع الطعام ، وهذا يعني أنه لا يجوز إخراج قيمتها .

 

 


 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 



رمضان في السعودية والجزائر عادات وتقاليد

السعودية حلقات للدروس والصلاة في الحرمين الشريفين


  تنفرد المملكة العربية السعودية بتوجه قلوب المسلمين لها في كل يوم لأداء فروض الصلاة وأداء فريضة الحج المباركة والعمُرة في الديار المقدسة في مكة المكرمة والمدينة المنورة. ومع أذان المغرب تُفْرَش موائد الإفطار في الحرمين المكي والمدني، ويتسابق القائمون عليها لجذب المسلمين ليجلسوا في موائدهم، وكلما زاد عدد الجالسين ازداد فرح القائمين على هذه الموائد؛ لأنهم يرون أن أجرهم يزيد بقدر زيادة عدد المفطرين على موائدهم، ولهذا يقدمون لهم وجبات من التمر ومشروب القهوة الساخنة.

إنّ عبادة المسلمين تتمثل في الاعتكاف في أيام شهر رمضان في الحرم المكي الشريف وفي الحرم النبويّ، إذ يقوم الصائمون بالفطور فيهما على تمرات … ويبقون هناك لتلاوة القرآن المجيد،  طيلة الأيام المباركة، وإلى ما بعد أذان الفجر .. وتتعطل المدارس في السعودية في شهر رمضان، ويزيد المساجد عُمّارها من عباد الله، إضافة إلى إقامة حلقات الدروس الدينية، والاجتهاد في إحياء ليلة القدر المباركة في عموم المدن والقرى فيها.

الملاحظ في رمضان أنّ أغلب مساجد المملكة تقدِّم  كل عام إفطاراً وسحوراً للصائمين من وجبات التمر واللبن والعصير، وهناك اختلاف في الفطور بالسعودية بالمقارنة مع بعض الدول الأخرى، فيقدم الإفطار في المنطقة الوسطى الرياض أولاً من  التمر والقهوة العربي وبعض المشروبات كشراب التوت والعصائر المختلفة، ثم يتناول الصائمون بعد أداء الصلاة طعام العشاء الذي يتكون عادة من الشوربة، مع أنواع مختلفة من اللحوم المشوية والمحمرة، إضافة إلى طبق السمبوسة الشهيرة وكذلك اللقيمات.

ولا يتخلى السعوديون عن طبقهم اليومي المشهور الكبسة، ولكن يفضله البعض طعاماً لسحورهم كوجبة يتناولونها مع السلطة واللبن، أو يختار البعض الآخر اللبن الزبادي والفول طبقا رئيسيا، أو الخبز مع الإدام وهو طبق الخضار، أو تناول رقاق الكُنافة والأقراص والجريش والمثلوثة والمطاطيز والسمبوسك وهي أكلات معروفة في المملكة.

وتوجد أربعة مواقع للمدافع الرمضانية في السعودية وهي جبل السليمانية - بل المدفع- وتوجد فيه ثلاثة مدافع وجبل شماس-مجر الكبش- وفيه مدفعان، ومنطقة الغوارية وفيها مدفعان، ومحافظة الجموم ولها مدفعان، وبذلك يُصبح مجموع المدافع المعدة لشهر الصيام في أنحاء مكة المكرمة تسعة مدافع يعمل عليها 29 رجلاً. وتطورت مدافع الإفطار في المملكة حيث أنّ طلقاتها القديمة التي كانت تعتمد على البارود والملح والخيش قد أُبدلت بالطلقات الحديثة الأكثر أماناً عند إطلاقها ليسمع صوت المدفع موعد فطور الصائمين.

ويمتلئ الحرم المكيّ الشريف مع دخول ليلة الحادي والعشرين من شهر رمضان بملايين المصلين الذين يأتون من كل فج عميق، ويقطعون المسافات الطويلة وينفقون الأموال الطائلة، لكي يفوزوا بقضاء الليالي العشر الأواخر من شهر الصيام ؛ التماسًا لليلة القدر المباركة مقبولة الدعاء، والتي هي خير من ألف شهر.

ويرتدي أطفال المنطقة الشرقية أجمل ثيابهم ويخرجون في مجموعات يحملون أكياساً خاصة يعلقونها في أعناقهم ويطوفون على بيوت الجيران، ويوزع عليهم الأهالي المُكسرات، ويرددون هذه الأغنية:

قرقع قرقع قرقيعان          أم قصير ورمضـان

عُطونا الله يعطيكم             بيت مكة يوديكـم

ويلحفكم بالجَاعِد              عن المطر والرعـد

عام عام يا صيام           جعلكم تُصومونه بالتمام

اللي عطانا خُوخ ورمان        عطونا عادت عليكم

أما الثواب ولا الجواب    ولا نتيفة من صاير الباب

لـولا فـلان ماجينـا         ياربي تخليــه لأُمه

ويتم استعداد الناس لاستقبال عيد الفطر في المدن السعودية بعد أن يودعوا الشهر الفضيل، حيث تبدأ مظاهر الزينة واضحة المعالم في الأماكن العامة، وفي البيوت إذ تقوم النساء بتنظيف البيوت وتجميلها لاستقبال ضيوف العيد. وتهيئة بعض الحلويات مثل المشبك، والحلقوم والعصير الذي يقدّم للضيوف.

ويتناول الناس التمر و يشربون القهوة قبل التوجه لأداء صلاة العيد في الحرمين المكيّ والمدني، ويرتدون الثياب البيض والشماغ الأحمر، ويهنئ الواحد الآخر خلال الفترة الصباحية من أول أيام العيد، بعدها يتوجهون إلى البيت الكبير- بيت الجد والجدة –ليعايدونهم ويبقى البعض ليبدأوا فطورهم، ويحصل الأطفال خلال الزيارة على العيدية من الجميع وهم يلبسون ملابسهم الجديدة. أما الآخرون فيعودون إلى منزلهم لتناول اللحم المشوي، ويجلس الرجال في مجلس منفصل عن النساء، الذي يضم عادة العائلة والأخوة والأخوات وعوائلهم كافة، ويتألف طعام الغذاء من المثطح ويوضع فوق العيش في صحن كبير، يبدأ بتناول الغذاء كبار السّن أولاً، وعندما ينتهون يأتي الأصغر سنّاً، ثم الأصغر.

ثم يخرج الناس بعد فترة العصر إلى الأماكن المفتوحة حيث أماكن اللهو البريء، ونلحظ في المنطقة الشرقية قيام الجهات المسؤولة بإطلاق الأسهم والألعاب النارية على الكورنيش في الدمام ابتهاجاً بالعيد المبارك. وتشهد المنطقة إقبال الناس من الرياض وغيرها من المدن الأخرى قبل ليلة العيد لقضاء أيامه فيها ويقومون بنصب خيامهم على امتداد شاطئ نصف القمر.


الجزائــر

أذن كاس لبـن وقرن الغزال


يستعد الجزائريون لشهر رمضان بشراء المأكولات والمواد الغذائية الرئيسة قبل بدء الصيام بعدّة أشهر لأن السعار تكون عادة أرخص، ولأنّها تشهد ارتفاعاً كبيراً مع قرب حلول رمضان.

وتبرز مظاهر الاحتفال لاستقبال شهر رمضان في الجمهورية الجزائرية من خلال مظاهره الواضحة في استقباله، وتقيم الدولة موائد خيرية لإفطار عابري السبيل والفقراء وموائد الرحمن، وتخصص المطاعم أماكن للإفطار المجاني للناس، وتُعقد في أيام الشهر  الدروس الدينية للأطفال والشباب، وتقام صلاة التراويح كل يوم، ويعتكفون في العشر الأواخر من رمضان. وتتنوع المائدة الرمضانية عند الجزائريين حيث يتناولون الشوربة، خاصة شوربة الحريرة التي تجدها على كل مائدة جزائرية، والأرز أو المعكرونة واللحم الحلو، والبوريك، وسلطة الكبدة وتسمى الهريسة، وهناك طبق العجيجات، أو المعقودة، وطبق السفيرية.

أما في السحور فتكون الوجبة الرئيسة هي الكُسك والغول ومنتجات الألبان بأنواعها. ويتناول الصائمون الحلويات ومنها القطائف وتُسمى الكنافة، وحلوى قالب اللوز، والجريويش، والقصمة. وتصنع النسوة ثلاثة أنواع من الخبز طوال أيام رمضان ومنها خبز الدار والمطلوع والفطير.

ويقوم الأطفال بالصياح حينما يسمعون صوت المؤذن وقت المغرب قائلين:أذن كأس لبن. وأذن يعني لقد أذن المؤذن فهاتِ كأس اللبن لنشربه. وإذا لم يسمع الناس الأذان فإنّ صياح الأطفال يُعرفهم بأنَّ موعد الفطور قد حان… ويفرح الأطفال بشهر الصيام لأنّه موسم يتبارى فيه الآباء مع أبنائهم لتعويدهم على صيام الشهر المبارك. ومن التقاليد المعروفة في الجزائر الاحتفال بيوم النفقة أو صيام الأطفال ليتم تعويدهم على الصيام للمرة الأولى. ويحرص الجزائريون في الشهر الفضيل خاصة بعد إحياء ليلة القدر المباركة على إعلان الخِطْبَة، وختان أولادهم تيمناً بتاج الليالي. ويأخذ رب الأسرة أولاده الصائمين إلى أداء صلاتي العشاء والتراويح في المسجد ثم ينطلق الصغار عقب الصلاة ليلتقوا مع أصدقائهم ويطوفون في الشوارع مرددين:

رمضان كريم .. رحمن رحيم

وبالعبادة تلقي السعـــادة

تلقى السعادة وتلقى النعيـم

رمضان كريم رمضان كريم

أما البقالات فهي المجالس التي تحضرها النساء الشابات غير المتزوجات ويقمن بالإعداد لطقوس خاصة بها. فيتوسط مجلسهنّ طبق خشبيّ كبير يُملأ بالماء تضع فيه البنات أشياء معينة خاصة بكل واحدة، مثل الخاتم أو الأساور أو قطعة من النقود، ثم يُغطّى هذا الطبق بمِلاءة كبيرة لفترة قصيرة، وتجلس إحدى النساء لتقرأ على الحاضرات أبياتاً من الشعر الخاص بالبقالة للتعرف على حظ الفتيات في شؤون الحياة الاجتماعية و في نصيبهنّ من الزواج.

تبدأ الزيارات بين الأهل والأصدقاء قبل حلول عيد الفطر بحواليّ أسبوع واحد ، ثم القيام بشراء الملابس لكل أفراد الأسرة وتحضير الحلوى التي ستقدم للضيوف في أيام العيد نحو حلوى المفروط، والشريك، والطابع، والفانيد، ويكون اللوز هو القاسم المشترك في تشكيل أنواع كل حلوى العيد. ويتم إعداد وتنظيم مائدة العيد حيث يخصص صحن خاص لها، وتحتوي على أصناف من الحلويات والمعجنات مثل "قرن الغزال، والكروكون، والبقلاوة، والغريبة"، وتقوم النساء بعملها داخل البيوت وتشوى في المخابز العامة في السوق، وإذا قام أحد الضيوف بالزيارة للتهنئة بحلول عيد الفطر، فسيُقدم إليه أهل الدار ما تضمه تلك المائدة مع تقديم شراب القهوة أو الحليب أو العصائر، وإذا أنهى الضيف زيارته فإنّ أهل الدار يحملونه حصة من المائدة إلى أهله.

وتشمل مائدة غذاء أول أيام العيد في الجزائر على أطباق الكُسْكُس باللحوم والخضراوات، أو طبق البوزلوف ورأس الخروف التي يُطهى ويُتبّل بالكمون والفلفل الأحمر والطماطة والمُحلّى بالسلطة المختلفة الأنواع.

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 


همسات العشر الأواخر تقول ......... عبد الله بن سعيد آل يعن الله



الحمد لله الكريم الوهاب ، خلق خلقه من تراب ، غافر الذنب وقابل التوب شديد العقاب ، ذي الطول لا إله إلا هو إليه المصير، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، صاحب الوجه الأنور والجبين الأزهر، إمام الأنبياء وسيد الحنفاء، صلوات الله وسلامه عليه وعلى آله وأصحابه وأتباعه، الذين آمنوا وهُدوا إلى الطيب من القول، وهدوا إلى صراط الحميد.
نحن في شهر كثيرٌ خيره ، عظيم بره، جزيلة ُ بركته ، تعددت مدائحه في كتاب الله تعالى وفي أحاديث رسوله الكريم عليه أفضل الصلوات والتسليم ، والشهر شهر القران والخير وشهر عودة الناس إلى ربهم في مظهر إيماني فريد ، لا نظير له ولا مثيل.

وقد خص هذا الشهر العظيم بمزية ليست لغيره من الشهور وها نحن ننتظر أيام عشرة مباركة هن العشر الأواخر التي يمن الله تعالى بها على عباده بالعتق من النار، وها نحن الآن في هذه الأيام ننتظر العشر المباركات وهمساتها تقول :-
ها أنا العشر الأواخر من رمضان قد أقبلت ، ها أنا خلاصة رمضان ، وزبدة رمضان ، و تاج رمضان.

وقد كان الرسول صلى الله عليه وسلم يحيي لياليَّ بالصلاة والذكر والقيام ويوقظ أهله شفقة و رحمة بهم حتى لا يفوتهم هذا الخير في لياليَّ ـ وكان يشدُّ مئزره من أجلي أي يعتزل نساءه في هذه الليالي لاشتغاله بالذكر والعبادة فقد ثبت في الصحيحين عن عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا دخل العشر أحيى ليله وأيقظ أهله وشد مئزره0
همسات العشر تقول  ...
ضاعفوا الاجتهاد في هذه الليالي ، أكثروا من الذكر  ... أكثروا من تلاوة القرآن  ... أكثروا من الصلاة ، أكثروا من الصدقات ، أكثروا من تفطير الصائمين  ... ففي صحيح مسلم أن رسول الله كان يجتهد في العشر ما لا يجتهد غي غيرها0

همسات العشر تقول  ...
اطلبوا تلك الليلةِ الزاهية ، تلك الليلة البهية ، ليلة العتق والمباهاة ، ليلة القرب والمناجاة  ... ليلة القدر ، ليلة نزول القرآن ، ليلة خير من ألف شهر  ...

أطلّّي غُرّةَ الدهرِ .. أطلي ليلةَ القدرِ
أطلي درّةَ الأيام مثلَ الكوكب الدرّي
أطلّي في سماء العمر إشراقاً مع البدرِ
سلامٌ أنتِ في الليل وحتى مطلعِ الفجرِ
سلامٌ يغمرُ الدنيا يُغشّي الكونَ بالطهرِ
وينشرُ نفحةَ القرآنِ والإيمانِ والخيرِ
لأنكِ منتهى أمري فإني اليوم لا أدري
فأنتِ أنتِ أمنيتي.. لأنك ليلة القدرِ

فاجتهدوا لهذه الليلة التي من قامها إيمانا و احتسابا غفر له ما تقدم من ذنبه كما في البخاري من حديث أبي هريرة  ...
فيا حسرة من فاتته هذه الليلة في سنواته الماضية ، ويا أسفى على من لم يجتهد فيها في الليالي القادمة  ...
وحتى تضمنوا قيام ليلة القدر والفوز بها اجتهدوا وشمروا في كلِّ لياليّ  ... فحبيبكم صلى الله عليه وسلم يقول : (تحروا ليلة القدر في العشر الأواخر من رمضان) رواه البخاري ... وقد خصَّها الرسول في الأوتار فقال
تحروا ليلة القدر في الوتر من العشر الأواخر) رواه البخاري 0
قال الله ( ليلة القدر خير من ألف شهر )

همسات العشر تقول  ...

يا أيها الراقـد كـم ترقـد *** قم يا حبيبا قد دنا الموعدُ
و خذ من الليل وساعاته *** حظا إذا هــجع الـرُّقَـــُد

لا تتركوني من دون القيام  ...
اتركوا لذيذ النوم ، وجحيم الكسل ، وانصبوا أقدامكم في جنح لياليّ ، وارفعوا هممكم ، وادفِنوا فتوركم ونافسوا أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم حتى يعلموا أنهم خلفوا ورآهم رجالا أصحاب تقىً وقيام ...
قال تعالى ( تتجافى جنوبهم عن المضاجع يدعون ربهم خوفا وطمعا )

فاغتنموني فإن ليلة القدر تستحق التضحية والإجتهاد  ... .
همسات العشر تقول  ...
ارفعوا عنكم التنازع والخصام فإنها سببٌ في منع الخير وخفائه ففي صحيح البخاري عن عبادة بن الصامت قال: خرج النبي صلى الله عليه وسلم ليخبرنا ليلة القدر فتلاحى " أي تخاصم وتنازع " رجلان من المسلمين، فقال: " خرجت لأخبركم بليلة القدر، فتلاحى فلان وفلان فرُفعت ) رواه البخاري 0
همسات العشر تقول  ...
أحيوا فيَّ سنة الإعتكاف ، فإن هذه السُنَّة بلسمٌ للقلوب ، ودواءٌ لآفاته ، وقد قال ابن القيم رحمه الله ( الاعتكاف هو عكوف القلب على الله تعالى وجمعيته عليه والخلوة به والانقطاع عن الاشتغال بالخلق والاشتغال به وحده سبحانه بحيث يصير ذكره وحبه والإقبال عليه في محل هموم القلب وخطراته فيستولي عليه بدلها ويصير الهم كله به والخطرات كلها بذكره والتفكر في تحصيل مراضيه وما يقرب منه فيصير أنسه بالله بدلاً من أنسه بالخلق فيعده بذلك بأنسه به يوم الوحشة في القبور حيث لا أنيس له ولا ما يفرح به سواه فهذا هو مقصود الاعتكاف الأعظم )
فيا من هجر الإعتكاف  ...
أحيوا هذه السنة العظيمة في مساجدكم  ...
فهذه السنة سبب في تعويد وتربية النفس على الإخلاص لأنك في معتكفك لا يراك أحد إلا الله جل وعلا ، فالإحسان هو أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك، وأنت في معتكفك تصلي وتصوم وتذكر الله جل وعلا وتقرأ القرآن فبذلك تربي نفسك على الإخلاص  ...

وهذه السنة تربي النفس على التخلص من فضول الكلام والطعام والنوم والخلطة وتعويد النفس على ذلك ...
وكذلك سبب في تربية النفس على قيام الليل وقراءة القرآن والاستغفار والذكر والمناجاة ... وتقوية الصلة بالله تعالى واللجوء إليه ومناجاته  ... والتفكر والتعود على الاستخدام الأمثل لنعمة العقل وخاصة في زمن الفتن والمحن  ... وكذلك سبب في مراجعة النفس ومحاسبتها في أمور الدين والدنيا في أمور العبادة وغيرها  ... كذلك سبباً في تربية النفس على الاستخدام الأمثل للوقت وعدم تضييع الثواني فضلاً عن الدقائق والساعات  ... وكذلك سببا مباشر في تعويد النفس على الصبر ومجاهدة النفس وتأديبها على معالي الأمور  ...
فالزموا هذه السنة العظيمة ، وتخلصوا من الآفات التي يتعرض لها بعض المعتكفين من فضول الكلام والأكل والشرب والنوم والخلطة  ...
همسات العشر تقول  ...
ما جئتكم لتجعلوني موسماً لملء بطونكم بأصناف الطعام والشراب .. ولا جئتكم لتجعلوا ليلي نهاراً، ونهاري ليلاً ، وتقطّعوا ساعاتي الثمينة باللهو واللعب، والنظر إلى ما حرم الله وتقطيع الوقت في المنتزهات وغيرها.. !
 ... فأدركوا الحكمة من مجيئي إليكم . .
همسات العشر تقول  ...
أيها المسلمون : إني لم أكن في يوم من الأيام وقتاً للنوم والبطالة وملء البطون والنوم والكسل إلا في هذه الأزمنة المتأخرة ..
فهلا رجعتم إلى تأريخ أسلافكم العظام لتروا ما صنعوا في الأيام التي قبلي  ... فلا تنسوا معركة بدر ، وفتح مكة ، واليرموك وحطين، إنها بطولات تحققت في رمضان .. ولم تكن هذه البطولات والانتصارات لتتحقق في أرض الواقع ، لو لا أنها تحققت أولاً في نفوس أولئك المؤمنين ، على أهوائهم وشهواتهم فمتى انتصرتم أيها المسلمون اليوم على أنفسكم وأهوائكم، نصركم الله على أعدائكم ، وعاد لكم عزكم ومجدكم المسلوب ..
همسات العشر تقول  ...
لا تفسدوا صفو لياليَّ ببعضَ المعكرات التي تثيرُ الأشجان ... وتجلبُ الأحزان  ... وتؤنبُ الضمائر  ... وتقلقُ الخواطر  ... فلقد اعتكف بعض الناس في لياليَّ في الأسواق التي قد ضاقت بها النساء وتهافتوا على المراكزِ التجارية ومسابقاتِها  ...
فلماذا لم يجد الناس أوقاتاً غير أوقاتي الفاضلة  ...
أم أن العادة فرضت نفسها على ضعفاء البشر  ...
فيمكنك أن تشتري ملابس العيد وأغراضه في شهر شعبان ، حيث الأسعار مناسبة ، والأعداد قليلة !! فتقضي حوائجك دون أن تخسر كثيرا أو أن تضيع وقتا فاضل ...
همسات العشر تقول  ...
أيقظوا قلوبكم من النوم عن صلاة الظهر وصلاة العصر  ... ولا تجعلوا القيام مندوحة ً لكم في ذلك  ... فويل للمصلين الذين هم عن صلاتهم ساهون  ...
همسات العشر تقول  ...
من ذهب لبيت الله الحرام فليحفظ بصره من فتن النساء التي كثرت في المسجد الحرام والله المستعان  ... وإن خشيت على نفسك فالبقاء في بيتك أولى وأفضل  ...
وكذلك أهمس في أذن كلِّ أبٍ رءوم وأقول له اتق الله عز وجل عند ذهابك أنت وأسرتك إلى مكة  ... ولا تفلت القيد لأهلك  ... لأنه قد يذهب بعضهم لأغراض سيئة لا يحمد عقباها  ...
فكم من أبٍ قد ابتلَّ خدُّه من الدموع ، وبعض أبناءه في لجج المعاصي في أسواق مكة وما جاورها  ...
فالمصلحة المصلحة ابحثوا  ... وكلُّ إناءٍ بما فيه ينضح
همسات العشر تقول  ...
استغلوني  ... فقد ذهب الكثير من رمضان  ... ولا يعلم أحدٌ منكم هل سيصوم هذا الشهر في أعوامه القادمة أم سيكون في حفرة مظلمة من فوقه تراب ومن تحته تراب وعن يمينه تراب وعن شماله تراب  ...
همسات العشر تقول  ...
استودعكم الله التي لا تضيع ودائعه  ... وقد لا ألتقي بكم في أزمنة قادمة  ...
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته  ... وصلى الله وسلم على نبينا محمد  ...

 

 

 


 


جوهرة رمضان وفرصة العمر...ليلة القدر

بقلم موسى بن يحي الزهراني


الحمد لله رب العالمين، مفضل الأماكن والأزمان على بعضها بعضاً، الذي أنزل القرآن في الليلة المباركة، والصلاة والسلام على من شد المئزر في تلك الليالي العظيمة المباركة، نبينا محمد وعلى آله وصحبه الغر الميامين.. أما بعد:

لقد اختصّ الله تبارك وتعالى هذه الأمة المحمدية على غيرها من الأمم بخصائص، وفضّلها على غيرها من الأمم بأن أرسل إليها الرسل والأنبياء وخاتمهم وآخرهم، وجعلها خير الأمم قال تعالى: braket_rكُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ braket_l[آل عمران:110).

وقد أنزل لهذه الأمة الكتاب المبين، والصراط المستقيم، كتاب الله العظيم، كلام رب العالمين، قال تعالى: braket_rإنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون braket_l[الحجر]. وقال تعالى: braket_rلا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد braket_l[فصلت )

فقد أنزل الله عز وجل القرآن الكريم في ليلة مباركة هي خير الليالي، ليلة اختصها الله عز وجل

من بين الليالي، ليلة العبادة فيها هي خير من عبادة ألف شهر، وهي ثلاث وثمانون سنة وأربعة أشهر.. ألا وهي ليلة القدر مبيناً لنا إياها في سورتين قال تعالى في سورة القدر: braket_rإنا أنزلناهُ في ليلةِ القدر (1) وما أدراكَ ما ليلةُ القدر (2) ليلةُ القدرِ خيرٌ من ألفِ شهر (3) تَنَزلُ الملائكة والروح فيها بإذن ربهم من كلِ أمر (4) سلامٌ هي حتى مطلع الفجر braket_l[القدر].

وقال تعالى في سورة الدخان: braket_rإنا أنزلناهُ في ليلةٍ مباركةٍ إنا كنا مُنذٍرين (3) فيها يُفرَقُ كلُ أمرٍ حكيم braket_l، وسميت بليلة القدر لعظم قدرها وفضلها عند الله تبارك وتعالى، ولأنه يقدر فيها ما يكون في العام من الآجال والأرزاق وغير ذلك، كما قال تعالى: braket_rفيها يفرق كل أمر حكيم braket_l[الدخان].

سبب تسميتها بليلة القدر:

قال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله تعالى في الشرح الممتع 6494 ما نصه: (أولاً: أنه يقدر فيها ما يكون في تلك السنة، فيكتب فيها ما سيجري في ذلك العام، وهذا من حكمة الله عز وجل وبيان اتقان صنعه وخلقه..

ثانياً: سميت ليلة القدر من القدر وهو الشرف كما تقول فلان ذو قدر عظيم، أي ذو شرف لقوله تعالى: braket_rوما أدراك ما ليلة القدر ليلة القدر خير من ألف شهر braket_l[القدر] وليلة خير من ألف شهر قدرها عظيم ولا شك.

ثالثاً: وقيل لأن للعبادة فيها قدر عظيم لقول النبي article_salla: { من قام ليلة القدر إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه } [متفق عليه]. وهذا لا يحصل إلا لهذه الليلة فقط، فلو أن الإنسان قام ليلة النصف من شعبان، أو ليلة النصف من رجب، أو ليلة النصف من أي شهر، أو في أية ليلة لم يحصل له هذا الأجر ).

وقال الشيخ رحمه الله تعالى: ( إن الإنسان ينال أجرها وإن لم يعلم بها، لأن النبي article_sallaقال: { من قام ليلة القدر إيماناً واحتساباً } ولم يكن عالماً بها، ولو كان العلم شرطاً في حصول هذا الثواب لبيّنه الرسول article_salla). أ هـ.

علامات ليلة القدر

ذكر الشيخ بن عثيمين رحمه الله أن لليلة القدر علامات مقارنة وعلامات متابعة:

العلامات المقارنة :

- قوة الإضاءة والنور في تلك الليلة، وهذه العلامة في الوقت الحاضر لا يحس بها إلا من كان في البر بعيداً عن الأنوار.

- زيادة النور في تلك الليلة.

- الطمأنينة، أي طمأنينة القلب، وانشراح الصدر من المؤمن، فإنه يجد راحة وطمأنينة وانشراح صدر في تلك الليلة أكثر من مما يجده في بقية الليالي.

- أن الرياح تكون فيها ساكنة أي لا تأتي فيها عواصف أو قواصف، بل يكون الجو مناسباً.

- أنه قد يُري الله الإنسان الليلة في المنام، كما حصل ذلك لبعض الصحابة رضي الله عنهم.

- أن الإنسان يجد في القيام لذة أكثر مما في غيرها من الليالي.

العلامات اللاحقة :

أن الشمس تطلع في صبيحتها ليس لها شعاع، صافية ليست كعادتها في بقية الأيام، ويدل لذلك حديث أبي بن كعب article_ratheyaأنه قال: أخبرنا رسول الله article_salla: { أنها تطلع يومئذ ٍ لا شعاع لها } [رواه مسلم].

وليلة رمضان ليلة مباركة، وهي في ليالي شهر رمضان، ويمكن التماسها في العشر الأواخر منه، وفي الأوتار خاصة، وأرجى ليلة يمكن أن تكون فيها هي ليلة السابع والعشرين من شهر رمضان، فكان أبي بن كعب يقول: ( والله إني لأعلم أي ليلة هي، هي الليلة التي أمرنا رسول الله article_sallaبقيامها، وهي ليلة سبع وعشرين ) [مسلم].

وقد كان النبي article_sallaيتحرى ليلة القدر، ويأمر أصحابه بتحريها، وكان يوقظ أهله في ليالي العشر الأواخر من رمضان رجاء أن يدركوا ليلة القدر، وكان يشد المئزر وذلك كناية عن جده واجتهاده عليه الصلاة والسلام في العبادة في تلك الليالي، واعتزاله النساء فيها، وورد عن بعض السلف الاغتسال والتطيب في ليالي العشر تحرياً لليلة القدر التي شرفها الله ورفع قدرها.

ولهذا ينبغي أن يتحرها المؤمن في كل ليالي العشر عملاً بقوله article_salla: { التمسوا ليلة القدر في العشر الأواخر من رمضان } [متفق عليه]، وقد أخفى الله عز وجل علمها حتى يجتهد الناس في العبادة في تلك الليالي، ويجدوا في طلبها بغية الحصول عليها، فيظنون أنها في كل ليلة، فترى الكثير من الناس في تلك الليالي المباركة بين ساجد وقائم وداع وباك، فاللهم وفقنا لقيام ليلة القدر، واجعلها لنا خيراً من ألف شهر، فالناس بقيامهم تلك الليالي يثابون بإذن الله تعالى على قيامهم كل ليلة، كيف لا وهم يرجون ليلة القدر أن تكون في كل ليلة، ولهذا كان من سنة النبي article_sallaالاعتكاف في ليالي العشر من رمضان.

وليلة القدر لا تختص بليلة معينة في جميع الأعوام بل هي تنتقل، أي قد تكون في عام ليلة خمس وعشرين، وفي عام آخر ليلة ثلاث وعشرين وهكذا فهي غير ثابتة بليلة معينة في كل عام.

فضائل ليلة القدر :

- أنها ليلة أنزل الله فيها القرآن، قال تعالى: braket_rإنا أنزلناه في ليلة القدر braket_l.

- أنها ليلة مباركة، قال تعالى: braket_rإنا أنزلناه في ليلة مباركة braket_l.

- يكتب الله تعالى فيها الآجال والأرزاق خلال العام، قال تعالى: braket_rفيها يفرق كل أمر حكيم braket_l.

- فضل العبادة فيها عن غيرها من الليالي، قال تعالى: braket_rليلة القدر خير من ألف شهر braket_l.

- تنزل الملائكة فيها إلى الأرض بالخير والبركة والرحمة والمغفرة، قال تعالى: braket_rتنزل الملائكة والروح فيها بإذن ربهم من كل أمر braket_l.

- ليلة خالية من الشر والأذى وتكثر فيها الطاعة وأعمال الخير والبر، وتكثر فيها السلامة من العذاب ولا يخلص الشيطان فيها إلى ما كان يخلص في غيرها فهي سلام كلها، قال تعالى: braket_rسلام هي حتى مطلع الفجر braket_l.

- فيها غفران للذنوب لمن قامها واحتسب في ذلك الأجر عند الله عز وجل، قال article_salla: { من قام ليلة القدر إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه  [متفق عليه].

فليلة هذه فضائلها وخصائصها وهباتها، ينبغي علينا أن نجتهد فيها ونكثر من الدعاء والاستغفار والأعمال الصالحة، فإنها فرصة العمر، والفرص لا تدوم، فأي فضل أعظم من هذا الفضل لمن وفقه الله، فاحرصوا رحمكم الله على طلب هذه الليلة واجتهدوا بالأعمال الصالحة لتفوزوا بثوابها فإن المحروم من حُرم الثواب، ومن تمر عليه مواسم المغفرة ويبقى محملا بذنوبه بسبب غفلته وإعراضه وعدم مبالاته فإنه محروم، أيها العاصي تب الى الله واسأله المغفرة فقد فتح لك باب التوبة، ودعاك إليها وجعل لك مواسم للخير تضاعف فيها الحسنات وتمحى فيها السيئات فخذ لنفسك بأسباب النجاة.

اللهم اجعلنا ممن وفق لقيام ليلة القدر، فأجزلت له المثوبة والأجر، وغفرت له الزلل والوزر، اللهم اغفر لنا ما قدمنا وما أخرنا، وما أعلنا وما أسررنا، وما أنت أعلم به منا، برحمتك يا عزيز يا غفار، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.

 

sigpic11082_64


 

 

 

 

الاعتكاف سنّة ثابتة

للشيخ عبد الملك القاسم


135


الحمد لله الذي كان بعباده خبيراً بصيراً، يثيب بمنه وفضله على القليل كثيراً، والصلاة والسلام على من بعثه الله هادياً ومبشراً ونذيراً، نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين وبعد:

فإن موسم رمضان موسم عظيم لمن أراد النجاة وسعى إلى فكاك رقبته من النار، ففي هذا الشهر تتنوع العبادات، وتتضاعف الحسنات، وتتنزل الرحمات، ومن خصائص هذا الشهر العشر الأواخر منه التي كان النبي article_sallaيجتهد بالعمل فيها أكثر من غيرها، فعن عائشة رضي الله عنها: { أن النبي article_sallaكان يجتهد في العشر الأواخر ما لا يجتهدُ في غيره } [رواه مسلم]. وفي الصحيحين عنها قالت: { كان النبي article_sallaإذا دخل العشرُ شد

مئزره، وأحيا ليله، وأيقظ أهله }. وفي مسند أحمد عنها قالت: { كان النبي article_sallaيخلط العشرين بصلاة ونوم، فإذا كان العشر شمَّر المئزر ). ومن الأعمال التي يعملها في العشر الأواخر: الاعتكاف: وهو لزوم المسجد للتفرغ لطاعة الله عز وجل، وهو من السُنن الثابتة بكتاب الله وسنة رسوله article_salla، قال الله تعالى: braket_rوَلا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ braket_l[البقرة:187]، وعن عائشة رضي الله عنها: { أن النبي article_sallaيعتكف العشر الأواخر من رمضان حتى توفاه الله عز وجل، ثم اعتكف أزواجه من بعده } [متفق عليه].

والاعتكاف من السُنن المهجورة التي قلَّ العمل بها وغفل عنها كثير من الناس، قال الإمام الزهري رحمه الله: (عجباً للمسلمين ! تركوا الاعتكاف مع أن النبي article_sallaما تركه منذ قدم المدينة حتى قبضه الله عز وجل). فبادر أخي المسلم إلى إحياء هذه السنة العظيمة وحث الناس عليها والترغيب فيها. وأبدأ بنفسك فإن الدنيا مراحل قليلة وأيام يسيرة، فتخلص من عوائق الدنيا وزخرفها ولا يفوتك هذا الخير العظيم، واجعل لك أياماً يسيرة تتفرغ فيها من المشاغل والأعمال وتتجه بقلبك وجوارحك إلى الله عز وجل في ذل وخضوع وانكسار ودموع لتلحق بركب المقبولين الفائزين.

أخي المسلم: الاعتكاف يكون في كل مسجد تقام فيه الجماعة، ومن تخلل اعتكافه جمعة استحب له أن يعتكف في مسجد جُمعةٍ، فإن اعتكف في مسجد جماعة خرج إلى الجمعة ثم رجع إلى معتكفه. واحرص أخي المعتكف على أن يكون اعتكافك في مسجدٍ بعيدٍ عن كثرة الناس والإزعاج، واختر أحد المساجد التي لا تعرف فيها أحداً، و لا يعرفك فيها أحد، فإن هذا أحرى للإخلاص وَأَفْزَغُ لقلبك وذهنك من محادثة الناس وكثرة مجالستهم ومخالطتهم، وإن كنت ممن يعتكف في الحرمين الشريفين فتجنب التضييق على إخوانك المصلين وافسح لهم المجال لأداء الصلوات ولا تكن ممن يرغب أن يُظهر للمصلين اعتكافه حتى يسلموا عليه أو يفسحوا له ! وبعض المعتكفين لا يصلي أحياناً التراويح أو القيام مع المصلين ويشوش عليهم برفع الصوت في أحاديث لا طائل من ورائها.

والاعتكاف مسنون في أي وقت، فللمسلم أن يبتديء الاعتكاف متى شاء وينهيه متى شاء، إلا أن الأفضل أن يعتكف في رمضان خاصة العشر الأواخر منه، فإذا صلى فجر يوم الحادي والعشرين من رمضان دخل المعتكف ويمكث في المسجد حتى خروجه إلى صلاة العيد وهذا وقت انتهائه المستحب.

وهي فرصة عظيمة وساعات قليلة ؛ ليستفيد المسلم من هذا الانقطاع والبعد عن الناس، ليتفرغ لطاعة الله في مسجد من مساجده ؛ طلباً لفضله وثوابه، وإدراك ليلة القدر.. من قبل أن تطوى الصحف وتوضع الموازين..

أخي المعتكف: احرص على الذكر والقراءة والصلاة والعبادة، وتجنب ما لا يعينك من حديث الدنيا، ولا بأس أن تتحدث بحديث مباح مع أهلك أو غيرهم لمصلحة، لحديث صفية أم المؤمنين رضي الله عنها قالت: { كان النبي article_sallaمعتكفاً فأتيتُه أزوره ليلاً فحدثته ثم قمت لأنقلب ( أي لأنصرف إلى بيتي ) فقام النبي article_sallaمعي... } [متفق عليه].

ويباح لك أن تخرج من المسجد لحاجاتك الضرورية كقضاء الحاجة من بولٍ أو غائط، أو للإتيان بطعام وشراب إن لم يكن هناك من يحضره لك، ومثله التداوي إن إصابك المرض وأنت معتكف، وكذلك إسعاف مريض من أهلك تجب عليك رعايته ولا تجد من يتولى أمره غيرك.

ومن محظورات الاعتكاف: الخروج لأمرٍ ينافي الاعتكاف، كالخروج للبيع والشراء، وجماع أهله، ومباشرتهم، ونحو ذلك.

أخي المعتكف: إن كان معك رفقه، فاختر الرفقة التي تعينك على الطاعة وتشد أزرك وتحرص على الخير واستغلال الأوقات وعمارتها بالعبادة، وتجنب الذين تضيع أوقاتهم في حديث وكلام. وبعض المعتكفين إذا كانوا جماعة يظهر عليهم الجد في أول الأيام، ثم يتراخون ويتكاسلون، وتراهم كثيراً ما تضيع أوقاتهم في أحاديث لا فائدة من ورائها، وقد ينجرُّ الحديث إلى أمور محرمة من غيبة أو غيرها.

أخي المسلم: الاعتكاف سنة، والمحافظة على بيتك وأبنائك من الواجبات، فاحذر أن تضيع الأهم وتفرط في أمر الرعاية، بل اجمع بين الأمرين، واحرص على ابتعادهم عن مواطن الفتن، ولا يكن اعتكافك فيه ضياع لحقوق واجبة. وإن تيسر أن يصحبك أبناؤك في الاعتكاف ؛ فإن في ذلك طريق تربية، وراحة نفسية لك، وأُلفة بينكم، وتعويد لهم على العبادة ؛ وإن صعب الأمر عليهم فلا أقل من ليلة يعتكفون فيها معك، وأجزل لهم العطية وشجعهم على ذلك.

أخي المسلم: مواسم الطاعات محطات يتزود فيها المسافر إلى جنة عرضها السماوات والأرض، فكن من العقلاء الفطناء الذين لا تفوتهم هذه الفرص وهذه المحطات إلا وقد نالوا من نفحات الرب وجزيل الأجر وعظيم المثوبة.

فاحرص على الاعتكاف بنية صادقة، وابتعد عن المباهاة والرياء، وحب المدح والثناء، وإياك والعجب بأعمالك، واحرص على أن تكون أعمالك خالصة لله عز وجل قال تعالى: { وَمَا أُمِرُوا إِلا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ } [البينة:5]، وفي الحديث المشهور: { إنما الأعمال

بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى.. [متفق عليه]. ومما يُعينك على ذلك اختيار المسجد الذي لا تعرف فيه أحداً ولا يعرفك أحد، ولا حاجة لك أن تعلن اعتكافك على الملأ في يوم العيد أو بعده!

أقر الله عينك بالعبادة وجعلك من الفائزين المقبولين، وغفر لنا ولوالدينا ولجميع المسلمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

 

 

 

 


حلويات جزائرية


من كتاب متعة المائدة للسيدة بوحامد

amine050

amine052

 

 

 

amine053

 

 

 

صحتك في رمضان      برنامج غذائي صحي متوازن


يحرص الناس في هذا الشهر المبارك على تناول الوجبات الكثيرة التي تسبب لهم في الغالب العديد من أمراض المعدة كالإمساك والتخمة الزائدة، ويغفل الكثير عما جاءت به السنة النبوية من آداب يتحلى بها المؤمن عند الإفطار، والتي بدورها حفلت بالعادات الصحية السليمة والتعاليم الطبية الواقية للجسم من الإرهاق والألم والتي هي في نفس الوقت تظهر فوائد الصوم ومنافعه العديدة.

ولكي نصل إلى هذا النظام الصحي، يجب علينا أن نتقيد بتعليمات معينة متعلقة بالسلوكيات الغذائية في فترة الصوم، ويمكن إجمالها فيما يلي:-

1-  الاستعجال بتناول وجبة الإفطار:

وفي هذا يخبر نبينا صلى الله عليه وسلم قائلا : ( لا يزال الناس بخير ما عجلوا الفطر) رواه البخاري و مسلم , ولهذا الاستعجال فوائد وآثار صحية تعود بالنفع على الصائم , فالصائم الذي يصوم مدة طويلة تتراوح ما بين 10 إلى 14 ساعة يكون في أمس الحاجة إلى تعويض ما فقده من ماء وطاقة خلال فترة النهار, والصائم الذي يقوم بتأخير الإفطار عن وقته فإنه في الغالب يصاب بانخفاض مستوى السكر في الدم ومن ثم حدوث هبوط عام.

2- الإفطار على التمر:

يبدأ الصائم عند الإفطار بأكل الرطب أو التمر، وفائدة ذلك تعويض ما استهلكه الجسم من السكريات خلال فترة الصيام، فإذا لم يتيسر للصائم الإفطار على التمر، ينتقل إلى الماء ويتناول معه قليلا من اللبن والحساء الدافئ، وبعد ذلك يأخذ الصائم قسطا من الراحة حتى يتأهب لمرحلة أخرى من الإفطار، ويذهب لصلاة المغرب.

3- تناول الإفطار الأساسي بعد الصلاة:

حتى يتم الحصول على غذاء صحي متوازن، لابد أن تكون وجبة الإفطار مشتملة على العناصر الغذائية  الرئيسية وهي :- البروتينات، النشويات، السكريات والدهنيات إضافة إلى المعادن والفيتامينات وليست هناك قيود على أنواع معينة من الطعام إلا إذا كان الصائم يعاني من أمراض معينة تتطلب حمية خاصة.

وهنا نذكر للصائم ببعض النقاط المهمة التي يجب أن يضعها في عين الاعتبار:
أ-  تجنب الإفراط في الطعام وإتخام المعدة بشتى الأصناف.
ب- الإقلال من استهلاك السكريات المكررة والمصنعة، كذلك الدهون بصفة عامة والدهون المشبعة بصفة خاصة.
ج-  تجنب الإكثار من التوابل والشطة والبهارات والمخللات.
ح-  الإكثار من تناول السلطة الخضراء والفواكه.
د- ينصح أيضا بعدم الإكثار من شرب المنبهات مثل الشاي والقهوة لأنها ترهق المعدة، ومحاولة الابتعاد التام عن المياه الغازية والعصائر المحفوظة غير الطبيعية.

4- التنبيه على بعض العادات السيئة بعد الإفطار:-

- مما اعتاده بعض الناس في رمضان النوم بعد الإفطار, وهي من العادات السيئة والشائعة.

- كذلك مما اعتاده الناس التدخين, حيث من الملاحظ أن الكثير من الصائمين يهرع بعد الأذان أو الإفطار إلى التدخين ظناً منه أنها وسيلة لإشباع الجوع والعطش, ويغفل عن الأضرار التي يسببها  التدخين خاصة وأن معدته خالية من الطعام، ناهيك عن تأثيراته السيئة على شهية الصائم، وغير ذلك الكثير من أخطاره وآثاره السيئة على الجسم.

- ومما اعتاده الكثير الإفراط في شرب الشاي والقهوة والمشروبات السكرية, وهذا له آثار سلبية على المعدة.

5- لكي تتجنب الإمساك في رمضان :

من المعلوم أن المعدة الخالية بعد فترة صيام طويلة لا تقبل كمية كبيرة من الطعام مباشرة من غير تنبيهها وإعدادها لذلك, وإن تناول الطعام بكميات كبيرة وعلى دفعة واحدة يسبب آلام في المعدة والأمعاء, ومشاكل عسر الهضم، والتي تظهر على شكل انتفاخ وغازات في البطن وإمساك، وهذه الأعراض لا تقف عند هذا الحد بل تؤدي إلى الإحساس بالكسل والخمول والفتور،

ولذا ننصح الصائم بتناول الإفطار على فترتين فترة أولى فيها التمهيد للمعدة وهو الإفطار على التمر، وفترة ثانية تكون بعد الصلاة مع مراعاة عدم الإكثار من تناول الأطعمة، واتباع نظام غذائي متوازن وهو ما ذكرناه آنفا .

وفي النهاية على الصائم أن يتذكر قول المصطفى صلى الله عليه وسلم :-  ( ما ملأ ابن آدم وعاء شرا من بطن، بحسب ابن آدم لقيمات يقمن صلبه، فإن كان لا بد فاعلا، فثلث لطعامه وثلث لشرابه وثلث لنفسه ) أخرجه أحمد و الترمذي . والله أعلم.

المصدر : www.ramadan.islamweb.net

 

 

 

 

 




 

 

 

 

 


الأسئلـــــــة 


السؤال الأول : ما معنى كلمة لا إله إلاّ الله ؟

السؤال الثاني : ما معنى شهادة أنّ محمدا رسول الله ؟

السؤال الثالث : أذكر أقسام التوحيد وعرّفها باختصار؟

السؤال الرابع : وصفه الله عز وجل في القرآن الكريم بالظلم العظيم ما هو ولماذا؟

السؤال الخامس : بماذا اختُصَّ نبينا صلى الله عليه وآله وسلم عن غيره من الأنبياء عليهم الصلاة والسلام ؟

السؤال السادس : من هم أولو العزم من الرسل ؟

السؤال السابع : ما هي أعظم آية في كتاب الله ؟

السؤال الثامن : من هم الخلفاء الراشدون ومن هم العشرة المبشرون بالجنّة ؟

السؤال التاسع : من هم آل بيت النّبي صلى الله عليه وآله وسلم وما هو واجبنا تجاههم ؟

السؤال العاشر : لماذا سمي الشيعة بالرافضة ؟

جوائز المسابقة : مجموعة أقراص كمبيوتر CD

شروط المسابقة :- الإجابة على جميع الأسئلة .

- لا يحق للمتسابق أن يشارك أكثر من مرة .

- ترسل الإجابات مجتمعة مع اسم المشارك الكامل وبريده الالكتروني على البريد التالي : ramadane1429@maktoob.com

- آخر أجل لإرسال الإجابات هو 20 شوال 1429 هـ.

- تجرى القرعة مباشرة بعد التاريخ المذكور لاختيار خمسة فائزين ويتم إعلامهم عن طريق بريدهم الالكتروني ويطلب منهم إرسال عناوينهم البريدية لترسل لهم جوائزهم . dddd__DISKkilercover1

edee__DISKamine054


49428بقلم محَمّد بِنْ يُوسُفْ الجُورَانِي


دارَ الزمانُ دَورته .. وتصرَّمت الأيامُ تِلْوَ الأيام .. وهَا هُو شهُرنا أَزِفَ رحيلُه .. وأَفَلَ نجمُهُ بعد أنْ سَطَعْ .. وسَيُظْلِم لَيلُهُ بعد أنْ لَمَعْ .

لا أدري ما أبْدَأُ به .. أَأُهَنِّيَكُم بِقُربِ العيدِ المبارك ، أَمْ أُعزِّيكم بفراقِ شهرِ القُرآنِ والغُفْران .

فجَبَرَ اللهُ مُصِيبَتَنا في رمضان .

القلبُ يمتلئ لوعةً وأَسَى ، والعينُ تُسطِّر بمدَادِها لحنَ الخلود .

واليدُ تَأْبَى أنْ تكتُب ؟ وما عساها أنْ تكتب ؟

أتكتبُ حالَ الرحيل ؟!

أتقيِّدُ مَوْقِفَ الوداع ؟!

أَتَنْقشُ ألَمَ الفراق ؟!

أحقاً انقضى رمضان ..!

أَذَهبَ ظَمَؤُ الصِّيامِ وانطفأَ نورُ القيام ..!

يا وَلَهِي عليه ..

أَذَهَبَ رمضانُ وغابَ هلالُهُ ..؟

هل قُوِّضتْ خِيامُه ..وتقطَّعتْ أوتادُه .. ؟

أيُّ حال للمؤمنِ والمؤمنةِ بَعْدَ رَحِيْلِ رمضان ..؟

يا راحـلاً وجمـيلُ الصَّبْرِ يَتْبعُهُ

هلْ مِنْ سَبيلٍ إلى لُقْيَاكَ يَتَّفِقُ

ما أَنْصَفتْكَ دُمُوعِي وهي دَامِيةٌ

ولا وَفَى لكَ  قَلْبي وهو يَحْتَرقُ

مَنْ الذي لا تُؤلِم نفسَهُ لحظاتُ الفراق ؟

من مِنَّا لا تَجْرحُ مشاعرَهُ ساعاتُ الغياب ؟

بالأمسِ القريب ، بَارَك بعضُنا لبعْضٍ استقبالَ رمضان ، فَسُكِبَتْ العبراتُ فرحاً واستبشاراً به ، وطرِبَتْ القُلُوب ، وشُنِّفَت الأسماع بصدى تراويحه

واليوم .. له لونٌ غريبٌ من الدُّموع !

فانهملتْ على الخدود .. وجادَتْ بأغلى ما لديها

يا عيوناً أرسلتْ أدْمُـعَـها

ما بِذا بأسٌ لو أَرْسَلْتِ الدّمَـا

رمضان وأيُّ شهر كان  ..؟

رمضانُ .. شاهدٌ لنا أو علينا مما أَوْدَعْنَاهُ من الأعمال ..

فَمْن أودعه صالحاً فلْيَحمدِ الله ، وليُبْشِرْ بحسن الثواب ، واللهُ لا يُضيعُ أجرَ مَنْ أحسنَ عملاً .

ومَنْ أَوْدَعَهُ سَيِّئاً فليَسْكُبِ الدَّمعَ الغزير ، وليأتِ ما بقي من القليل .

فكم من جاء بالقليل وتُوِّجَ بالقَبول ! وكمْ منْ جاء بالكثيرِ فَمُنِيَ بالحرمان .

غداً تـوفَّى النفـوسُ ما كسبت

ويحصدُ الزارعونَ ما زرعوا

 

إنْ أَحْسَنوا فقد أَحْسَنوا لأنفُسِهِم

وإنْ أساؤُوا فبِئْسَ ما صنعوا

أيُّ شهرٍ كان رمضان ..؟

شهرٌ عظَّمه اللهُ وكرَّمه ، فشرَّف صُوَّامه وقوَّامه ، مَنَحَهُمْ من الأجورِ ما ليس لغيرِهِ من الشُّهُور ، فجعل أجرَ صائميه متجاوزاً العشرةَ أضعاف ، بلْ والسبعمائة ضعف مما لا يُحدُّ ولا يُعدّ ، كلُّ ذلك لأنَّ الصيامَ له وهو سبحانه الذي يَجزي به، وكفى بهذا شَرَفاً وفَخْراً للمؤمن .

أيُّ شهرٍ كان رمضان ..؟

وفيه يُمنحُ المؤمنُ أكرمَ ما يحمله بين جَنَباتِ صَدْرِهِ

وأعظمَ ما يفتخرُ به في قلبِهِ : } لَعَلّكُمْ تَتّقُونَ{  [ سور البقرة : 183 ] فهي عمادُ العملِ .

وميزانُ الكَرَمِ : } إِنّمَا يَتَقَبّلُ اللّهُ مِنَ الْمُتّقِينَ) { [ سور المائدة : 27 ]

و } إِنّ أَكْرَمَكُمْ عَندَ اللّهِ أَتْقَاكُمْ{ [ سور الحجرات : 13 ]

فكُلَّمَا تَرقّى المرءُ في مَدارجِ الشَّرفِ بالصُّعودِ في مَعارجِ التَّقوى ، زادتْ أجورُ أَعْمالِهِ الصَّالحة :  } إِنّمَا يُوَفّى الصّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ{[ سورة  الزمر : 10 ] وهل رمضانُ إلا تعبُّدٌ بالصبر ؟!

إذا المرءُ لَمْ  يَلبسْ ثِياباً من التُّقَى

تقلَّبَ عُرْياناً وإنْ كان كَاسِيا( 2 )

أيُّ شهرٍ كان رمضان ..؟

وهو مِضْمَارٌ واسعٌ للتَّنافُسِ في الخيراتِ ، تَنَوَّعتْ فيه الطَّاعات ، فيه سِرٌّ بين الطَّائِعينَ وبينَ رَبِهِم في أيَّامِهِ المعدودات ، والمُحِبُّونَ يَغارُونَ من اطَّلاعِ الأَغْيَارِ على الأَسْرَار .

لا تُذِعِ السِّرَّ المصونَ فإنَّني       أغارُ على ذِكْرِ الأحبةِ مِنْ صَحْبِي

 

أيُّ شهرٍ كان رمضان ..؟

كان موسماً لمضاعفة الأعمالِ والغُفْران ، ومُنَبِّهاً لذوي الغَفَلاتِ والنِّسْيَان ، محفوفاً بفضيلةِ تلاوةِ القرآن ، حين فيوضات الجودِ والكَرمِ من المنَّان.

شهرُ رمضان ..

نهارُهُ مصونٌ بالصيام ، وليلُهُ معمورٌ بالقيام ، هبَّت فيه رياحُ الأنسِ بالله ، وجَادَتْ الأنفسُ بما عندها نحو الله .

لكَ الله يا شهراً أفاءتْ بِظِلِّهِ

قلوبٌ على حَقل الخطيئَاتِ تُزهِرُ

ألا أيُّهذا الشهرُ أغدِق فَضَائلاً

على كُلِّ مسْكينٍ على العَدمِ يُفْطِرُ

فقُولُوا لي بِرَبِّكُمْ :

كيفَ لا تَفيضُ دُموعُ المؤمنِ على رَحيلِ رمضان ، ولا يَدري أيدركُ تلكَ الفضائلَ والمزايا مِنْ عَامٍِ ثَان ؟

كيف لا تَجْري دموعُ المُخْبتةِ على فراقِ رمضان ، ولا تَعْلم أَحَظِيَتْ بالقَبولِ والغُفْران ، أَمْ رُمِيَتْ بالطَّردِ والحِرْمَان ؟

دَعِ البكاءَ على الأطْـلالِ والدَّارِ

واذكُرْ لمنْ بَانَ من خِلٍّ ومِنْ جَـارِ

أَذْرِ الدُّموعَ  نحيباً وابْكِ من أسفٍ

على فِـرَاقِ لَـيالٍ ذاتِ أَنْــوارِ

على لَيالٍ لشهرِ الصَّومِ ما جُعِلَتْ

إلا لِتَـمْـحِيـصِ آثــامٍ وأَوْزارِ

يا لائِمِي في البُكَا زِدْنِي به كَلَـفَاً

واسمعْ غريبَ  أحاديثٍ  وأَخْبار

أيُّ شهر كان رمضان .. وفيه ليلةُ القَدْر ؟ لك اللهُ يَا رَمَضَان .

يا أيُّها الشهرُ الذي فِيكَ أَشْهرٌ

ويا أيُّها الدَّهرُ الذي فيك أَدْهُرُ

رَحلَ رمضانُ وانقضى ، فما حالُنا مع هذا الرَّحيل ؟

ألا نَأْتَسِي بِعِلْيَةِ القومِ كيفَ يكونُ حالهم ؟

ألا نَتفكَّرُ حالَ وداعِ المحبِّين ؟

أَنَعْرفُ كيف يُوَدِّعُ أبو بكرٍ ، وعمرُ ، وعثمانُ ، وطَلْحةُ ، والزبيرُ ، وأبو عُبَيْدةَ  _ رضوان الله عليهم _ رمضان ؟

أَخَطرَ في خُلْدِنا شَأْنُ الإمامِ الأوزاعيِّ، وصِلَةِ بن أَشْيَم ، ورَابعةِ العَدويَّة ، والإمامِ أحمد ، وابنِ المبارك ، وشيخِ الإسلام ابن تيميَّة _ رحمهم الله _ في وَدَاعِهِم لرَمَضان ؟

ألا نتوقَّف لِنَنْظُرَ و نتَّعِظُ كيفَ يَعْملُ بشيرُ الجزائرِ ( 1 )؟

وقُطْبُ مصر؟

وسباعيُّ الشام؟ وإقبالُ بنجاب؟ وظهيرُ باكستان ؟

وعُثَيْمِينُ نجد( 1 ) في رَحيلِ رَمَضَان ؟

أولئكَ آبائِي فجئني بمثلِهُم  إذا جمعتْنا يا جريرُ المجامعُ

لقد كان سلُفنا الصالح رحمه الله خيرَ مثالٍ يُقْتدى به في حنينِ الوداع ، ضَربُوا أروعَ الأمثلةِ في ذلك ، سُطِّر عبيرُ حياتهم في المصنفات ، وكُتِبَ روعةُ حَنِيْنِهِمْ في الكِتَابَات ، فانظرْ في وَدَاعِهِم لشَهْرِهِم كيف يكون ؟

فيالله .. ما أروعَ الخطبَ وما أجلّ الموقفَ ! وما أحسنَ تلكَ الدموع وهي تقفُ تُوَدِّعُ الضيفَ الحبيبَ وقد سالتْ على الخدودِ ! وما أطربَ شجي الآهاتِ لوداعِهِ !

يالله .. كمْ أناسٍ صَلُّوا في هذا الشهر التراويح ، وأَوْقَدوا في المساجدِ طََلَباً للأجر المصابيح ، نَسَخَوا بإحسانِهم كلَّ فعلٍ قبيح ، وقبلَ التَّمام سَكَنَوا الضريح .

وهانحنُ اليومَ أَوْشَكْنا على التمام ، فكيف وَداعُ المحبِّين ؟ وما أمرُ المخْبِتِيْن ؟

 

تفيضُ عيوني بالدُّمُوعِ السَّواكِبِِ

وماليَ لا أَبْكِي على خَيْرِ ذَاهبِ

 

كيف سيكونُ حالُنا ؟ وما مصيرُ العمل ؟ أَيُقْبَلُ أَمْ يُرَدُّ ويُطْرَح ؟

تَذكـرْتُ أيـاماً مضتْ ولياليا

خَلَتْ فَجَرتْ من ذِكرهنَّ دموعُ

أَلا هلْ لها يوماً من الدَّهر عَوْدةٌ

وهلْ لي إلى وقتِ الوِصَال رُجوعُ

وهل بعد إعراضِ الحبيبِ تَواصُلٌ

وهل لِبـدورٍ قد أَفَلْـنَ طُلـوعُ( 1 )

 

فما حالُ السَّلفِ في وَدَاعِ رَمَضَان ؟

وكيف يكونُ الجيلُ القُرآنيُّ الفريدٌ في إِشْفَاقِهِم في قَبولِ العَملِ بَعدَ رَحيلِ رَمَضَان ؟

فعن عائشة رضي الله عنها ، قلتُ : يا رسولَ اللهِ ، قولُ اللهِ تعالى :        }  t وَالّذِينَ يُؤْتُونَ مَآ آتَواْ وّقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنّهُمْ إِلَىَ رَبّهِمْ رَاجِعُونَ) [سورة: المؤمنون - الآية: 60]{

أَهُمْ الذين يَشربونَ الخمرَ ويَسرقونَ ويَزنونَ ؟ قال : لا يا ابنةَ الصديق ! ولكنَّهم الذين يَصومونَ ، ويُصلُّونَ ، ويَتصدَّقُونَ ، وهم يخافون ألا يُقْبَلَ منهم ، أؤلئك الذين يُسارعونَ في الخيْرَات ! ".( 1

قال الحسنُ رحمه الله : عَمِلُوا واللهِ بالطَّاعاتِ واجتَهدُوا فيها وخافوا أنْ تُرَدَّ عليهم ، إنَّ المؤمنَ جمع إحساناً وخشية ، وإنَّ المنافقَ جمع إساءة وأمناً.( 2 )

آيةٌ عظيمة أرَّقَتْ قلوبَ الخائفين وقَصَمَتْ ظهورَ الصالحين ، فلله دَرُّهُمْ( 3 )

رُوِيَ عن علي t : أنَّه كان ينادي في آخرِ ليلةٍ من رمضان : ياليتَ شعري ! من المقبولُ فنهنَّيه ؟ ومن المحرومُ فنعزَّيه ؟

وذا ابنُ مسعودِ t يقول : أيها المقبولُ هنيئاً لك ،  ويا أيها المردودُ جَبَرَ اللهُ مصيبتَك !( 1 )

وهذا عامرُ بن قيس رحمه الله  : يبكى ! فقيل له ما يبكيك ؟

فقال : والله ما أبكي حرصاً على الدنيا أو متاع ، أبكي على ذهابِ ظَمَأِ الهواجر ، وعلى قيام ليالي الشتاء !( 2 )

وتأمَّلْ حالَ العالمِ الورعِ الزاهد ، عمرَ بن عبد العزيز رحمه الله ، حين خرج يوم الفطر ليخطب فقال : أيُّها الناس .. صُمتمْ للهِ ثلاثينَ يوماً ، وقُمتمْ ثلاثينَ ليلةً ، وخرجتم اليوم تطلبون من الله أنْ يَتَقبَّلَ منكم ما كان ! .

وكان بعضُ السلفِ يَظْهَرُ عليه الحزنُ يومَ عيدِ الفطرِ ، فيُقَالَ له : إنَّه يومُ فرحٍ وسرور ، فيقول : صَدَقْتُمْ ؛ ولكني عبدٌ أمرني مولاي أنْ أعملَ لَهُ عملاً ، فلا أَدْرِي أَيْقبَلُهُ مِنِّي أَمْ لا ؟( 3 )

قال ابنُ رجب رحمه الله : ولقد كان السلفُ رحمهم الله يَدْعُون الله ستةَ أشهرٍ أنْ يُبلّغهم شهرَ رمضان ، ثم يَدْعُون الله ستةَ أشهرٍ أنْ يَتقبَّله منهم.

وقال عبد العزيز بن رَوَّاد رحمه الله : أدركتُهُم _ الصَّحابَة _ يجتهدون في العملِ الصالح ، فإذا فعلوه وقعَ عليهم الهمُّ أيقبلُ منهم أو لا ؟

وقال الحسنُ رحمه الله : إنَّ اللهَ جعلَ شهرَ رمضانَ مضماراً لخلقه يَسْتبِقُون فيه بطَاعَتِهِ إلى مَرْضَاتِهِ ، فَسَبَقَ قومٌ فَفَازُوا ، وتَخَلَّفَ آخرونَ فَخَابُوا ، فالعجبُ من الَّلاعِبِ الضَّاحِكِ في اليَومِ الذي يَفُوزُ فيه المُحْسِنُون ، ويَخْسَرُ فيهِ المُبْطِلُون . ثُمَّ يَبْكي رحمه الله .( 1 )

اسمـعْ أنينَ العاشقين

إنِ استطعتَ له سَماعا

راحَ الحبيبُ فَشَيَّعَـتْهُ     مَـدامعي تَهْمِي سِراعا

لو كُلِّف الجبلُ الأصمُّ  فِراقَ إِلْفٍ ما استطاعا( 2 )

فبالله عليكم ..  أَرَأَيْتُمْ صُورةً أحلى من صُورةِ المحبِّين في الوَدَاعِ كهَذِهِ ؟

أَقَرأْتُمْ عن رَوعةِ الحنين للقاء ؟

إنهَّم القومُ فَقِهُوا عَن اللهِ وَوَعوْا عن رسولِ الله  صلى الله عليه وسلم حازوا قصَبَ السَّبْقِ في كلِّ شيء ، واسْتَولوا على معالي الأمورِ ، فهم مَشعلٌ من مَشاعِل العِلمِ والإيمانِ والهدى ، فالسعيدُ من اتَّبعَ طريقهم ، واقتفى أثرَهُمْ ، والشقيُّ من عدَلَ عن طريقِهِم ولَمْ يَبلغْ مَنْهَجَهُم ، " فأيُّ خِطَّةِ رُشْدٍ لم يَسْتَولُوا عليها ، وأيُّ خِصْلةِ خيرٍ لَمْ يَسْبِقُوا إليها ، تالله ؛ لقد ورَدُوا يَنْبوعَ الحياةِ عَذْباً صَافياً زُلَالَا ، فوطّدوا قواعدَ الدِّينِ فلمْ يَدَعُوا لأحدٍ بَعْدَهُم مَقَالا " ، إنهَّم القوم :

} يُحِبّهُمْ وَيُحِبّونَهُ) [سورة: المائدة - الآية: 54]{ فكان ما أنتَ سامعٌ ولا عَجَبْ !

قَومٌ عندهم لذةُ العبوديِّةِ  فوقَ كلِّ لذةٍ !

قَومٌ وطَّنوا أَنْفُسَهُم على اكتسابِ الذِّخرِ البَاقي والتجارة الرابحة .

فأين أنتَ من تلك المناقبِ الزَّاهية ، و المراتب العالية ؟

ترحَّلت يا شهرَ الصيامِ بصومِنا

وقـدْ كنتَ أنواراً بكلِّ مكانِ

لئنْ فَنِيَتْ أيامُك الزُّهرُ بَغتـةً

فما الحزنُ مِنْ قلبي عليك بِفَانِ

عليكَ سلامُ الله كن شاهداً لنا

بخـيرٍ رعاكَ الله مِنْ رمـضانِ

لئِنْ رحلَ رمضانُ ، فإنَّ العملَ لنْ يرحل يا صاحِ.

لئِنْ انقضى رمضانُ فالسيرُ نحو الله لن ينقضي يا أُخَيَّتي  .

فيا أُخَيَّ .. بَادِرْ ، وسَابِقْ ، ونَافِسْ في الخَيْرَات .

فالعمل لا يتوقف إلا بانقطاع الأجل ، و إذا ماتَ ابنُ آدم انقطعَ العمل( 1 ) فابْقِ لكَ أَثَراً صَالِحَاً قَبْلَ الرَّحِيْل .

قال الحسنُ البصريُ رحمه الله : أيْ قوم ، المداومَةَ المداومة ، فإنَّ اللهَ لَمْ يجعلْ لعملِ المؤمنِ أَجَلاً دُونَ الموت .( 2 )

} وَاعْبُدْ رَبّكَ حَتّىَ يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ) [سورة: الحجر - الأية: 99]{

فيا رعاك الله .." اشترِ نفسَكَ اليوم . فإنَّ السوقَ قائمةٌ ، والثمنَ موجودٌ ، والبضائعَ رخيصةٌ ، وسيأتي على السوقِ والبضائعِ يومٌ لا تصلُ فيه إلى قليلٍ ولا إلى كثير " ( 3 )، فهؤلاء القوم لم يكونوا شَعْبَانِيِّين ، أو رمضانيِّين !



يا شهر رمضان ترفّق

 


large38857_390391716

 


فيَا شَهْرَ رَمَضانَ تَرَفَّق ، دُمُوع المحبِّين تَدَفَّق ، قُلُوبُهم من أَلَمِ الفِراقِ تَشَقَّق  ، عَسَى وَقفةٌ للودَاعِ تُطْفِئُ مِنْ نَارِ الشَّوقِ ما أَحْرَق ، عَسَى ساعةَ تَوبَةٍ وإقلاعٍ تَرْفُو مِنْ الصِّيامِ كُلَّ ما تَخرَّق ، عَسَى منقطعٌ عن ركب المقبولين يَلْحق ، عَسَى أسيرُ الأوزارِ يُطلَق ، عَسَى من استوجبَ النار يُعْتَق ، عسى رحمةُ المولى لها العاصي يُوفَّق .( 1 )

يا نفسُ فازَ الصالحون بالتُّقَى وأبصرُوا الحقَّ وقلبي قد عَمِي

يا حسنَهُمْ والَّليْلُ قـدْ جنَّهُمْ    ونورُهُمْ  يَـفُوقُ نورَ الأنْجُمِ

تَرنَّمـوا بالـذِّكْر في ليْلِهِمُ   فعيشُهُم قـدْ طابَ بالـتَّرنُّمِ

قلوبُهم للذِّكْر قدْ تفرَّغـت  دموعُهُم كَلُـؤْلُـؤٍ مُنْتَظِـمِ

أسحارهُم بهم لهم قد أشرقَتْ   وخِلَعُ الغُـفْرانِ خَيرُ القِـسَمِ

ويْحَـك يا نفسُ ألا تَيَقُّـظٌ  ينفعُ قبـل أنْ تَـزِلَّ قـدمِي

مَضَى الزَّمانُ في توانٍ و هوىً فاسْتَدْرِكي ما قدْ بَقي واغْتَنِمِي( 2 )

لك الله يا رمضان ، وقد تصرَّمت لياليك .

فعدْ مثلما قد جِئتَ ضَيفاً مُكْرماً      تُعَمِّـرُ من بُنْياننا ما تُعَمِّرُ

لك اللهُ يا رافداً مِنَ الله  للـورى     وبحراً من الغفرانِ لِلْخلْقِ يَغمُرُ

فمثْلُكَ شهرٌ لا تُوفَّى حُـقُوقُه        وعن مَدْحِه كلُّ الأقاويلِ تقصُرُ

اللهُمَّ يا سامعَ كلِّ نجوى ، ويا منتهى كلِّ شكوى ، يا عظيمَ المنِّ  ، يا واسعَ المغفرةِ ، يا باسطَ اليدين بالرحمة ، تقبلْ مِنَّا الصيامَ والقيام . واجعلنا ممن قبلْتَهُ ورضيتَهُ ونعمت عمله فوهبت له الأجرَ والمغنم  .

أسألُ اللهَ جل في علاه أنْ يغفر لنا يوم نلقاه.


اللهُمَّ إنك عفوٌ تحبُّ العفوَ فاعفُ عنَّا .

اللهُمَّ إنك عفوٌ كريمٌ تحبُّ العفوَ فاعفُ عنَّا .

اللهُمَّ اعتق رقابنا ورقاب والدينا من النار .

اللهُمَّ أعز الإسلام وانصر المسلمين .

اللهُمَّ ارفع الذل والضَّيْم عن إخواننا وأخواتنا المستضعفين والمستضعفات في كل مكان .


اللهُمَّ انصر إخواننا المجاهدين في كل مكان ، في فلسطين ، وفي العراق ، وأفغانستان ، والشيشان ،  وفي كل مكان يذكر فيه اسمك يا رب العالمين .

اللهُمَّ احفظ علينا في بلدنا وكل بلاد المسلمين نعمة الأمن والأمان، ونسألك الهدى والتُّقَى والعفاف والإيمان.

اللهُمَّ اجبر كَسْر قلوبنا على فراق شهرنا ،  اللهُمَّ أعده علينا أعواماً عديدة وأزمنة مديدة ، وكل عامٍ وأنتم إلى الرحمن أقرب .

wh_55719029

مواقع مفيدة

المشكاة الإسلامية   www.almeshkat.com

صيد الفوائد      www.saaid.net

طريق الإسلام    www.islamway.com

منتديات السرداب www.alserdaab.com

موقع كلمات www.kalemat.org

 



(1) رواه البخاري (1920) ومسلم (1174).

(2) رواه مسلم (1175).

(3) رواه الترمذي (795).

(4) هذه الرواية للإمام أحمد (1/132).

(5)  انظر: شرح ابن بطال (4/159) والمفهم (3/249).

(6)  انظر: شرح النووي على مسلم (8/71) والفتاوى الكبرى لابن تيمية (2/498) والديباج (3/264) وعون المعبود (4/176) والدراري المضيئة للشوكاني (1/234).

(7)  انظر: شرح ابن بطال (4/159).

(1) رواه البخاري (3084) ومسلم (1155) والترمذي (765) والنسائي (4/168) وابن ماجه (1640) وأحمد  (5/335).

(2) هذه الرواية للبخاري (1797).

(3) هذه الرواية للترمذي (765) وقال: حسن صحيح غريب.

(4) رواه البخاري (1798) ومسلم (1027).

(5) هذه الرواية للبخاري (2686) ومسلم (1027).

(6) هذه الرواية لأحمد في المسند (2/449).

(7) فتح الباري (7/29).

(8) انظر: صحيح ابن حبان (6867) وحديث ابن عباس فيه ضعف وقواه الهيثمي في مجمع الزوائد (9/46).

(9) انظر: فتح الباري (7/28).

(10) انظر: المصدر السابق (7/28-29).

(11) شرح النووي على مسلم (7/117).

(12) التمهيد (7/184-185).

(13) التمهيد (7/185).

( 2 ) لطائف المعارف ( 347 )

( 1 ) هو العالمُ العلّامةُ المجاهدُ محمد البشير بن محمد السعدي الإبراهيمي ، من كبار علماء الجزائر ، ولد في بلدة ( سطيف )  يوم الخميس الموافق 13 / 10 / 1306هـ صاحب تصانيف رائعة ، شاعرٌ إسلاميٌّ مُبْدِعٌ ، ومن روائع شعره :

لا نرْتضي إِمَامَنا في الصفِّ    مالمْ يكن أَمامَنا في الصفِّ

 

 

( 1 ) لطائف المعارف ( 387 )

( 1 )  أخرجه الترمذي : كتاب تفسير القرآن عن رسول الله ، باب ومن سورة المؤمنون ، ( 3175 ) . وابن ماجه : كتاب الزهد ، باب التوقي على العمل ، ( 4198 )

 

 

 

 

 

 

 

 

( 1 )  إلا من ثلاث كما قال المصطفى u : " من صَدقةٍ جارية ، أو عِلمٍ ينتفع به ، أوْ ولدٍ صالحٍ يَدْعو له " رواه مسلمٌ : كتاب الوصية ، باب ما يلحق الإنسان من الثواب بعد وفاته ، (

 

 

( 1 )  لطائف المعارف ( 388 )

( 2 )  المصدر السابق ( 323 )

<br /> الكتاب الاول الأجوبة العراقية على الأسئلة اللاهورية لأبي الثناء شهاب الدين محمود الحسيني الآلوسي البغدادي نزل اللهم يا مجيب السائلين وغياث المستغيثين وناصر السالكين مسالك الهدى وخاذل الهائمين في مهاوي الردى الناكبين عن الصراط السوي، نحمدك على أن هديتنا للاتباع وحفظتنا عن الزيغ والابتداع وأيدتنا بالدليل الجلي والبرهان القطعي. ونصلي ونسلم على من أنزلت عليه القرآن والزمن من الشدة قد فرغ وبعثته مؤيدا بالمعجزات الباهرات لينذر الحاضرين ومن بلغ، فصدع بالحكم الشرعي ونصرته بالرعب قبل المشرفي؛ وعلى صاحبه المخصوص بفضيلة {ثاني اثنين} ومن هو في القبر مضاجعه كهاتين، هذا وقد كانا رفيقين إذ الزمان جاهلي؛ وعلى عمر الذي كانت الشياطين تفر عن ظله وتتفرق هيبة من أجله إذا سمعوا خفق نعله هربوا من الأحوذي؛ وعلى عثمان مصابر البلاء من أيدي الأعداء الذي تستحي منه ملائكة السماء، سلام الله تعالى على ذلك الحيي؛ وعلى علي الذي ملئ علما وخوفا وعاهد على ترك الدنيا فأوفى ونحن والله نحبه أوفى من حب الرافضي؛ وعلى آله وسائر أصحابه وأزواجه وأتباعه الدارجين على منهاجه ما أحرق الشهاب كل شيطان مارد غوي. أما بعد، فيقول أفقر العباد إليه عز شأنه أبو الثناء شهاب الدين السيد محمود المفتي ببغداد عفى عنه: بينما علماء العراق الذين طار صيتهم إلى سائر الآفاق يجرون أذيال أفكارهم في رياض العلوم ويجرون جريال أنظارهم في حياض سرها المكتوم -زمن خلافة مجد ونظام الدين والدنيا ومجدد جهات العدالة العليا ستر الله تعالى في العالم الأكبر والمعير من بعض أنوار جلاله وجماله قرصي الشمس والقمر رب السطوات التي لا تبارى والغرمات التي غرت أن تجارى ظل الله تعالى المبسوط في بسيطته خليفته الأعظم في خليقته السلطان بن السلطان بن السلطان محمود خان العدلي ابن السلطان عبد الحميد خان، جعل الله تعالى حبات قلوب أعاديه منثورة بانتظام نظام مواليه ولا زالت رؤوس الملوك خاضعة لجلاله وأوابها الأيابي مقيدة بين يدي أقواله وأفعاله- إذ وفد عليهم من بلاد لاهور وافد وارتاد في محافل رياضهم رائد، فحط رحله حيث تحط الرجال رحالها وأنزل أصله حيث تبلغ النفوس آمالها، وذلك حضرة فرع الشجرة القادرية وعرف الغالية المحمدية نقيب الأشراف وفخر آل عبد مناف واحد الأحدين وثالث القمرين السيد السند ومقيم الأود الطائر مجده بجناحي البازالي النسر الطائر المقتفي آثار أجداده نجوم الهدى والسادة الأكابر السيد محمود أفندي ابن الحاج زكريا لا زال ثرى مواطئ أقدامه كحلا لعين الثريا. ثم أبرز له ألوكة من علماء لاهور وفقهم الله تعالى لما فيه اغتنام الأجود مشتملة على الاستفتاء عن حكم مسئلة وقعت هنالك وتشعبت في تحقيقها على ما نقل المذاهب والمسالك وتلخيصها: ما قول علماء الدين وأئمة المسلمين ومرشدي الطريقة وجامعي الشريعة والحقيقة -من ساكني دار السلام ومجاوري حضرت علم الأعلام الغوث الرباني والهيكل الصمداني الشيخ عبد القادر الكيلاني قدس سره وغمرنا وإياكم بره- في جماعة ظهروا في بلادنا يزعمون أنهم من أهل السنة ويسبون الصحابة خصوصا من خاض لجة الفتنة كمعاوية بن أبي سفيان ومن وافقه في ذلك الشأن، ألهذا أصل أصيل أم هو حديث خرافة من جملة الأباطيل انتهى. ومعها أيضا ورقة فيها أجوبة حقة قد حررها علماء أجلاء ومشايخ فضلاء ورقم كل منهم وراء أجوبة اسمه وختم تحته ليصدق ختمه رقمه، فعرض النقيب جميع ذلك لدى حضرت الوزير الخطير والبدر المنير الفائز بالرياستين الدينية والدنيوية والحائز الحكمتين العلمية والعملية. ثبت الجنان من وثباته ** وثباته يوم الوغى أسد الشرى يقظ يكاد يقول عما في عنيد ** ببديهة أغنته أن يتفكرا بعفو عن الدين العظيم تكرما ** ويصدّ عن قول الخفي متكبرا بين الملوك الغابرين وبينه ** في الفضل ما بين الثريا والثرا جالب قلوب أهل العراق بأنواع الإحسان على محبة سلطانه والمتمثل لأوامره الخاقانية في سره وإعلانه المتفضل على العلماء بما يضيق عن نطاق الحصر والمحب للأولياء قدست أسرارهم في المسمى والجهر جابر كسرى والمنعم علي بما لا يؤدى معشار عشر حقه وإن كنت أبا الثناء شكري مولاي علي رضا باشا لا زال له الرضاء غطاء والعلى فراشا، فأرسلها أيده الله تعالى إلى بعض علماء عصره والفضلاء المعول عليهم في مصره ليرى ماذا يجيبون وبم يرجع المرسلون. فرجعوا بعد برهة لرد من ارتكب السبب فعصى برسالتين إحداهما لعمري سيف والأخرى عصا. ثم أمرني بالجواب وتحرير الكلام في ذلك الباب مع ما أنا فيه الاشتغال بالتفسير وضيق وقتي عن منادمة سمير، فلم أر بدا من الامتثال لأمر من أوجب طاعته الملك المتعال متذكرا ما ورد عن النبي المختار ﷺ: «من سئل عن علم فكتمه ألجم بلجام من نار» فشرعت في تأليف هذه العجالة وترصيف هذه الرسالة معتمدا على فيض أكرم مسئول، مرتبا لها على مقدمة وخاتمة وثلاثة فصول. المقدمة في تعريف الصحابي فأقول أما المقدمة ففي تعريف الصحابي: اعلم أن الصحابي في اللغة كما قال شيخ الإسلام القاضي زكريا من صحب غيره ما يطلق عليه اسم الصحبة وإن قلت وهو نسبة إلى الصحابة وهي إحدى المصادر التي جاء فيها فتح التاء وكسرها وعد منها غير قليل أبو محمد بن قتيبة وتكون جمع صاحب وقيدها ابن الأثير بالفتح ثم قال: ولم يجمع فاعل على فعالة إلا هذا، والذي يقتضيه كلام بعض أجلة اللغويين أن الصحابة مصدرا كان أو جمعا يجوز في فائه الفتح والكسرة ولعله المعول عليه والنسبة على تقدير المصدرية من نسبة الشخص إلى من هو منهم وذلك على ما قيل بعد تنزيل الصحابة منزلة أسماء القبائل كتميم وقيس أو الأحياء كقريش وثقيف وإلا فالقياس صاحبي فليفهم. واختلفوا في تعريفه اصطلاحا فذهب الأكثرون ومنهم المحدثون والإمام أحمد وبعض الأصوليين وبعض أصحاب الإمام الشافعي عليه الرحمة إلى أنه من اجتمع بالنبي ﷺ مؤمنا ومات على الإيمان. وبعضهم قال من رأى النبي بدل من اجتمع بالنبي. ويدخل على الأول مثل ابن أم مكتوم ولا يدخل على الثاني إلا بتمحل، لكن يخرج عنه من رآه من بعينه حيث لا يعد ذلك اجتماعا عرفا. وقد عد أئمة الحديث هذا الصنف في الصحابة، ويمكن أن يقال أن عدهم ذلك على سبيل التوسع لشرف منزلة النبي ﷺ. فأعطوا كل من رآه حكم الصحبة كما صرح بذلك أبو المظفر بن السمعاني وأيده كما قال الشمني بما رواه شعبة عن موسى السيلاني قال: أتيت أنس بن مالك فقلت: هل بقي من أصحاب النبي ﷺ غيرك؟ قال: قد بقي ناس من الأعراب قد رأوه وأما من صحبه فلا. انتهى. ففرق بين من له صحبة ومن له رؤية. والظاهر أن المراد من قولهم من اجتمع بالنبي من اجتمع به حال نبوته. ويشهد له أنهم لم يترجموا في الصحابة من ولد له ﷺ قبل النبوة ومات قبلها كالقاسم وترجموا من ولد بعدها كإبراهيم. وعليه يخرج زيد بن عمرو بن نفيل جد سعيد أحد العشرة الذي قال فيه ﷺ إنه يبعث أمة وحده، لأنه اجتمع معه ﷺ قبل النبوة ومات قبل البعثة على الصحيح بخمس سنين على الدين الحنفي. لكن ذكره أبو عبد الله بن منده والبغوي وغيرهما في الصحابة، ولعله مبني على التوسع أيضا. وقد كان يعلم قرب بعثة نبي لكن لم يعلم أنه نبينا محمد بخصوصه. فقد أخرج الفاكهي أنه قال من حديث: وأنا أنتظر نبيا من ولد إسماعيل ثم من ولد عبد المطلب وما أراني أدركه وأنا أؤمن به وأصدقه وأشهد أنه نبي. ومن الغريب نقل الجلال الدواني القول بنبوته وأيده بعضهم بأنه كان يستند إلى الكعبة ثم يقول: هلموا إلي فإنه لم يبق على دين الخليل غيري. وأنت تعلم أن هذا التأييد أضعف من دين ماني. ولم نر نحن هذا النقل عن أحد في الكتب المعول عليها في هذا الباب لغير الجلال والظن فيه حسن. وقولهم مؤمنا حال من فاعل اجتمع، فيخرج من اجتمع به غير مؤمن. وقولهم ومات على الإيمان يخرج من اجتمع به ﷺ مؤمنا ومات -والعياذ بالله تعالى- كافرا كربيعة بن أمية وعبد الله بن جحش وعبد الله بن خطل. ثم ظاهر الكلام أن تخلل الردة لا يضر في إطلاق وصف الصحبة، وهو كذلك عند جمع سواء كان الرجوع إلى الإسلام في حياته ﷺ أم بعد وفاته، لأن أشعث بن قيس ارتد بعد النبي ثم رجع إلى الإسلام بين يدي الصديق الأكبر وزوّجه أخته. ولم يختلف أحد من المحدثين في عده في الصحابة وقال بعض: يشترط عدم تخلل الردة. والمراد من قولهم من اجتمع به ﷺ مؤمنا ومات على الإيمان الاستمرار على الإيمان لا اعتبار الطرفين فقط. وهذا الخلاف على ما قيل ناشئ من الخلاف في أنه هل الردة وحدها تحبط العمل أو هي بشرط الموت عليها. فمن قال بالأول لقوله تعالى: {لئن أشركت ليحبطن عملك} ذهب إلى الثاني، ومن ذهب إلى الثاني لقوله تعالى: {ومن يرتدد منكم عن دينه فيمت وهو كافر فأولئك حبطت أعمالهم} الآية وهي مقيدة للآية المطلقة لا أنها على التوزيع قال بالأول. وقد حققنا ذلك في تفسيرنا روح المعاني. وهل يدخل من اجتمع به ﷺ ميتا قبل أن يدفن كما وقع لأبي ذؤيب الهذلي الشاعر إن صح محل نظر، ورجح الحافظ العسقلاني عدم الدخول. واستشعر بعضهم من التعريف أنه لا بد أن يكون من يطلق عليه الصحابي مميزا عاقلا، فلا يدخل الأطفال الذين حنّكهم ﷺ كعبد الله بن الحارث بن نوفل وغيره. ويمكن أن يقال بدخولهم بناء على أن الاجتماع أعم من أن يكون بالنفس والاختيار أو بالغير والاضطرار، وأن الإيمان أعم من أن يكون حقيقة أو حكما أو تبعا، كذا قيل. وأنت تعلم أنه لا ينبغي تعميم الإيمان بحيث يشمل إيمان المنافقين لأنهم ليسوا بصحابة قطعا ولا عبرة بإيمانهم وإن أجريت عليهم أحكام المؤمنين من الدفن في مقابرهم ونحو ذلك. وذهب جمهور الأصوليين إلى أن الصحابي من طالت صحبته مدة يثبت معها إطلاق الصاحب عليه عرفا بلا تحديد لمقدارها، وقيل: مقدار ستة أشهر، وقال ابن المسيب: مقدار سنة، وإلا فيشترط الغزو. وقيل: لا يعد صحابيا إلا من وصف بأحد أوصاف أربعة: من طالت مجالسته أو حفظت روايته أو ضبط أنه غزى معه ﷺ أو استشهد بين يديه وقيل غير ذلك. والأصح المختار عند المحققين هو الأول فليحفظ. الفصل الأول ففي بيان أن الصحابة عدول وأما الفصل الأول ففي بيان أن الصحابة عدول اعلم أن أهل السنة -إلا من شذ- أجمعوا على أن جميع الصحابة عدول يجب على الأمة تعظيمهم. فقد أخلصوا الأعمال من الرياء نفلا وفرضا واجتهدوا في طاعة مولاهم ليرضى وغضوا أبصارهم عن الشهوات غضا، فإذا أبصرتهم رأيت قلوبا صحيحة وأجساما مرضى وعيونا قد ألفت السهر فما تكاد تطعم غمضا؛ بادروا أعمارهم لعلمهم أنها ساعات تتقضى، ولله تعالى در من قال فيهم شعرا: لله در أناس أخلصوا عملا ** على اليقين ودانوا بالذي أمروا أولاهم نعما فازداد شكرهم ** ثم ابتلاهم فارضوه بما صبروا وفوا له ثم وافوه بما عملوا ** به سيوفهم يوما إذا نشروا ومن ارتكب منهم من يخالف بعض هذه الأوصاف لم يمت إلا وهو أنقى من ليلة الصدر غير مدنس بوصمة ولا مصر على سيئة. قال الخطيب في الكفاية: عدالة الصحابة ثابتة معلومة بتعديل الله تعالى لهم وإخباره عن طهارتهم واختياره لهم. وسرد في ذلك آيات كثيرة وأحاديث شهيرة وتخصيص عموماتها خلاف الأصل ولا دليل عليه وجعل السبب دليلا مما لا يلتفت إليه فقد قالوا: العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، وإلا لبقي كثير من الأحكام الشرعية بلا دليل وأشكل قوله سبحانه: {اليوم أكملت لكم دينكم} كما لا يخفى. ومن سبر الآيات والأخبار والسير والآثار وجد أن الله تعالى قد عدّلهم وأعدّ لهم من الكرامة والزلفى ما أعد لهم، ولا يحتاج أحد منهم مع تعديل الله تعالى إلى تعديل أحد من الخلق. و"إذا جاء نهر الله تعالى بطل نهر معيقل". ولو لم يرد من الله سبحانه ورسوله ﷺ شيء من ذلك لأوجبت الحال التي كانوا عليها من الهجرة والجهاد ونصرتهم الإسلام وبذل المهج والأموال وقتل الآباء والأولاد والمناصحة في الدين وقوة الإيمان واليقين القطعَ بتعديلهم والاعتقاد لنزاهتهم وأنهم أفضل من جميع الخالفين بعدهم والمعدلين الذين يجيئون إثرهم. وهذا مذهب كافة العلماء ممن يعتمد قوله. ثم روى بسنده إلى أبي زرعة الرازي عليه الرحمة أنه قال: «إذا رأيت الرجل ينتقص أحدا من أصحاب رسول الله ﷺ فاعلم أنه زنديق، وذلك أن الرسول حق والقرآن حق وما جاء به حق، وإنما أدى إلينا ذلك كله الصحابة والمنتقصون لهم يريدون أن يجرحوا شهودنا ليبطلوا الكتاب والسنة والجرح بهم أولى» انتهى. وقال المازري في شرح البرهان: في الصحابة عدول وغير عدول ولا نقطع إلا بعدالة الذين لازموه ﷺ ونصروه واتبعوا النور الذي أنزل معه وأما عدالة كل من رآه يوما أو زاره أو اجتمع به لغرض وانصرف فلا نقطع بها بل هي محتملة وجودا وعدما. وإلى نحو هذا ذهب ابن العماد الحنبلي في شذرات الذهب. وتعقبه الشيخ صلاح الدين العلائي بأنه قول غريب يخرج كثيرا من المشهورين بالصحبة والرواية عن الحكم بالعدالة كوائل بن حجر ومالك بن الحوريث وعثمان ابن أبي العاص وغيرهم ممن وفد عليه ولم يقم عنده إلا قليلا وانصرف، وكذلك من لم يُعرف إلا برواية الحديث الواحد ولم يدر مقدار إقامته من أعراب القبائل، وفي ذلك ما فيه. وذهبت الشيعة إلى أن أكثر الصحابة غير عدول؛ بل روى سليم بن قيس الهلالي منهم في كتاب وفات النبي ﷺ عن ابن عباس عن أمير المؤمنين وعن غير واحد عن الصادق: أن الصحابة ارتدوا بعد النبي ﷺ إلا أربعة، وفي رواية عن الصادق: إلا ستة. وسبب ارتدادهم بزعمهم تقديمهم أبا بكر على علي كرم الله تعالى وجهه في الخلافة وعدم عملهم بحديث الغدير الذي هو نص عندهم في خلافة الأمير كرم الله تعالى وجهه بعد رسول الله ﷺ بلا فصل، وثبوته بزعمهم ضروري عند جميع الصحابة من حضر الغدير منهم ومن لم يحضر، والخلافة أخت النبوة ولا فرق بين نافي النبوة عن النبي ﷺ ونافي الخلافة عن علي كرم الله تعالى وجهه في أن كلا منهما كافر، وكذا لا فرق بين الإخلال بشأن النبي والإخلال بشأن الأمير كرم الله تعالى وجهه فإن كلا منهما كفر، وقد جحد الجميع وأخلوا إلا الأربعة أو الستة بشأنه فكفروا، والعياذ بالله تعالى. ولا يخفى أن هذا المذهب في غاية البطلان ونهاية الفساد لأنه يلزم عليه عدم إمكان إثبات مطلب ما من المطالب الدينية، لأن الأدلة عندهم أربعة: كتاب وخبر وإجماع وعقل. وأما الكتاب فنقلته هم الصحابة المرتدون -وحاشاهم- بزعمهم وهم قد حرّفوه وأسقطوا كثيرا من آياته وسوره وغيروا ترتيبه وفعلوا فيه ما فعلوا، والقرآن الحق غير موجود في أيدي الناس وإنما الموجود في أيديهم المصحف المحرف الذي هو أشد تحريفا من التوراة والإنجيل ونقلته أسوء حالا من نقلتهما. فقد روى الكليني عن سالم بن مسيلمة قال: قرء رجل على أبي عبد الله وأنا أسمعه حروفا من القرآن ليس ما يقرؤه الناس فقال أبو عبد الله: مه اكفف عن هذه القراءة واقرأ كما يقرأ الناس حتى يقوم القائم فإذا قام القائم فاقرأ كتاب الله تعالى على حده. وفي كتاب الكافي للكليني وغيره أمثال هذه الرواية. وحينئذ يجوز أن تكون الأحكام المذكورة في هذا القرآن منسوخة أو مخصصة بما أسقط منه أو بعضها منسوخا وبعضها مخصصا ويجوز أن يكون كل منها مبدلا مغيرا بما يخالفه. وأما الخبر فحاله عندهم أشهر من نار على علم وهو أيضا لا بد له من ناقل، فهو إما من الشيعة أو من غيرهم، ولا اعتبار لغيرهم عندهم أصلا لأن منتهى وسائطهم في رواياتهم المرتدون المحرفون لكتاب الله تعالى المعادون المعاندون للأمير كرم الله تعالى وجهه وسائر أهل بيته. وأما الشيعة فيقال لهم: كون الخبر حجة إما لأنه قول المعصوم أو وصل بواسطة المعصوم الآخر وعصمة أحد بعينه لا تثبت إلا بخبر لأن الكتاب ساكت عن ذلك وهذا لا يصح التمسك به والعقل عاجز، والمعجزة على تقدير الصدور أيضا موقوفة على الخبر لأن مشاهدة التحدي ورؤية المعجزة لم تتيسر للكل، والإجماع إنما يكون أيضا حجة بدخول المعصوم، مع أن في نقل إجماع الغائبين لا بد من الخبر وفي إثبات عصمة رجل بعينه بخبره أو يخبر المعصوم الآخر الذي وصل الخبر بواسطته دور صريح. وأيضا كون الخبر حجة متوقف على نبوة نبي أو إمامة إمام وإذا لم يثبت بعد أصله كيف يثبت هو. والتواتر ساقط من حين الاعتبار عندهم لأن كتمان الحق والزور في الدين قد وقع من نحو مائة ألف وأربعة وعشرين ألفا. وخبر الآحاد غير معتبر في هذه المطالب بالإجماع. وأما الإجماع فبطلانه أظهر لأن ثبوته فرع ثبوت الشرع وإذا لم يثبت الأصل لا يثبت الفرع. وأيضا كون الإجماع حجة عندهم ليس بالأصالة بل لكون قول المعصوم في ضمنه. فالمدار على قول المعصوم، وثبوت المعصوم قد علم حاله. وأيضا دخول المعصوم في الإجماع لا يثبت إلا بخبر وقد مر آنفا ما فيه. وأما العقل فالتمسك به إما في الشرعيات أو في غيرها. أما في الشرعيات فيرجع الأمر إلى القياس وهم لا يقولون بحجيته. وأما في غيرها فيتوقف على تجريده من شوائب الوهم والألف والعادة والاحتراز عن الخطأ في الترتيب ونحوه، والعلم بخلوصه مما يخل يتوقف على مرتبة معصوم كنبي وإمام يحكم بذلك، ولا يمكن أن يكون الحاكم العقل إذ يعود الكلام في خلوص حكمه عما ذكر ويلزم ما يلزم، على أن الكلام في الأمور الدينية لا غير والعقل الصرف عاجز عن معرفتها تفصيلا. نعم يمكن العقل ذلك إذا كان مستمدا من الشريعة كأن يكون أصل الحكم مأخوذا من الشارع فحينئذ يقاس عليه. ولما كان القياس باطل عند هذه الفرقة تعذرت تلك المعرفة وبطل حكم العقل. وقد يقال إنهم لو التزموا صحة القياس لا يجديهم نفعا لأنه يبقى الكلام في طريق ثبوت الحكم في الأصل المقيس عليه، وقد انسد عليهم كل طريق كما لا يخفى. والحاصل أن القول بارتداد كل الصحابة بعد وفاة رسول الله ﷺ إلا أربعة أو ستة مع ما ورد فيهم وعنهم ولهم مما لا يقدم عليه أحد ممن يؤمن بالله تعالى ورسوله ﷺ واليوم الآخر. ولظهور شناعة هذا القول وبطلانه عدل عنه بعض الشيعة زاعما ارتداد كبار الصحابة وعلمائهم فقط كأبي بكر الصديق وعمر الفاروق وأما العوام منهم فهم معذورون في اتباعهم باقون على إيمانهم، بل إن من العلماء من هو معذور أيضا لكونه مستضعفا في الأرض لا يقدر على شيء ولكن بشرط إنكاره في قلبه ما فعله القوم وكراهته لهم وموالاته للأمير كرم الله وجهه. ولا يخفى أنه من البطلان بمكان أيضا لما فيه من تكذيب الآيات الدالة على أنهم أفضل المؤمنين وأنه سبحانه قد رضي عنهم وهم قد رضوا عنه، ومنزلة الرضا غاية قصد العابدين. وحديث الغدير كما أوضحناه في التفسير لا يدل على الخلافة على الوجه الذي يزعمه الشيعة أصلا، وإلا لزم الطعن بالأمير كرم الله وجهه بترك الانتهاض لطلب حقه كما انتهض له حين انتهت النوبة إليه عندنا بعد وفاة عثمان . والتقية التي يزعمونها مما لا وجه لارتكابها أولا وتركها أخيرا. ودعوى أنه أمر بالأمرين حسبما وقعا مما لا دليل عليها. والشيعة بيت الكذب. وقد أبطلنا القول بالتقية في روح المعاني وفي النفحات القدسية بما لا مزيد عليه. ومن الناس من قال: على فرض دلالة ذلك الخبر على الخلافة إنا لا نسلم كفر من ارتكب خلافه، غاية ما في الباب كونه مرتكب الكبيرة ومرتكب الكبيرة ليس بكافر إلا عند الخوارج. وأنت تعلم أن الشيعة بنوا القول بالكفر على أن الخلافة أخت النبوة فالإخلال بأمرها كالإخلال بأمر النبوة، فحيث كان الإخلال بأمر النبوة كفرا كان الإخلال بأمرها كذلك، وذلك غير مسلم ودون إثباتها خرط القتاد. والحق الحقيق بالقبول أن القوم لم يرتكبوا في ذلك مكروها فضلا عن حرام فضلا عن كبيرة. ويشهد لذلك حسن معاملة الأمير كرم الله وجهه للخليفتين الأولين والامتثال لأمرهما والنصح لهما والأدب معهما في حياتهما وبعد موتهما. فقد روى الإمام المؤيد بالله يحيى بن حمزة الشيعي في آخر كتاب طوق الحمامة في مباحث الإمامة عن سويد بن غفلة أنه قال: مررت بقوم ينتقصون أبا بكر وعمر فأخبرت عليا كرم الله تعالى وجهه وقلت: لولا أنهم يرون أنك تضمر ما أعلنوا ما اجترءوا على ذلك، فقال: نعوذ بالله سبحانه من ذلك رحمهما الله تعالى، ثم نهض وأخذ بيدي وأدخلني المسجد فصعد المنبر ثم قبض على لحيته فجعلت دموعه تتحدر عليها وجعل ينظر للبقاع حتى اجتمع الناس ثم خطب فقال: «ما بال أقوام يذكرون أخوي رسول الله ﷺ ووزيريه وصاحبيه وسيدي قريش وأبوي المسلمين، وأنا برئ مما يذكرون وعليه معاقب، صحبا رسول الله ﷺ بالوفاء والجد في أمر الله تعالى، يأمران وينهيان ويعاقبان، لا يرى رسول الله ﷺ كرأيهما رأيا ولا يحب كحبهما حبا لما يرى من عزمهما في الله عز وجل، فقبض وهو عنهما راض والمسلمون راضون، فما تجاوزا في أمرهما وسيرتهما رأي رسول الله ﷺ وأمره في حياته وبعد موته فقبضا على ذلك رحمهما الله تعالى، فوالله الذي فلق الحبة وبرأ النسمة لا يحبهما إلا مؤمن فاضل ولا يبغضهما إلا شقي مارق وحبهما قرب وبغضهما مرد» إلى آخر الحديث وفي رواية: «لعن الله تعالى من أضمر لهما إلا الحسن الجميل» فانظر وفقك الله تعالى هذا المدح العظيم من الأمير كرم الله وجهه على منبر الكوفة ومقر الخلافة الذي يجعل احتمال التقية كرماد اشتدت به الريح، هل يبقى معه القول بارتدادهما -والعياذ بالله تعالى- وارتداد أتباعهما. سبحانك هذا بهتان عظيم. وفي نهج البلاغة وهو من أصح الكتب عند الشيعة أن عليا كرم الله وجهه قال: «لله تعالى بلاء أبي بكر، لقد قوم الأود وداوى العلل وأقام السنة، ذهب نقي الثوب أصاب خيرها وأبقى شرها، أدى لله تعالى طاعته واتقاه بحقه، رحل وتركهم في طرق متشعبة لا يهتدى فيها الضال ولا يستيقن المهتدي» وقد حذف مؤلفه حفظا لمذهبه "أبا بكر" وأثبت بدله لفظ "فلان" وتأبى الأوصاف إلا أبا بكر. ولهذا الإبهام اختلف الشراح فقال بعضهم: هو هو، وقال آخرون: هو عمر . وأيا ما كان فهو مما يُلقم الشيعة الحجر. وغاية ما أجابوا عنه أن ذلك كله لاستجلاب قلوب الناس فإنهم كانوا يميلون إلى الشيخين غاية الميل. ولا يخفى على المنصف أن فيه نسبته الكذب إلى المعصوم كرم الله تعالى وجهه لغرض دنيوي مظنون الحصول، بل كان اليأس منه حاصلا وفيه تضييع غرض الدين بالمرة. وحاشا ثم حاشا الأمير من ذلك. وفي الصحيح أن «مدح الفاسق غضب الرب» فما ظنك بالكافر. وأيضا أية ضرورة تلجيه إلى هذه التأكيدات والمبالغات، والاستجلاب الذي زعمه الشيعة يحصل بدونها والعبارات شتى وهو من أفصح الناس. وأيضا في هذا المدح تضليل الأمة وترويج الباطل وذلك محال من الإمام، بل الواجب عليه بيان حقيقة الحال لمن بين يديه بموجب ما صح: «اذكروا الفاسق بما فيه يحذره الناس» وأجاب بعض الإمامية بأن المراد من فلان رجل من الصحابة مات على عهد رسول الله ﷺ واختار هذا الراوندي، وهو مما يقضى منه العجب فهل كان يمكن لغيره في زمنه الشريف تقويم الأود ومداواة العلل وإقامة السنة، وهل يعقل أن رجلا مات على عهد رسول الله ﷺ وترك الناس فيما ترك ورسول الله ﷺ قائم يصدع بالحق ويهدي إلى صراط مستقيم. هذا لعمري الخرق العظيم والخطب الجسيم. وأجاب بعض آخر منهم بأن الغرض من هذا الكلام مجرد التعريض بذم عثمان وهو أيضا مما يتعجب منه لأن التعريض كان ممكنا بدون ارتكاب هذا الأسلوب. وأيضا ما الداعي للتعريض دون التصريح وهو في الكوفة بين شيعته وأنصاره. وجاء أيضا في النهج عن الأمير كرم الله وجهه في وصف الصحابة مطلقا: «كانوا إذا ذكر الله تعالى همت أعينهم حتى تبل ثيابهم وماروا كما يميد الشجر يوم الريح العاصف خوفا من العقاب ورجاء للثواب» والأخبار في ذلك من طرق الشيعة عن الأمير كرم الله تعالى وجهه كثيرة، ومن طريق الجماعة أكثر، ولو آمنوا بها من هذا الطريق لذكرناها. وجاء مدح أبي بكر عن الأئمة ففي كتاب كشف الغمة في معرفة الأئمة لعلي بن عيسى الأردبيلي الإمامي أنه سئل الإمام جعفر الصادق عن حلية السيف هل تجوز؟ فقال: «نعم قد حلّى أبو بكر الصديق سيفه بالفضة» فقال السائل: أتقول هكذا؟ فوثب الإمام عن مكانه فقال: «نعم الصديق نعم الصديق نعم الصديق -ثلاثا- فمن لم يقل له الصديق فلا صدق الله تعالى قوله في الدنيا وفي الآخرة» وفي ذلك من المدح ما لا يخفى، فإن مرتبة الصديقية بعد مرتبة النبوة كما أشبعنا الكلام عليه في التفسير، ولا أقل من كونها صفة مدح فوق العدل. فكيف يتأتى احتمال الكفر مع ذلك. وغاية ما أجابوا عما ذكر ونحوه أنه تقية، وهي كعكازه الأعمى عندهم. وقد أبطلنا القول بها في غير موضع من كتبنا كما أشرنا إليه سابقا. على أن الظاهر كون السائل شيعيا فلا معنى للتقية منه، واحتمال حضور سني مما لا يلتفت إليه. وإذا ثبت بهذه الأخبار كون الصديق أهلا للمدح ومحلا للثناء وهو الخليفة الأول ثبت أن أمر الخلافة ليس كما يزعمه الشيعة وأن الذين بايعوه وعزروه لم يرتدوا بذلك، وإلا لكان هو الأحق بنسبة الارتداد إليه وحاشاه ولكان حريا بالذم الشنيع من المعصوم بدل ذلك المدح الجليل والثناء الجزيل. وزعم بعض الشيعة أن مما يوجب الكفر أيضا قتال الأمير كرم الله وجهه وإيجابه ذلك من فروع جعل الخلافة أخت النبوة وهو أظهر من إيجاب مجرد مبايعة غيره على الخلافة لكفر. فأهل وقعة الجمل ووقعة صفين كلهم كفار عندهم الصحابة وغيرهم في ذلك سواء. وسيأتي استدلالهم على ذلك مع رده في الفصل الثاني إن شاء الله تعالى. واستدل بعض علمائهم على ارتداد الصحابة بعد رسول الله ﷺ بما روى عن أنس بن مالك وحذيفة بن اليمان مرفوعا: «ليردن علي إناس من أصحابي الحوض حتى إذا رأيتهم وعرفتهم اختلجوا دوني فأقول يا رب أصحابي أصحابي فيقال لي إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك» وفي رواية «فأقول سحقا سحقا» والجواب عنه أولا بأنا لا نسلم أن المراد بأصحابي الصحابة بالمعنى المتقدم في المقدمة بل المراد بهم مطلق المؤمنين به ﷺ المتبعين له، وهذا كما يقال لمقلدي أبي حنيفة ـ رحمه الله ـ أصحاب أبي حنيفة ولمقلدي الشافعي وهكذا وإن لم يكن هناك رؤية واجتماع، وكما يقول الرجل للماضين الموافقين له في المذهب أصحابنا مع أن بينه وبينهم عدة من السنين، وعبارات الفقهاء ملئ من ذلك كما لا يخفى على المتتبع. وأيده بعضهم أنه وقع في بعض الروايات: «أمتي ولم أره» وعلى هذا فالمراد من هؤلاء الأناس عصاة من المؤمنين، ومعرفته ﷺ أنهم من أمته من إمارات تلوح عليهم. فقد جاء في الخبر أن طائعيهم يمتازون على طائعي غيرهم. وجذبهم وردهم عن الحوض كان تأديبا لهم وعقابا على معاصيهم، ويلحق بذلك دعاؤه ﷺ بقوله: «سحقا سحقا» وسجله بعضهم من قبيل قوله لصفية : «عقرى حلقى» وليس بشي. وثانيا فإذا سلمنا أن المراد بالأصحاب الصحابة بالمعنى السابق إلا أن المراد من أولئك الأناس الذين يختلجون ويؤخذون قهرا ويردون عن ورود الحوض الذين ارتدوا من الأعراب على عهد الصديق وقوله ﷺ فيهم «أصحابي» لظن أنهم لم يرتدوا كما يؤذن عندما قيل في جوابه من أنك لا تدري ما أحدثوا بعدك. وهذا الجواب أولى من الجواب المنفي كما لا يخفى. ولا يفيد ذلك الشيعة شيئا لأنا لا ننكر ارتداد أحد الصحابة وإنما ننكر ارتداد الخلفاء الثلاث ومن تابعهم وارتداد من حضر وقعتي الجمل وصفين منهم كما هو زعم الشيعة، والحديث لا يدل على ذلك أصلا. فإن قلت إن إناسا في الحديث كما لا يحتمل أن يراد منه من ذكرت من مرتدي الأعراب يحتمل أن يراد منه ما زعمته الشيعة فما الدليل على ما أردت؟ أجيب بأن ما جاء عن الله سبحانه والنبي ﷺ من مدحهم والثناء عليهم وكذا ما جاء عن الأئمة المعصومين عند الشيعة مما علمت ومما ستعلم إن شاء الله تعالى مانع من إرادة ما زعمته الشيعة، وحينئذ يتعين ما أردناه من ذلك حذرا من إلغاء الحديث، وزعم بعض منا أن المراد بأولئك الأناس المنافقون وفيه أنه ﷺ لم يمت حتى علم حالهم وأنهم في الدرك الأسفل من النار فكيف يقول «أصحابي أصحابي» فتأمل. واستشكل القول بعدالة جميع الصحابة بأن الله تعالى حكم بفسق البعض في قوله سبحانه: {يا أيها الذين آمنوا إن جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا} الآية فإن جمهور المفسرين بل كلهم كما قال ابن عبد البر على أنها نزلت في الوليد بن عقبة أخي عثمان حين بعثه ﷺ مصدقا إلى بني المصطلق وكان بينه وبينهم إحنة فلما سمعوا به استقبلوه فحسب أنهم مقاتلوه، فرجع وقال لرسول الله ﷺ إنهم قد ارتدوا ومنعوا الزكاة فهمّ بقتالهم فجاؤا معتذرين ونزلت الآية، فسماه الله تعالى فاسقا وقد عده أئمة الحديث من الصحابة وجعله الحافظ العسقلاني ـ عليه الرحمة ـ في القسم الأول من الأقسام الأربعة. على أن قصة صلاته بعد رسول الله ﷺ بالناس الصبح أربعا وهو سكران مشهودة وفي كتب الأخبار مذكورة، وقصة جلد عمر له بعد أن ثبت عليه شرب الخمر مخرجة في الصحيحين وهما أصح الكتب بعد كتاب الله تعالى، وذلك ينافي العدالة قطعا. وأجيب بأنه ليس مرادنا من كون الصحابة جميعهم عدولا أنهم لم يصدر عن أحد منهم مفسق أصلا ولا ارتكب ذنبا قط فإن دون إثبات ذلك خرط القتاد، فقد كانت تصدر منهم الهفوات ويرتكبون ما يُحدّون عليه، وإنكار ذلك مكابرة صرفة وعناد محض وجهل بموارد الآيات والأحاديث؛ بل مرادنا أنهم لم ينتقلوا من هذه العار إلى دار القرار إلا وهم طاهرون مطهرون تائبون آيبون ببركة صحبتهم للنبي ﷺ ونصرتهم إياه وبذل أنفسهم وأموالهم في محبته وتعظيمهم له أشد التعظيم سرا وعلانية، كما يدل على ذلك الكتاب وتشهد له الآثار. ومما يفصح عن تعظيمهم له ما رواه الموافق والمخالف أن عروة بن مسعود لما أتى النبي ﷺ في قضية الحديبية وكلمه ثم رجع إلى الصحابة قال لهم: أي قوم والله هؤلاء ولقد وفدت على الملوك ووفدت على قيصر وكسرى والنجاشي والله إن رأيت ملكا يعظمه أصحابه ما يعظم أصحاب محمد محمدا ﷺ، إن تنخم نخامة إلا وقعت في كف رجل منهم فدلك بها وجهه وجلده، وإذا أمرهم بأمر ابتدروا أمره، وإذا توضأ كادوا يقتتلون على وضوئه، وإذا تكلم خفضوا أصواتهم عنده وما يحدون إليه النظر تعظيما. إلى آخر ما قال. ولا يرد على هذا المنافقون لأنهم بمعزل عن الاتصاف بذلك، ولا يعلم ارتداد متصف بما ذكره وموته على الردة ليقال هلا رجع إلى الإيمان ببركة ذلك. وإن سلمنا وجود مرتد كان متصفا بما ذكر وقد مات على الردة فهو أعز من بيض الأنوق. وقد يستشهد لما قلنا بقوله تعالى بعد تلك الآية: {واعلموا أن فيكم رسول الله لو يطيعكم في كثير من الأمر لعنتم ولكن الله حبب إليكم الإيمان وزينه في قلوبكم وكره إليكم الكفر والفسوق والعصيان أولئك هم الراشدون فضلا من الله ونعمة والله عليم حكيم} فإن الله تعالى قد أخبر في هذه الآية أنه سبحانه حبب إلى هؤلاء المؤمنين الذين لو أطاعهم رسول الله ﷺ في كثير من الأمر لفشلوا ووقعوا في المشقة والإثم الإيمانَ وزينه في قلوبهم وكره إليهم الكفر والفسوق والعصيان. ومن أخبر سبحانه عنه بذلك لا يكاد يموت إلا طاهرا راشدا. ويدخل في هؤلاء المخاطبين الوليد بلا ريب لأن العنت كان ظاهرا على تقدير إطاعته والعمل بموجب ما أخبر به كما لا يخفى. وكذا بقوله عز وجل: {هو الذي يصلي عليكم وملائكته ليخرجكم من الظلمات إلى النور} وقوله سبحانه: {فأنزل الله سكينته على رسوله وعلى المؤمنين وألزمهم كلمة التقوى وكانوا أحق بها وأهلها} وقوله جل وعلى: {محمد رسول الله والذين معه أشداء على الكفار رحماء بينهم تراهم ركعا سجدا يبتغون فضلا من الله ورضوانا} الآية فإن فيها التعبير بالمضارع المفيد للاستمرار التجددي كما قيل بمعونة المقام واستمرار الابتغاء الذي هو من أفعال القلب مما يقضي بعدم إصرارهم على الذنب إن صدر منهم. كذا قرره بعضهم وللنظر فيه مجال. واستشكل القول بالعدالة أيضا بأن كثيرا من الصحابة فر من الزحف في غزوتي أحد وحنين والفرار من الزحف من أكبر الكبائر. وبأن الكثير منهم انفض عن رسول الله ﷺ حين أقبلت العير من الشام يوم الجمعة كما قص الله تعالى ذلك بقوله: {وإذا رأوا تجارة أو لهوا انفضوا إليها وتركوك قائما} الآية. وقد أخرج هذا مخرج الذم فلا أقل من أن يكون مفسقا. وبأن النبي ﷺ طلب في مرض موته دواة وقرطاسا ليكتب لهم كتابا لن يضلوا بعده فأبوا أن يأتوه بذلك حتى قال عمر عنه ما قال وكثر اللغط فقال رسول الله ﷺ: «اخرجوا عني» فقد خالفوا أمره والله تعالى يقول: {وأطيعوا الله والرسول} الآية. وبأن مسلما روى في صحيحه عن عبد الله بن عمرو بن العاص أنه قال: أن رسول الله ﷺ قال: «إذا فتحت عليكم خزائن فارس والروم أي قوم أنتم» فقال عبد الرحمن بن عوف: كما أمرنا الله تعالى، فقال رسول الله ﷺ: «كلا بل تتنافسون ثم تتدابرون ثم تتباغضون ثم تنطلقون إلى مساكن المهاجرين فتحملون بعضهم على رقاب بعض» فإن هذا صريح في وقوع التنافس والتدابر والتباغض فيما بين الصحابة وذلك ينافي العدالة. وأجيب عن الأول بأن الفرار يوم أحد كان قبل النهي، ولئن قلنا كان بعده فهو معفو عنه بدليل قوله تعالى: {ولقد عفا الله عنهم إن الله غفور حليم} وأما الفرار يوم حنين فبعد تسليم أنه كان فرارا في الحقيقة معاتبا عليه لم يصر عليه المخلصون بل انقلبوا وظفروا بدليل قوله سبحانه: {ثم أنزل الله سكينته على رسوله وعلى المؤمنين وأنزل جنودا لم تروها وعذب الذين كفروا وذلك جزاء الكافرين} وعن الثاني بأن تلك القصة إنما كانت في أول زمان الهجرة قبل التأدب بآداب الشريعة، فما وقع حينئذ كانوا معذورين فيه، ولهذا لم يتوعد عليه ولم يعاتبهم رسول الله ﷺ والآية خارجة مخرج العتاب بطريق الوعظ والنصيحة. على أنه قد أعقب ذلك الفعل أنواع من الطاعات والاستغفار وأن الحسنات يذهبن السيئات. وعن الثالث بأن الأمر منه لم يكن إلا من باب الاستحباب وهو أمر إرشاد وإصلاح ولم يكن لأمر ضروري وإلا لفعله ﷺ بعد مع خاصة أهل بيته كالأمير كرم الله وجهه فإنه بقي حيا بعد ذلك خمسة أيام. ويؤيد ذلك كما قال غير واحد قوله سبحانه: {اليوم أكملت لكم دينكم} وهو ظاهر. والتخلف عن الامتثال كان ناشئا عن محض المحبة والوداد دون الشقاق والعناد لما رأوا من شدة مرضه ومثل هذه المخالفة لا تعد فسقا وإلا لزم فسق جميع الحاضرين ومنهم علي كرم الله وجهه ولا قائل به بالإجماع. وقد وقع للأمير بخصوصه مثل هذه المخالفة عام الحديبية فإنه كتب في كتاب الصلح: هذا ما عاهد عليه محمد رسول الله تعالى، فلم يرض المشركون بهذا العنوان وقالوا: لو كنا نعلم أنه رسول الله ما حاربناه، فأمره أن يمحو ذلك وبالغ فيه فلم يفعل، حتى محاه بيده الشريفة. بل وقع منه كرم الله وجهه ما يرى أشد من ذلك؛ فقد صح من طرق متعددة: أن النبي ﷺ ذهب إلى بيت الأمير والبتول ليلة وأيقظهما لصلاة التهجد وأمرهما بها فقال الأمير: والله لا نصلي إلا ما كتب الله لنا وإنما أنفسنا بيد الله لو وفقنا لصلينا، فرجع وهو يضرب فخذيه ويقول: «وكان الإنسان أكثر شيء جدلا» وقد رواه البخاري أيضا في صحيحه. وأمره ﷺ بالخروج لمن في الحجرة لم يكن إلا لما هو فيه من المرض. وكلام عمر لم يكن إلا لغلبة الحال عليه الناشئة من كلام المحبة. وقد بسطنا الكلام على ذلك في كتابنا النفحات القدسية في رد الإمامية. وعن الرابع بأن الخطاب وإن كان للصحابة لكن باعتبار وقوع ذلك فيما بينهم وهو لا يستدعي أن يكون منهم. ويدل على ذلك أن الصحابة إما مهاجرون أو أنصار، والحديث صريح في أن أولئك الفرقة ليسوا مهاجرين، والواقع ينفي كونهم من الأنصار لأنهم ما حملوا المهاجرين على التحارب؛ فتعين أنهم من التابعين. وقد وقع ذلك منهم فإنهم حملوا المهاجرين على التحارب بينهم كمالك بن الأشتر وإضرابه ولا كلام لنا فيهم. واستشكل أيضا بغير ذلك وأجيب بما أجيب. وأجاب بعضهم عن جميع ذلك بأنا لم ندع العصمة في الصحابة وإنما ادعينا العدالة فيهم، ومجرد وقوع ما يخل بها في وقت من أحدهم لا يستدعي سلبها عنه دائما. وكثرة الآيات والأخبار والآثار الواردة في مدحهم الناطقة بوفور ما أعد الله تعالى تقتضي أنهم لم يذهبوا إلى ربهم إلا وهم طاهرون مطهرون فلا ينبغي الخوض فيهم والطعن فيهم {والذين جاءوا من بعدهم يقولون ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان ولا تجعل في قلوبنا غلا للذين آمنوا ربنا إنك رءوف رحيم} وهو في معنى جواب الذي ذكرناه فيما تقدم عن الوليد . وزعم بعضهم -لاضطراب الأدلة عليه- أنه فيهم عدولا وغير عدول وفصّل ذلك بأنهم قسمان القسم الأول من مات قبل الفتنة والقسم الثاني من مات بعدها، فمن تحقق ارتكابه لمفسق من القسم الأول ولم تتحقق توبته عنه -وقليل ما هم- حكم بفسقه، ومن لم يتحقق منه ذلك بأن تحقق منه الصلاح والمآثر الحسان أو كان مستور الحال حكم بعدالته، ومن خالط الفتنة ولم ينصر الإمام الحق فإن كان عن اجتهاد وكان من أهله فهو عدل وإن كان مخطئا في الواقع، وكذا حكم من اعتزل الفئتين كابن عمر ومن خالط ولم ينصر الإمام ولم يكن ذلك عن اجتهاد بل لمحض اتباع الهوى وحب الرياسة فهو فاسق إلى أن تحقق توبته. وأما المقلدون فإن كانوا قد قلدوا الباغي مع العلم بما ورد في حق الأمير كرم الله تعالى وجهه فهم فسقة أيضا. وإن كانوا قد قلدوا مع الجهل فيقرب بالقول بأنهم عدول معذورون انتهى. وأنت تعلم أن هذا القول خلاف المعول عليه عند أهل السنة فقد قال الإمام النووي في شرح صحيح مسلم في الصحابة الذين أدركوا الفتنة إنه اتفق أهل الحق ومن يعتد به في الإجماع على قبول شهاداتهم ورواياتهم وكمال عدالتهم وأنهم معذورون فيما صدر منهم وما صدر إلا عن اجتهاد. ويعلم من ذلك حكم من لم يدرك الفتنة كما لا يخفى وأنا لا أجزم بأن جميع ما صدر إنما صدر عن اجتهاد ولا اعتقد أن جميع الصحابة بالمعنى السابق الشامل لمن اجتمع معه ﷺ ساعة مجتهدون ومع هذا أقول: لا ينبغي الخوض في أحد منهم والقول بعدم عدالته فإن الخطر في ذلك عظيم وقد قال الله سبحانه: {ولا تقف ما ليس لك به علم} ولا ينبغي لمن يعرف نفسه أن يكون دون نملة سليمان ـ عليه السلام ـ في الأدب مع أصحاب نبيه ﷺ، ألا تسمع قولها لأخواتها: {يا أيها النمل ادخلوا مساكنكم لا يحطمنكم سليمان وجنوده وهم لا يشعرون} فقيدت بقولها {وهم لا يشعرون} حذارا من توهم نسبته هذا الفعل إليهم عالمين، وذلك غاية الأدب. والله تعالى الهادي إلى سواء السبيل. الفصل الثاني فيما شجر بين الصحابة وأما الفصل الثاني ففيما شجر بين الصحابة وتلخيص الكلام فيه وبيان حكم الطائفتين وهو كالتتمة للفصل الذي قبله اعلم أن أعظم ما تداولته الألسن من الاختلاف الواقع بين الصحابة الكرام ما وقع زمن خلافة الأمير كرم الله تعالى وجهه فنشأ منه وقعتان عظيمتان وقعة الجمل ووقعة صفين. والأصل الأصيل لذلك قتل عثمان . وأنكر الهشامية تلك الوقعتين، وإنكار ذلك مكابرة لا يلقى لها سمعا لأن الخبر متواتر في جميع مراتبه. وقعة الجمل وتلخيص الأولى أنه لما قتل عثمان صبرا توجع المسلمون فسار طلحة والزبير وعائشة -وكان قد لقيها الخبر وهي مقبلة من عمرتها- نحو البصرة فلما علم علي كرم الله وجهه بمخرجهم واعترضهم من المدينة لئلا يحدث ما يشق عصا الإسلام ففاتوه وأرسل ابنه الحسن وعمار يستنفران أهل المدينة وأهل الكوفة، ولما قدموا البصرة استعانوا بأهلها وبيت مالها حتى إذا جاءهم الإمام كرم الله وجهه حاول صلحهم واجتماع الكلمة وسعى الساعون بذلك فثار الأشرار ومنهم قتلة عثمان بالتحريش ورموا بنار الفتنة، فحمي الوطيس وقامت الحرب على ساق وكان ما كان، وانتصر علي كرم الله وجهه وكان قتالهم من ارتفاع النهار يوم الخميس إلى صلاة العصر لعشر خلون من جمادى الآخرة. ولما ظهر علي جاء إلى أم المؤمنين فقال: غفر الله لك، قالت: ولك، ما أردت إلا الإصلاح. ثم أنزلها دار عبد الله بن خليل وهي أعظم دار في البصرة على صفية بنت الحارث أم طلحة الطلحات، وزارها بعد ثلاث ورحبت به وبايعته وجلس عندها، فقال رجل: يا أمير المؤمنين إن بالباب رجلين ينالان من عائشة، فأمر القعقاع بن عمر أن يجلد كل واحد منهما مائة جلدة وأن يجردهما من ثيابهما ففعل. ولما أرادت الخروج من البصرة بعث إليها بكل ما ينبغي من مركب وزاد ومتاع، وأذن لمن نجا من الجيش أن يرجع إلا أن يحب المقام وأرسل معها أربعين امرأة وسير معها أخاها محمدا. ولما كان اليوم الذي ارتحلت فيه جاء علي كرم الله وجهه فوقف على الباب وخرجت من الدار في الهودج فودعت الناس ودعت لهم وقالت: يا بني لا يغتب بعضكم بعضا إنه والله ما كان بيني وبين علي في القديم إلا ما يكون بين المرأة وأحمائها وإنه لمن الأخيار. فقال علي كرم الله وجهه: أنت والله ما كان بيني وبينها إلا ذلك وإنها زوجة نبيكم ﷺ في الدنيا والآخرة. وسار معهما مودعا أميالا وسرح بنيه معها بقية ذلك اليوم. وكانت بعد ذلك إذا ذكرت ما وقع منها تبكي حتى تبل خمارها. ففي هذه المعاملة من الأمير كرم الله وجهه دليل على خلاف ما يزعمه الشيعة من كفرها، وحاشاها وفي ندمها وبكاها على ما كان دليل على أنها لم تذهب إلى ربها إلا وهي نقية من غبار تلك المعركة. على أن في كلامها ما يدل على أنها كانت حسنة النية في ذلك. وقال غير واحد: إنها اجتهدت ففعلت لكنها أخطأت في اجتهادها، ولا أثم على المجتهد المخطئ بل له أجر على اجتهاده وكونها من أهل الاجتهاد مما لا ريب فيه. وآية {وقرن في بيوتكن} إلخ خطابا لنساء النبي ﷺ لا تأبى ذلك إذ ليس المراد منها إلا تأكيد أمر التستر والحجاب وإلا لما أخرجهن ﷺ بعد نزول الآية للحج والعمرة مثلا، ولما جاز خروجهن لذلك ولا لعيادة المرضى والأقارب. والسفر لا ينافي التستر والحجاب كما لا يخفى على ذوي الألباب. نعم قالت الشيعة إنه يبطل اجتهادها أنه ﷺ قال يوما لأزواجه: «كأني بإحداكن تنبحها كلاب الحؤب فإياك أن تكوني يا حميراء» الحوءب -كجعفر- منزل بين البصرة ومكة، وقد نزلته عائشة ونبحتها كلابه فتذكرت الحديث، وهو صريح في النهي ولم ترجع. والجواب عن ذلك أن الثابت عندنا أنها لما علمت ذلك وتحققته من محمد بن طلحة همّت بالرجوع إلا أنها لم توافق عليه، ومع هذا شهد لها مروان بن الحكم مع ثمانين رجلا من دهاقين تلك الناحية أن هذا المكان مكان آخر وليس بحؤب، على أن "إياك أن تكوني يا حميراء" ليس موجودا في الكتب المعول عليها فيما بين أهل السنة، فليس في الخبر نهي صريح ينافي الاجتهاد. على أنه لو كان لا يرد محذور أيضا لأنها اجتهدت فسارت حين لم تعلم أن في طريقها هذا المكان، وحيث علمت لم يمكنها الرجوع لعدم الموافقة عليه، وليس في الحديث بعد هذا النهي أمر بشيء لتفعله، فلا جرم مرت على ما قصدته من أصلاح ذات البين المأمورة به بلا شبهة. وقد شُبه حالها في ذلك بحال شخص رأى من بعيد طفلا يريد أن يقع في بئر فسعى ليمنعه من ذلك فمر بلا شعور بين يدي مصل فإنه يذهب لما قصد لأنه لو رجع لم يحصل له تلافي ما وقع وفاتَه تخليص الطفل المأمور به. وأما طلحة والزبير فلم يموتا إلا على بيعة الإمام كرم الله تعالى وجهه أما طلحة فقد روى الحاكم عن ثور بن مجزأة أنه قال: «مررت بطلحة يوم الجمل في آخر رمق فقال لي: من أنت؟ قلت: من أصحاب أمير المؤمنين علي فقال: ابسط يدك أبايعك، فبسطت يدي فبايعني وقال: هذه بيعة علي، وفاضت نفسه. فأتيت عليا فأخبرته فقال: الله أكبر، صدق الله تعالى ورسوله ﷺ، أبى الله سبحانه أن يدخل طلحة الجنة إلا وبيعتي في عنقه» وأما الزبير فقد ناداه علي كرم الله تعالى وجهه وخلا به وذكره قول النبي ﷺ له: «لتقاتلن عليا وأنت له ظالم» فقال: لقد أذكرتني شيئا أنسانيه الدهر لا جرم لا أقاتلك أبدا. فخرج من المعسكرين نادما وقُتل بوادي السباع مظلوما، قتله عمرو بن جرموز. وقد روى الموافق والمخالف أنه جاء بسيفه واستأذن على الأمير كرم الله وجهه فلم يأذن له فقال: أنا قاتل الزبير، فقال: أبقتل ابن صفية تفتخر! سمعت رسول الله ﷺ يقول: «بشر قاتل ابن صفية بالنار» والشيعة كما في أبكار الأفكار للآمدي يزعمون أن استحقاقه للنار ليس لقتل الزبير بل لما علمه منه في عاقبة أمره، وذلك أن ابن جرموز قدم بعد ذلك على الأمير كرم الله وجهه مع أهل النهروان وقتل هناك، وإلا لقتله الأمير . والجواب أنا نعلم ضرورة أن النبي ﷺ إنما ذكر ذلك الخبر في حق الزبير من معرض التعظيم له والتفخيم من أمره، وذلك يأبى كون استحقاق قاتله النار لأمر آخر غير قتله. ولو كان المقصود ما ذكر لكان الكلام من باب الألغاز المنافي لحاله ﷺ الموجب لارتفاع الوثوق بأوامره ونواهيه لاحتمال أن يريد بها معنى لم يظهر لنا، كما هو مذهب الملاحدة الباطنية. وأما عدم قتله فلقيام الشبهة على ما قيل. ونظيره ما أخرجه ابن أبي حاتم والبيهقي عن الحسن: «أن ناسا من الصحابة ذهبوا يتطرقون فقتل واحد منهم رجلا قد فر وهو يقول إني مسلم إني مسلم فغضب رسول الله ﷺ من ذلك غضبا شديدا ولم يقتل القاتل» وكذا قتل أسامة فيما أخرجه السدي رجلا يقول لا إله إلا الله محمد رسول الله فلامه رسول الله ﷺ جدا ولم يقبل عذره وقال له: «كيف أنت ولا إله إلا الله» ونزل قوله تعالى: {ولا تقولوا لمن ألقى إليكم السلام لست مؤمنا} الآية. وأجاب آخرون بأن العلماء اختلفوا في أنه هل يجب القصاص على الحاكم إذا لم يطلب الولي أم لا، ولعل الأمير كرم الله وجهه ممن لا يرى الوجوب بدون طلب ولم يقع. وروي أيضا أن الأمير قال لما جاءه عمر بن طلحة بعد موت أبيه: مرحبا بابن أخي، إني لأرجو أن أكون أنا وطلحة والزبير من الذين قال الله فيهم: {ونزعنا ما في صدورهم من غل إخوانا على سرر متقابلين} وهذا ونحوه يدل على أنهما لم يذهبا إلا طاهرين مطهرين. وقعة صفين وأما تلخيص الوقعة الثانية فقد ذكر المؤرخون أن معاوية كان قد استنصره أبناء عثمان ووكلوه في طلب حقهما من قتلة أبيهما، فلما بلغه فراغ علي كرم الله تعالى وجهه من وقعة الجمل ومسيره إلى الشام خرج من دمشق حتى ورد صفين في نصف المحرم فسبق إلى سهولة المنزل وقرب من الفرات، فلما ورد الأمير دعاهم إلى البيعة فلم يفعلوا وطلبوا منه قتلة عثمان وكانوا قد انحازوا إلى عسكره ولهم عشائر وقبائل، ومع هذا لم يمتازوا بأعيانهم، فمال إلى التأخير حتى يمتازوا ويتحقق القاتل من غيره، فأبى معاوية إلا تسليم من يزعمونه قاتلا، وكثر القيل والقال حتى اتهم بنو أمية الأمير كرم الله وجهه بأنه الذي دلس على قتل عثمان وكان كرم الله وجهه قد تصرف بسلاحه فقال لذلك قائلهم: ألا ما لليلي لا تغور كواكبه ** إذا غار نجم لاح نجم يراقبه بني هاشم ردوا سلاح ابن أختكم ** ولا تنهبوه لا تحل مناهبه بني هاشم لا تعجلونا فإنه ** سواء علينا قاتلوه وسالبه وإنا وإياكم وما كان منكم ** كصدع الصفا لا يرأب الصدع شاعبه بني هاشم كيف التعاقد بيننا ** وعند عليٍ سيفه وحرائبه لعمرك ما أنسى ابن أروى وقتله ** وهل يَنسَيَن الماء ما عاش شاربه هُمُ قتلوه كي يكونوا مكانه ** كما غدرت يومًا بكسرى مرازبه وكان الأمير كرم الله وجهه يلعن القتلة ويقول: يا معاوية لو نظرت بعين عقلك دون عين هواك لرأيتني أبرأ الناس من قتلة عثمان. وتصرفه بسلاحه لأنه كان من الأشياء الراجعة إلى بيت المال. وحكمه إذ ذاك كحكم المدافع في زماننا في أن حق التصرف في ذلك للإمام. ثم إنه قد وقع الحرب بينهم مرارا وبقي كرم الله وجهه بصفين ثلاثة أشهر وقيل سبعة، وقيل تسعة؛ وجرى ما تشيب منه الرؤوس ويستهون له حرب البسوس، وليلة الهرير أمرها شهير. وآل الأمر إلى التحكيم. وحدث من ذلك ما أوجب ترك القتال مع معاوية والاشتغال بأمر الخوارج، وذلك تقدير العزيز العليم. وأهل السنة إلا من شذ يقولون إن عليا كرم الله تعالى وجهه في كل ذلك على الحق لم يفترق عنه قيد شبر وإن مقاتليه في الوقعتين مخطئون باغون وليسوا كافرين -خلافا للشيعة- ولا فاسقين خلافا للعمرين أصحاب عمرو بن عبيد من المعتزلة ولمن شذ من أهل السنة، ولا أن أحد الفريقين، من علي كرم الله وجهه ومقاتليه، لا بعينه فاسق خلافا للواصلية أصحاب واصل بن عطاء المعتزلي. أما أن الحق مع علي كرم الله وجهه فغني عن البيان. وأما كون المقاتل باغيا فلأن الخروج على الإمام الحق بغي وقد صح أنه ﷺ قال: «ويح عمار تقتله الفئة الباغية» وقد قتله عسكر معاوية. وقوله حين أخبر بذلك: "قتله من أخرجه" مما لا يلتفت إليه، وإلا لصح أن يقال إن رسول الله ﷺ قاتلُ حمزة وأضرابه ممن قتل معه وكذا قول من قال: "المراد من الفئة الباغية الفئة الطالبة أي لدم عثمان فلا يدل الخبر على البغي بالمعنى المذموم". وأما كونه من ليس بكافر فلِما في نهج البلاغة أن عليا كرم الله وجهه خطب يوما فقال: «أصحبنا نقاتل إخواننا في الإسلام على ما دخل فيه من الزيغ والاعوجاج والشبهة» ولقوله تعالى: {وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما فإن بغت إحداهما على الأخرى فقاتلوا التي تبغي حتى تفيء إلى أمر الله فإن فاءت فأصلحوا بينهما بالعدل وأقسطوا إن الله يحب المقسطين} فسمى الله تعالى الطائفتين المقتتلتين مؤمنين وأمر بالإصلاح بينهما. وأجاب بعض الشيعة عن الآية بأنها في قتال المؤمنين بعضهم مع بعض دون القتال مع الإمام والبغي عليه والخطاب فيها للأئمة أمروا أن يصلحوا بين طائفتين من المؤمنين اقتتلوا فيما بينهم وأن يقاتلوا إذا بغت إحداهما حتى تفيء. ولا يخفى ما في هذا الجواب من الوهن وعدم نفعه للمجيب أصلا لأن الأمر الثاني يستدعي أن يكون القتال مع الإمام ضرورة فافهم. واستدل بعضهم على كفر المقاتلين للإمام كرم الله وجهه بقوله ﷺ له: «حربك حربي» ولأهل العباء: «أنا سلم لمن سالمتم حرب لمن حاربتم» وحرب آل بيته ﷺ كفر بلا ريب وبقوله : «حب علي إيمان وبغضه كفر ونفاق» ولا بغض أظهر من الحرب فبه يثبت الكفر والنفاق. وأجاب أهل السنة بأن الخبر الأول لم يروه منا إلا ابن جرير وفي روايته عندنا وهن شهير. نعم ذكره الطوسي المنجم وغيره من الشيعة وهم بيت الكذب وأكثر رواتهم زنادقة بشهادة الأئمة كما يشهد بذلك الكافي وغيره. وعلى تقدير صحة الرواية لا حجة فيه لأنه خارج مخرج التهديد والتغليظ بدليل ما حكم به الأمير كرم الله وجهه من بقاء إيمان أهل الشام وأخوتهم في الإسلام. ومثل ذلك كثير في الكتاب والسنة. أو يخصّ الحرب بما كان كحرب الخوارج صادرا عن بغض وعداوة وإنكار لياقة الأمير للخلافة باعتبار الدين وذلك كفر عند كل مؤمن، وأدلة التخصيص أكثر من أن تحصر. وقال بعض: لا شك أن المقصود التشبيه بحذف الأداة كزيد أسد فكأنه قيل حربك كحربي فإن كان الحرب فيه المصدر المبني للفاعل صح أن يكون وجه الشبه الوجوب أي أن حربك لمن حاربك وبغى عليك من المؤمنين واجب عليك كحربي لمن حاربني من الكافرين واشتراك الحربين في الوجوب لا يستدعى اشتراك المحاربين بصيغة اسم المفعول في الكفر وهو ظاهر، وإن كان الحرب فيه المصدر المبني للمفعول صح أن يكون وجه الشبه كونه حراما وضلالا مثلا ولا يتعين كونه كفرا. ومن أصحابنا من منع كون حرب الرسول كفرا فقد قال سبحانه: {فإن لم تفعلوا فأذنوا بحرب من الله ورسوله} فإنها نزلت في آكلي الربا وهم ليسوا بكفار. وقال جل وعلا في قطاع الطريق: {إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله} الآية ولم تحكم الشيعة بكفرهم أيضا، وفيه تأمل لا يخفى وجهه. وبأن الخبر الثاني كالخبر الأول غير ثابت عندنا ولم يروه أحد منا أيضا. وقيل: إنه على تقدير الثبوت خارج مخرج التهديد لمن حارب أهل العباء على طرد ما تقدم في الخبر السابق. والخبر الأخير رواه مسلم لكن لا نسلم أن الحرب بغض فقد يحارب الإنسان من يحبه والحيثيات مختلفة كما لا يخفى. ومما يدل على أن المحارب غير كافر صلح الحسن مع معاوية وهو مما لا مجال لإنكاره. فقد روى المرتضى وصاحب فصول المهمة من الإمامية أنه لما أبرم الصلح بينه وبين معاوية خطب فقال: «إن معاوية نازعني حقا لي دونه فنظرت الصلاح للأمة وقطع الفتنة وقد كنتم بايعتموني على أن تسالموا من سالمني وتحاربوا من حاربني ورأيت أن حقن دماء المسلمين خير من سفكها ولم أرد بذلك إلا صلاحكم» انتهى. وفي هذا دلالة ظاهرة على إسلام الفريق المصالَح وأن المصالحة لم تقع إلا اختيارا. ولو كان المصالح كافرا لما جاز ذلك ولما صح أن يقال فنظرت الصلاح للأمة وقطع الفتنة إلخ فقد قال سبحانه وتعالى: {وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين كله لله} ويدل على وقوع ذلك اختيارا أيضا ما رواه صاحب الفصول عن أبي مخنف من أن الحسين كان يبدي كراهة الصلح ويقول: "لو خر أنفي كان أحب إلي مما فعله أخي" فإنه لا معنى لهذا الكلام لو لم يكن وقوع الصلح من أخيه اختيارا، فإن الضرورات تبيح المحظورات وهو ظاهر. وبعد هذا كله قد ثبت عند جمع أن معاوية ندم على ما كان منه من المقاتلة والبغي على الأمير كرم الله وجهه واتفق أن بكى عليه كرم الله وجهه فقد أخرج ابن الجوزي عن أبي صالح قال: قال معاوية لضرار: صف لي عليا، فقال: أوتعفيني؟ قال: بل تصفه، فقال: أوتعفيني؟ قال: لا أعفيك، قال: أما إذ لا بد فإنه كان والله بعيد المدى شديد القوى يقول فصلا ويحكم عدلا يتفجر العلم من جوانبه وتنطق الحكمة من نواحيه يستوحش من الدنيا وزهرتها ويستأنس بالليل وظلمته كان والله غزير الدمعة طويل الفكرة يقلب كفه ويخاطب نفسه يعجبه من اللباس ما خشن ومن الطعام ما خشب كان والله كأحدنا يجيبنا إذا سألناه ويبتدينا إذا أتيناه ويأتينا إذا دعوناه -إلى أن قال- لا يطمع القوي في باطله ولا ييأس الضعيف من عدله فأشهد بالله تعالى لقد رأيته في بعض مواقفه وقد أرخى الليل سجونه وغارت نجومه وقد مثل في محرابه قابضا على لحيته يتململ تململ السليم ويبكي بكاء الحزين فكأني أسمعه يقول: يا دنيا يا دنيا أبي تعرضت أم بي تشوقت، هيهات هيهات غري غيري، قد بتتك ثلاثا، لا رجعة لي فيك، فعمرك قصير وعيشك حقير وخطرك كبير، آه من قلة الزاد وبعد السفر ووحشة الطريق. قال: فذرفت دموع معاوية فما يملكها وهو ينشفها بكمه وقد اختنق القوم بالبكاء، ثم قال معاوية: رحم الله تعالى أبا الحسن كان والله كذلك، فكيف حزنك عليه يا ضرار؟ فقال: حزن من ذبح ولدها في حجرها فلا ترقى عبرتها ولا يسكن حزنها. انتهى. وما يذكره المؤرخون من أن معاوية كان يقع في الأمير كرم الله وجهه بعد وفاته ويظهر ما يظهر في حقه ويتكلم بما يتكلم في شأنه مما لا ينبغي أن يعوّل عليه أو يلتفت إليه، لأن المؤرخين ينقلون ما خبث وطاب ولا يميزون بين الصحيح والموضوع والضعيف، وأكثرهم حاطب ليل لا يدري ما يجمع. فالاعتماد على مثل ذلك في مثل هذا المقام الخطر والطريق الوعر والمهمة القفر الذي تضل فيه القطا ويقصر دونه الخُطا مما لا يليق بشأنه عاقل فضلا عن فاضل. وما جاء من ذلك في بعض روايات صحيحة وكتب معتبرة رجيحة فينبغي أيضا التوقف عن قبوله والعمل بموجبه لأن له معارضات مثله في الصحة والثبوت. على أن من سلم من داء التعصب وبرء من وصمة الوقوع في أصحاب رسول الله ﷺ حمل ذلك على أحسن المحامل وأوّله بما يندفع به الطعن عن أولئك السادة الأماثل. والله تعالى الهادي إلى سواء السبيل الفصل الثالث في بيان حكم سب الصحابة وأما الفصل الثالث ففي بيان حكم سب الصحابة ـ رضي الله تعالى عنهم أجمعين ـ وهو المقصود في الحقيقة من هذه الرسالة اعلم أن السبّ في اللغة الشتم، ويكون بكل ما فيه تنقيص وله مراتب متفاوتة. وأجمع أهل السنة أنه مطلقا في حق الصحابة منهي عنه، وإنما الخلاف في كفر مرتكبه. وستعلم قريبا إن شاء الله تعالى الحق في ذلك. واللعن مثل السب بل هو أدهى وأمر، وقد يقال له سب أيضا. ففي النهاية لابن الأثير: أصل اللعن الطرد والإبعاد من الله تعالى ومن الخلق السب والدعاء انتهى. والشيعة جوزوا السب واللعن على أكثر الصحابة ومنهم من كتم النص وهو بزعمهم حديث الغدير وكذا من حارب الأمير كرم الله وجهه كعائشة وطلحة والزبير ومعاوية وعمرو بن العاص وأضرابهم. بل اعتقدوا أن لعن هؤلاء وسبهم من أعظم العبادات وأقرب القربات، وذلك من الضلالة بمكان، فقد صحت أحاديث كثيرة في النهي عن اللعن مطلقا حتى لعن الحيوانات، وصرح بعض الحنفية بأن لعن الكلب من وجه كفر. وقد تواتر عند الفريقين نهي الأمير كرم الله وجهه عن لعن أهل الشام، فما ظنك بأصحاب النبي بل بكبارهم الذين ورد في حقهم من الآيات البينات ما ورد وأثنى عليهم رسول الله ﷺ بما لم يثن على أحد. فمن ذلك قوله سبحانه: {والذين آمنوا وهاجروا وجاهدوا في سبيل الله والذين آووا ونصروا أولئك هم المؤمنون حقا لهم مغفرة ورزق كريم} وقوله تعالى: {الذين آمنوا وهاجروا وجاهدوا في سبيل الله بأموالهم وأنفسهم أعظم درجة عند الله وأولئك هم الفائزون * يبشرهم ربهم برحمة منه ورضوان وجنات لهم فيها نعيم مقيم * خالدين فيها أبدا إن الله عنده أجر عظيم} وقوله عز وجل: {والسابقون الأولون من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان ورضوا عنه} الآية وقوله جل وعلا: {لقد رضي الله عن المؤمنين إذ يبايعونك تحت الشجرة} الآية وقوله تبارك وتعالى: {لكن الرسول والذين آمنوا معه جاهدوا بأموالهم وأنفسهم وأولئك لهم الخيرات وأولئك هم المفلحون} الآية وقوله سبحانه: {لا يستوي منكم من أنفق من قبل الفتح وقاتل أولئك أعظم درجة من الذين أنفقوا من بعد وقاتلوا وكلا وعد الله الحسنى والله بما تعملون خبير} إلى غير ذلك من الآيات التي لا تحصى. ومثلها الأخبار الواردة فيهم عموما وخصوصا. ولا مساغ للتخصيص الذي يزعمه الشيعة بوجه من الوجوه كما لا يخفى. وليس لهم أن يقولوا بالردة والعياذ بالله تعالى لما علمت. وإن قالوا إنهم ارتكبوا من الذنوب ما سوغ لعنهم وإن لم يكن كفرا فإن مسوغ اللعن ليس مخصوصا به ردوا بأنا لا نسلم ارتكابهم لذلك ودون إثباته خرط القتاد، وعلى فرض التسليم قد قدمنا أن الصحابة لما منّ الله تعالى عليهم من شرف صحبة النبي ﷺ وبذل الأنفس والأموال والأولاد بين يديه مع صدق النية وخلوص العزيمة وشدة المحبة لا يصرون على ذنب فعلوه وخطيئة ارتكبوها، فما ذهبوا إلى ربهم إلا بتوبة نصوح طاهرين من الآثام مكفرا عنهم ما يقتضى الملام، فلم يتحقق فيهم حال السب واللعن -والعياذ بالله تعالى- ما يسوغ ذلك. واعتبار ما كان لو صح لاقتضى جواز سب مثل حذيفة وسلمان فإنهما كانا قبل أن يسلما كافرين، والشيعة لا يجوزون ذلك فيهما لأنهما عندهم من الصحابة الموالين للأمير كرم الله وجهه. وبالجملة اعتبار ذنب مغفور للقدح والطعن في غاية السفه وموجب لفساد عظيم ومن ذلك صحة إطلاق الكافر مثلا على كثير من المؤمنين، وهو كما ترى وقد قال سبحانه وتعالى: {بئس الاسم الفسوق بعد الإيمان} وأيضا الوارد في لعن المرتكبين لبعض الذنوب اعتبار عنوان الذنب ومفهوم الوصف كالظالمين والكاذبين دون القصد إلى واحد بخصوصه مما صدق عليه المفهوم كزيد الظالم وعمرو الكاذب، فيجوز لعن الله الظالمين ولعن الله الكاذبين مثلا دون لعن الله تعالى زيدا وعمرا الظالم والكاذب، بل نصوا على حرمة لعن كافر بعينه لم يتحقق بخبر المعصوم موته على الكفر كأبي جهل وأبي لهب. وقوله ﷺ حين رأى حيوانا وسم على وجهه: «لعن الله من فعل هذا» ليس نصا في لعن مخصوص لجواز اعتبار العموم. ولعن الملائكة المرأة التي تخرج من بيتها بغير أذن زوجها حتى تعود أيضا كذلك. وعن بعض المحققين أن اللعن في مثل {ألا لعنة الله على الظالمين} متوجه بالحقيقة إلى الوصف لا إلى صاحبه، والمراد ذم ذلك الوصف والتنفير عنه، وأنه لو فرض توجهه إلى المتلبس به يكون وجود الإيمان مانعا والمانع مقدم كما هو عند الشيعة. وأيضا وجود العلة مع المانع لا يكون مقتضيا فاللعن لا يكون مترتبا على وجود الصفة حتى يرتفع الإيمان المانع. وقوله تعالى: {والذين جاءوا من بعدهم يقولون ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان ولا تجعل في قلوبنا غلا للذين آمنوا} الآية ظاهر في طلب المغفرة وترك العداوة للمؤمنين. ونطق الصحابة -الذين تسبهم الشيعة- بكلمة الإيمان وإقامتهم لشعائر الدين أمر معلوم لا يحتمل الإنكار بوجه. وكون ذلك عن نفاق أو مستتبعا بما يخالفه مما يحتاج إلى دليل يثبته وبرهان يحققه، وهو أحد المستحيلات. ولو سلم لكل أحد كل ما يقوله من الاحتمالات العقلية وإن لم يبرهن عليها لسلم كلام النواصب والخوارج في حق الأمير كرم الله وجهه وترهاتهم التي تمجها الأسماع في شأنه وفي ذلك من الفساد ما فيه. ومتى كان الإيمان ثابتا لا ينبغي إلا الترضي والاستغفار دون السب واللعن. وقد استدل بعض أصحابنا للنهي عن اللعن بقوله سبحانه: {واستغفر لذنبك وللمؤمنين والمؤمنات} بناء على أن الأمر بالشيء نهي عن ضده كما ذهب إليه الإمامية. وبالجملة حرمة سب الصحابة مما لا ينبغي أن ينتطح فيه كبشان أو يتنازع فيه اثنان. وأطلق غير واحد القول بكفر مرتكب ذلك لما فيه من إنكار ما قام الإجماع عليه قبل ظهور المخالف من فضلهم وشرفهم، ومصادمة المتواتر من الكتاب والسنة القائلين على أن لهم الزلفى من ربهم. ومن هنا كفر من كفر الرافضة. واستدل لكفرهم أيضا بما رواه البيهقي في دلائل النبوة بسند حسن عنه ﷺ أنه قال: «يخرج قبل قيام الساعة قوم يقال لهم الرافضة يرفضون الإسلام فاقتلوهم فإنهم مشركون» وأشار إلى ذلك الصرصري في قصيدته النونية النبوية بقوله: وكذاك أخبر أن سب صحابه ** ما للمصر عليه من غفران علما بقوم يجهرون بسبهم ** من كل غمر فاحش لعان وروي عن الإمام مالك أنه قال: من شتم أحدا من أصحاب النبي ﷺ أبا بكرا أو عمر أو عليا أو معاوية أو عمرو بن العاص فإن قال كانوا على ضلال وكُفر قتل ولم يؤول له. وفي لفظ: يقتل من كفر الصحابة كلهم أو واحدا منهم لأن من كفر مسلما فقد كفر فما بالك بالصحابة وهم أساس الإسلام وعماده. وذهب القاضي حسين إلى أن سب الشيخين كفر وإن لم يكن بما فيه اكفارهما، وإلى ذلك ذهب معظم الحنفية. والأصح من مذهب الشافعية أن السب بما فيه إكفار الصحابة كفر وهو السب الذي اتخذه عبادة شيعة زماننا ودرج عليه الكُميلية من الشيعة أيضا. فعلى هذا لا ينبغي لأحد أن يرتاب في كفرهم بناء على أن سبهم للصحابة بما فيه إكفارهم وحاشاهم ويلزم من إكفارهم بغضهم وهو كفر أيضا كما صرح به الطحاوي وغيره. واستدل له بعض الأئمة بقوله تعالى في حقهم: {ليغيظ بهم الكفار} وكذا استحلال إيذائهم وهو كفر أيضا، كما لا يخفى. وفي الأنوار: لو استحل إيذاء أحد من الصحابة كفر. وفي الاعلام أن استحلال إيذاء غير الصحابة من المسلمين مكفر فما ظنك باستحلال إيذائهم . وكذا يلزم ذلك إنكار خلافة الخلفاء منهم. وفي البزازية أن من أنكر خلافة أبي بكر فهو كافر في الصحيح وأن من أنكر خلافة عمر فهو كافر في الأصح، وفي التاتارخانية مثل ذلك. والذي نعلمه من الشيعة اليوم التصريح بكفر الصحابة الذين كتموا النص ولم يبايعوا عليا كرم الله وجهه بعد وفات النبي ﷺ كما بايعوا أبا بكر كذلك، وكذا التصريح ببغضهم واستحلال إيذائهم وإنكار خلافة الخلفاء الراشدين منهم والتهافت على سبهم ولعنهم تهافت الفراش على النار. وقد أجمع أهل المذاهب الأربعة من الحنفية والمالكية والشافعية والحنابلة على القول بكفر المتصف بذلك. وما روي عن بعضهم من أن السابّ يضرب أو ينكل نكالا شديدا محمول على ما إذا لم يكن السب بما يوجب تكفيرهم وكان خاليا عن دعوى بغض وارتداد واستحلال إيذاء، وليس مراده من أن حكم الساب مطلقا ذلك كما لا يخفى على المتتبع. وذكر صاحب التحفة الاثني عشرية عليه الرحمة أن الصحابة الذين أثنى عليهم الله تعالى في كتابه بما أثنى -وهم الذين ولع الرافضة بسبهم وبغضهم- مثل الأنبياء ـ عليهم السلام ـ في أن سبهم وطعنهم من العصيان بمكان. ونص كلامه ـ قدس سره ـ: ثم ينبغي أن يعلم ههنا دقيقة وهي أن سب الأنبياء ـ عليهم السلام ـ والطعن فيهم والعياذ بالله تعالى إنما صار حراما وكفرا لأن وجه السب وهو المعاصي والكفر لا يوجد في أولئك الكبار البتة بل يمتنع بالضرورة، وإنما الموجود فيهم ما يوجب تعظيمهم وتكريمهم وتوقيرهم والثناء الجميل عليهم والمحامد الحسنة لهم، ومن عداهم من جماعة المؤمنين الذين ثبت تعظيمهم وتكريمهم ومغفرة ذنوبهم وتكفير سيئاتهم بنصوص الكتاب المجيد فهم في حكمه لا محالة في حرمة السب والطعن والتحقير والإهانة، غاية الفرق بين الفريقين أن الأنبياء لم يوجد فيهم أصلا ما يوجب هذه الأمور وهؤلاء وجد فيهم فانعدم، والمعدوم بالعدم الطارئ كالمعدوم بالعدم الفطري في هذا الباب، ولهذا كانت نسبة الذنب السابق المتوب عنه إلى التائب حراما، فإن «التائب من الذنب كمن لا ذنب له» وليس لعوام الأمة ممن عدا الصحابة هذه المرتبة، لأن تكفير سيئاتهم ومغفرة ذنوبهم أمر معلوم لنا بالقطع من الوحي والتنزيل وقبول طاعاتهم وتعلق رضاء الله تعالى بأعمالهم على الخصوص أمر متيقن أيضا، فهم متوسطون بين الأنبياء والأمة، ولهذا لن يصل أحد من غير الصحابة وإن كان مطيعا متقيا إلى درجتهم أصلا انتهى. وهذا كلام حسن وفيه تأييد لما ذكرنا من أن اعتبار ذنب مغفور في غاية السفه. وكذا أجمع السادة الصوفية ـ قدس الله أسرارهم ـ من القادرية والنقشبندية والجشتية والكبروية والسهروردية وغير ذلك على وجوب محبة الصحابة كبارهم وصغارهم وتكريمهم وتوقيرهم واعتقاد أنهم أفضل البشر بعد الأنبياء ـ عليهم السلام ـ وحرمة سبهم وطعنهم وأن سابهم وطاعنهم من الضالين الخاسرين. وفي كتاب الغنية المنسوب لحضرة الغوث الرباني والهيكل الصمداني قطب دائرة العارفين ومربي المسترشدين والسالكين المحبوب السبحاني حضرة الشيخ عبد القادر الكيلاني ـ قدس سره وغمرنا برّه - ما ينادي على ذلك بأعلى صوت، بل صرح ـ قدس سره ـ فيها بتشبيه الرافضة -عاملهم الله تعالى بعدله- باليهود والنصارى، وهو ظاهر في إكفارهم. ومن تتبع كتب القوم قدست أسرارهم رآهم أشد الخلق حبا لأصحاب رسول الله ﷺ بأسرهم وأكثر الناس بغضا للرافضة الطاغين فيهم. نعم إن للصوفية نوع اختصاص بعلي كرم الله وجهه حتى شاع أن الصوفية علوية لما أن سلاسل الطرائق منتهية إليه وواردة عليه فهو باب الولاية وأبو الإرشاد، ولا يجرهم هذا إلى الابتداع وتنقيص أحد من الصحابة الكرام . ومن نسب إليهم ذلك وحاشاهم فقد ضل ضلالا بعيدا. وإذا أحطت خبرا بما ذكرنا ظهر لك أن من سب أو طعن أو بغض أو كفر أحدا من الصحابة لا سيما كبارهم كالخلفاء الراشدين وزعم حل ذلك عند أحد من أهل السنة والجماعة فقد أعظم الفرية بغير مرية. كيف لا وأحد الأمور التي ميزت أهل السنة عن الشيعة حبهم لأصحاب نبيهم وتعظيمهم إياهم وقولهم فيهم إنهم أفضل البشر بعد النبيين والترضي عنهم أجمعين؛ لا كما عليه الشيعة من بغضهم لهم وتحقيرهم وقولهم فيهم إنهم شر الخلق ولعنهم وسبهم في كل وقت وحين، ولم يستثنوا أحدا من ذلك سوى ستة أو سبعة أو ما قارب ذلك. وبالجملة إن نسبة حل السب لأهل السنة في الكذب مثل قول القائل الضدان يجتمعان والأربعة فرد والثلاثة زوج وشريك الباري ممكن بالإمكان الخاص ونحو ذلك. ولا ينبغي أن يزاد في جواب زاعم ما ذكر من تلك النسبة على قول: {ألا لعنة الله على الكاذبين} لظهور كذبه وغنائه عن البيان عند من عرف معنى لفظ أهل السنة والجماعة. هذا والكلام في خصوص حل سب معاوية وإكفاره ولعنه يعلم أيضا حكمه مما تقدم وقد صرح الإمام مالك بأن من قال إنه كان على ضلال وكفر قتل. ويفهم من الرواية الأخرى أن من كفره فقد كفر وكذا من قال بحل لعنه كما يقتضيه كلامهم. فإنه من كبار الصحابة وكان أحد الكتّاب لرسول الله ﷺ كما صح في مسلم وغيره. وفي حديث سنده حسن: «كان معاوية يكتب بين يدي رسول الله » قال المدايني: كان زيد بن ثابت يكتب الوحي وكان معاوية يكتب للنبي ﷺ على وحي ربه. وهي مرتبة رفيعة. وروى الترمذي وقال إنه حديث حسن «أن رسول الله دعا له فقال: اللهم اجعله هاديا مهديا» ودعاءه لأمته مستجاب ومتى كان هذا مستجابا كان في معاوية صفتان يقعدان لاعنه ومكفره على عجزه. وأخرج الملا في سيرته ونقله عنه المحب الطبري في رياضه أنه ﷺ قال: «أرحم أمتي بأمتي أبو بكر وأقواهم في دين الله تعالى عمر وأشدهم حياء عثمان وأقضاهم علي ولكل نبي حواري وحواري طلحة والزبير وحيث ما كان سعد بن أبي وقاص كان الحق معه وسعيد بن زيد من أحباء الرحمن وعبد الرحمن بن عوف من تجار الرحمن وأبو عبيدة بن الجراح أمين الله تعالى وأمين رسول الله ﷺ وصاحب سري معاوية بن أبي سفيان فمن أحبهم فقد نجا ومن أبغضهم فقد هلك» وفي هذا من الدلالة على فضله ما لا يخفى. وقد فاز بمصاهرة النبي ﷺ فإن أم حبيبة أم المؤمنين أخته وقد قال : «دعوا أصحابي وأصهاري فإن من حفظني فيهم كان معه من الله تعالى حافظ ومن لم يحفظني فيهم تخلى الله تعالى منه ومن تخلى الله تعالى منه يوشك أن يأخذه» رواه الإمام الحافظ أحمد بن منيع. وروى الحارث بن أبي أسامة عن النبي : «عزيمة من ربي وعهد عهده إلي أن لا أتزوج إلى أهل بيت ولا أزوج بيتا إلا كانوا رفقائي في الجنة» والأخبار المشعرة بفضله كثيرة. وما طعن به المخالف مردود عليه. وقد ألف العلامة ابن حجر للسلطان همايون من سلاطين الهند رسالة نفيسة في الذب عن معاوية سماها تطهير اللسان والجنان عن الحظور والتفوه بثلب سيدنا معاوية بن أبي سفيان، وأجاب عن الأخبار الموهمة للنقص في حقه . ونزول الحسن له عن الخلافة ومبايعته عليها ووقوع الإجماع إذ ذاك على خلافته لا يبقي سبيلا إلى سبه، ويجعل القول بكفره والعياذ بالله تعالى كفرا لا شبهة فيه لما فيه من تضليل الأمة التي لا تجتمع على ضلالة أبدا، لا سيما ومن جملة المجمعين المعصوم وهو الحسن على ما هو معتقد الشيعة. ودعوى الإكراه قد مر الجواب عنها فتذكر. والكلام في عمرو بن العاص نظير الكلام في معاوية كما علمت مما روي عن الإمام مالك وغيره. وقد كان النبي ﷺ يقربه ويدنيه بعد أن أسلم وولاه غزاة ذات السلاسل وأمده بأبي بكر وعمر وأبي عبيدة بن الجراح ثم استعمله على عمان فتوفي وهو أميرها. ثم كان من أمراء الأجناد في الجهاد بالشام في زمن عمر وهو الذي افتتح قنسرين وصالح أهل حلب ومنبج وأنطاكية. وأخرج أحمد من حديث طلحة أحد العشرة رفعه: «عمرو بن العاص من صالحي قريش» ورجال سنده ثقات إلا أن فيه انقطاعا بين ابن أبي مليكة وطلحة. وأخرجه البغوي وأبو يعلى من هذا الوجه وفيه زيادة: «نعم أهل البيت عبد الله وأبو عبد الله وأم عبد الله» وموافقته لمعاوية في قتال علي كرم الله وجهه ليس بكفر على ما علمت. ويدل على ذلك أيضا ما رواه الطبراني بسند رجاله موثقون على خلاف في بعضهم أن الأمير كرم الله وجهه قال: «قتلاي وقتلا معاوية في الجنة» فإنه ظاهر في أن الأمر كان عن اجتهاد وللمخطئ فيه أجر واحد وللمصيب أجران إلى عشرة أجور. وقد جاء في صحيح البخاري عن عكرمة عن ابن عباس ما يدل على أن معاوية كان من أهل الاجتهاد. ونص غير واحد على أن عمرو بن العاص أيضا كذلك. فهو معذور فيما صدر منه وإن كان مخطئا كسائر من بغى على علي كرم الله وجهه. والحكايات الدالة على أنه إنما وافق معاوية للدنيا لا للدين مما نقلها المؤرخون في كتبهم من غير سند لها لا يعول عليها، وحال المؤرخين في النقل معلومة فلا ينبغي الاغترار بنقلهم إلا إذا وجدت فيه شروط القبول. ومما لا يعول عليه من ذلك ما نقله ابن الوردي أن عمرا انحرف يوما عن معاوية فاستعتبه معاوية فأنشده: معاوي لا أعطيك ديني ولم أنل ** به منك دنيا فانظرن كيف تصنع فإن تعطني مصرا وتربح صفقتي ** شريت بها شخصا يضر وينفع فولاه مصر وجهزه إليها لذلك. والثابت عند أهل الأخبار أنه ولي مصر وسار إليها بعد ما كان من أمر الحكمين وحكم فيها من صفر سنة ثمان وثلاثين إلى أن مات. وأما أنه أنشد ما أنشد فغير ثابت. ومما ينتظم في هذا السلك بعض الأخبار المشعرة بذمه وذم اجتماعه مع معاوية؛ وهو ما روي أن شداد بن أوس دخل على معاوية وعمرو معه على فراشه فجلس بينهما وقال: أتدرون ما أجلسني بينكما إني سمعت رسول الله ﷺ يقول: «إذا رأيتموهما جميعا ففرقوا بينهما فوالله ما اجتمعا إلا على غدرة فأحببت أن أفرق بينكما» انتهى فإن هذا الخبر لم يثبت لأن في سنده من قال الحافظ الهيثمي فيه: لا أعرفه. وبعض المحققين أجاب عنه على تقدير صحته بما لا يخلو عن نظر. نعم ضرر اجتماعهما في قتال الأمير كرم الله تعالى وجهه والبغي عليه أمر ظاهر لا مساغ لإنكاره، إلا أنهما معذوران عند أكثر الجماعة أو مكفَّر عنهما ذلك على ما أشير إليه في ما سبق. ولو لم يُقل بهذا ولا ذاك فنهاية ما يمكن أن يقال كونهما آثمين، وأما الكفر وحل اللعن والسب فما لا يمكن أن يقال بوجه من الوجوه وحال من الأحوال. ومما هو ظاهر في أن عمرا لم يكفر بما فعل أن الأمير كرم الله وجهه تمكن من قتله في صفين كما هو مشهور عند الموافق والمخالف ولم يقتله ولو كان كما يزعمه الشيعة لما منعه من قتله مانع كما لا يخفى. وبالجملة تكفير أحد من الصحابة الذين تحقق إيمانهم وصدقهم وعدم نفاقهم والإقدام على لعنه بمجرد شبهة هي أوهن من بيت العنكبوت كفر صريح لا ينبغي أن يتوقف فيه. وللشيعة الذين في زماننا الحظ الأوفى من هذا الكفر لأنهم كفروا إناسا من الصحابة كان الأمير يصلي وراءهم ويقتدي بهم في الجمع والجماعات كأبي بكر وعمر وعثمان وقد درج معهم على أحسن حال وأرفه بال، زوج ابنته أم كلثوم من عمر ونكح هو كرم الله وجهه من سبي أبي بكر خولة الحنفية وصدر منه كرم الله وجهه من حسن المعاملة مع الخلفاء ما لا يقبل تأويلا. وهو مما يلقم الشيعة حجرا لكونهم أسوأ الخلق عقيدة وأكثرهم جرأة وأظهرهم ضلالا. قال في تبصرة الحقائق: الشاك في كفرهم إن شك في أن قولهم هل هو فاسد أم لا فهو كافر وإن علم أن قولهم ضلال وبدعة وشك في كونه كفرا ففي تكفير خلاف. وممن حكم بكفر الشيعة وإلحاق ديارهم بدار الحرب جماعة من المتأخرين كالعلامة ابن كمال وشيخ الإسلام أبي السعود وغيرهما. ولولا خوف الإطناب لأتيت من فضائحهم بالعجب العجاب، وفيما ذكرناه كفاية فيما نحن بصدده من الجواب. والله تعالى الهادي إلى صوب الصواب. الخاتمة في تفاوت الصحابة في الفضل وأما الخاتمة ونسئل الله تعالى حسنها ففي تفاوت الصحابة في الفضل اعلم أن أفضل الخلق على الأصح وعليه أكثر الناس الأنبياء ـ عليهم السلام ـ وأفضلهم المرسلون وأفضلهم أولوا العزم وأفضلهم محمد ﷺ وهل هو أفضل من المجموع كما أنه أفضل من كل واحد أم لا فيه خلاف، والذي أميل إليه الأول. وأفضل الأمم أمته كما يشهد له الآيات والأخبار وأفضلهم صحابته للآيات أيضا وللأحاديث البالغة مبلغ التواتر وإن كانت تفاصيلها آحاد وأفضلهم الخلفاء الأربعة الراشدون وهم في الفضل كما روي عن أبي منصور الماتريدي وأبي الحسن الأشعري على ترتيبهم في الإمامة وعن مالك تقديم علي كرم الله وجهه على عثمان وادعى غير واحد رجوعه إلى ما تقدم، ثم تمام العشرة ثم أهل بدر ثم أهل أحد ثم أهل بيعة الرضوان. وممن له مزية لا تنكر أهل العقبتين من الأنصار وكذلك السابقون الأولون. وقد تجتمع صفتان فأكثر في شخص واحد من الصحابة فيكون بدريا أحديا من أهل بيعة الرضوان مثلا ولا يلزم من ذلك محذور تفضيل الشيء على نفسه كما لا يخفى. وقال بعضهم: أفضل الصحابة أهل الحديبية وأفضلهم أهل أحد وأفضلهم أهل بدر وأفضلهم العشرة وأفضلهم الخلفاء الأربعة وأفضلهم أبو بكر . وزعمت الخطابية أن أفضلهم عمر بن الخطاب والشيعة أن أفضلهم علي كرم الله وجهه وأنف بعضهم عن أن يقال فيه كرم الله وجهه إنه أفضل الصحابة وأنشد في ذلك: يقولون لي فضل عليا عليهم ** وكيف أقول الدر خير من الحصى ألم تر أن السيف ينقص قدره ** إذا قيل هذا السيف خير من العصا وزعمت الراوندية أن أفضل الصحابة العباس بن عبد المطلب وتوقف بعض الناس على تفضيل أحد منهم بخصوصه وقال: الأسلم بعد اعتقاد جلالتهم عدم الخوض في التفضيل فليس هنا ما يفيد اليقين. وفي المواقف وشرحه بعد كلام في تعيين الأفضل من الصحابة أن مسألة الأفضلية لا مطمع فيها من الجزم بها إذ لا دلالة للعقل بطريق الاستقلال على الأفضلية بمعنى الأكثرية في الثواب بل مستندها النقل وليست مسألة يتعلق بها عمل فيكفي بها الظن بل هي مسألة علمية يطلب فيها اليقين والنصوص بعد تعارضها لا تفيد القطع على ما لا يخفى على منصف لأنها بأسرها إما آحاد أو ظنية الدلالة وليس الاختصاص بكثرة أسباب الثواب موجبا لزيادته قطعا لأن الثواب تفضل من الله تعالى عند أهل الحق فله أن لا يثيب المطيع ويثيب غيره وثبوت الإمامة وإن كان قطعيا لا يفيد القطع بالأفضلية بل غايته الظن كيف ولا قطع بأن إمامة المفضول لا تصح مع وجود الفاضل لكنا أوجدنا السلف قالوا بأن الأفضل أبو بكر ثم عمر ثم عثمان ثم علي وحسن ظننا بهم يقضي بأنهم لو لم يعرفوا ذلك لما أطبقوا عليه فوجب علينا اتباعهم في ذلك القول وتفويض ما هو الحق فيه إلى الله تعالى وإلى عدم الجزم ذهب الآمدي. انتهى المراد منه ولا تخفى متانته. وفي فتوحات الشيخ الأكبر ـ قدس سره ـ ما يوافق ذلك فإنه قال: إن تقديم الخلفاء بعضهم على بعض لا يقتضى الجزم بالتفضيل بل ذلك راجع إلى الله تعالى ولم يعلم به فالله سبحانه يحفظنا من الفضول. وفي كلام الشيخ السهروردي في عقيدته ما يوافقه أيضا. ونقل عن الباقلاني أيضا أن مسألة التفضيل على الترتيب المشهور ظنية، وفي ذلك مخالفة لما عليه الإمام الأشعري حيث ذهب إلى أنها قطعية، قيل: وعليه فضل علي كرم الله وجهه على سائر الصحابة مبتدع قطعا وعلى القول الآخر فيه لا قطع بابتداعه، والمشهور عند الجماعة إطلاق القول بابتداعه وأن من فضّله كرم الله وجهه بالمحبة مبتدع أيضا ما لم يكن من ذريته، وهو خلاف الإنصاف كما لا يخفى على منصف. ومن الناس من لم ير تفضيله على الكل ابتداعا لما ثبت من جلة من أئمة الحديث أنه ما ورد في صحابي ما ورد في علي كرم الله وجهه من الأخبار النبوية والمدائح المصطفوية مع ما تواتر عنه من الشجاعة والعلم والإيثار وملازمة النبي ﷺ صغيرا وكبيرا وغير ذلك، وكون غيره أشجع منه وأعلم وأكثر ملازمة له ﷺ في حيز المنع وجعل الابتداع عدم توفية الباقين حقهم من التفضيل، بل قد يجر ذلك إلى الكفر والعياذ بالله تعالى وأطال الكلام في ذلك وفيه نظر. ونقل عن آخرين أنه كرم الله وجهه ولما اجتمع فيه من الصفات ما لم يجتمع في غيره كان هو الخليفة بعد رسول الله ﷺ بلا فصل ولكن من طريق الباطن الذي يدور على الإرشاد وتربية المريدين وتصفية بواطنهم وغير ذلك مما تقتضيه الولاية، وأما أبو بكر فهو خليفة رسول الله ﷺ أيضا بلا فصل أيضا ولكن من طريق الظاهر الذي يدور عليه سد الثغور وتجهيز الجيوش وتنفيذ الأحكام وحفظ بيضة الإسلام ونحو ذلك. ومن هنا كان معظم سلاسل السادة الصوفية قدست أسرارهم منتهية إلى علي كرم الله وجهه دون غيره من الصحابة الكرام انتهى. وأنت تعلم أن دعوى خلافتين ظاهرية وباطنية غير مسلمة عند أهل الظاهر وإثباتها عليهم صعب جدا فتأمل. واعلم أيضا أن المشهور أيضا من مذهب الجماعة أنه -وهو الحق- لا يبلغ أحد من الأمة إلى يوم القيامة درجة واحد من الصحابة في الفضل ولو فعل ما فعل من الطاعات. ويشهد له ظواهر كثير من الآي والأخبار. وعلى هذا جاء ما نقل عن الإمام الجليل عبد الله بن المبارك ـ عليه الرحمة ـ أنه سئل فقيل له: يا أبا عبد الرحمن أيما أفضل معاوية أو عمر بن عبد العزيز؟ فقال: "والله إن الغبار الذي دخل في أنف فرس معاوية مع رسول الله ﷺ أفضل من عمر بألف مرة، صلى معاوية خلف رسول الله ﷺ فقال رسول الله سمع الله لمن حمده فقال معاوية : ربنا ولك الحمد. فما بعد هذا" الشرف الأعظم. وأما ما روي عن أنس عن النبي ﷺ أنه قال: «أمتي كالمطر لا يدرى أوله خير أم أخره» فلا يعارض ما تدل عليه تلك الظواهر لأن المراد منه كما قال ابن قتيبة تقريب آخر هذه الأمة إلى أولها في الفضل كما تقول لا أدري أوجه هذا الثوب خير أم مؤخره وقد علمت أن وجهه خير، ولكنك تؤيد تقريب مؤخره من وجهه في الجودة، وغير ذلك مما هو مذكور في محله. هذا والحمد لله حمدا غضا والصلاة والسلام على نبيه النبيه حتى يرضى وعلى آله وأصحابه نجوم الهداية ورجوم الغواية ما ظهر الحق والصواب وأحرق شياطين الأوهام من فلك العلم شهاب. وكتب أفقر العباد إليه عز شأنه أبو الثناء شهاب الدين السيد محمود المفتي ببغداد عفى عنه سنة 1254 رمضان. ثم طبع هذا الكتاب المستطاب الحري أن يكتب بالتبر المذاب على ذمة حضرة السيد أحمد شاكر أفندي وشبل المؤلف المرحوم لا زال راتعا في رياض الفضائل والعلوم وذلك سنة 1301 من ذي القعدة الحرام. ------------------------------------ الكتاب الثاني ------------------------------------ أدلة الوحدانية في الرد على النصرانية للقرافي رب يسر وأعن يا الله الحمد لله محكم الصنائع ومحكم البدائع ومميز القطر والطبائع ومرقيها إلى أعلى المراقي وأسنى المطالع ومودعها أنوار حكمته المشرقة اللوامع وناصبها للذب عن العقائد والأديان والشرائع ومؤيدها بالبراهين الظاهرة والأدلة الباهرة القواطع. أحمده على الإسلام الذي هو ناسخ للملل ورافع، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، شهادة أجاهد بها عن الحق وأدافع، وأشهد أن سيدنا محمدا عبده ورسوله المبعوث لكل دان من الخلق وشاسع، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه ما سجد له ساجد وركع راكع. هذا ولما رأيت مولانا السلطان الملك الكامل الناصر لدين الله بالمعالي الجامع للمفاخر والمعالي -أدام الله نصرته وأعز أسرته وحمى به منار الملك وأسرته، وشكر عن المسلمين والإسلام سيرته وسريرته، ونور في أعلى منار بالشريعة بصره وبصيرته، ولا زالت دولته طويلا ديلها جميلا مع الليالي والأيام سيرها وسبيلها مجلوبا على الأولياء خيرها مجلبا على الأعداء حلها- قد أقام للعلوم أسواقا فأفاضت به تفد الأفول أقمارها وظهرت به بعد الدروس آثارها وجمع بسعادته ما تفرق من شملها وقوي بإنعامه ما وهن من حبلها وعظم بإكرامه ما انحمل من أهلها، فصار جنابه مراد الرائدين وملجأ الوافدين والقاصدين وموسم الآمال وكعبة الإقبال، يهدي إليه كل أحد على قدره وطاقته ومكنته من الفضل واستطاعته رجاء النفاق عليه، إذ لا موئل للأفاضل والفضائل إلا إليه، إذ هو بصير العلماء وخبير الفضلاء، إن قصد إليه فنعم مطرح الرجاء وإن استند إليه كان محط الالتجاء. لما رأى المملوك تفننهم في الإهداء وما يعرضونه بمقام البهاء والسناء من كلام منثور ومنظوم كالوشي المرقوم والسحاب المركوم، وهو ذو إصغاء إلى قليلهم لا يمل من ناثرهم وناظمهم وناقلهم، إن نظر كان له نظر مصيب وإن تكلم وجد له في كل علم نسيب، أجلتُ طرف الفكر ميدان النظر أي فن أقصد إليه وأرجو من الله أن يثيبني في الآخرة عليه، فظهر لي أن أولى ما تصرف إليه الهمم وتتفاوت فيه القيم وتتنافس فيه الأفاضل ويتميز به المفضول من الفاضل الذب عن حوزة الدين وحراسة بيضة المسلمين بالبحث في الملل والأديان وإقامة الدليل على وحدانية الملك الديان بالنظر السليم والفكر القويم المفضي إلى المعارف المنجي من المتالف الداعي إلى الرشاد المنقذ من الضلال والفساد المفترض على العباد، ليعرف الله تعالى حق معرفته وينزه عما يجوز على بريته، مظهرا للدين الحنيفي الدعائم والأركان موضحا ظهوره على جميع الأديان. فنظرت في أهل الشرائع والمذاهب وتفكرت فيمن هو فيها عن التوحيد ذاهب، فلم أجد سوى مذهب النصارى الضالين الحيارى المتشبثين بخيوط العنكبوت القائلين بحلول اللاهوت في الناسوت. ووجدتهم مع قلة علمهم وعدم فهمهم وكثرة جهلهم قد طبقوا أكثر الأرض بطولها والعرض، فقلت: الآن ظفرت بطلبي وحصل لي بحمد الله مطلبي، فرأيت أن أصنف لمولانا السلطان أعزه الله تعالى في الرد عليهم كتابا أتحفه فيه بغريبه وأنفرد فيه بطريقة عجيبة، أجمع فيه مذاهبهم على جليتها وأخاطبهم بفصوص نصوصهم وأجادلهم بها مجادلة الأقران وأبارزهم على نقضها مبارزة الشجعان. وبالاختبار تظهر حيلة الأسرار، وبالامتحان يكرم الرجل أو يهان. وسميت الكتاب أدلة الوحدانية في الرد على النصرانية، وقسمته على أربعة أصول: الأصل الأول: حكاية مذهب النصارى على جليته وكيف استدلوا بزعمهم على صحته من المنقول واعتقاد كل فريق منهم في الإله من طريق المعقول وسبب وضعهم للأمانة وحكاية مجامعهم العشرة وكيف كفّر بعضهم بعضا ولعن بعضهم بعضا، وكيف ارتكبوا في هذه المجامع الضلالات ووقعوا في حيرة في معرفة خالق الأرضين والسموات، وكلما أرادوا أن يخرجوا بجمع منها إلى الوجود ردتهم قلة معرفتهم إلى نهاية الجمود. وفي هذا الأصل سبعة فصول. الأصل الثاني: في الرد عليهم، وفيه نقض الفصول. وفي هذا الأصل تبيين كشف أسرارهم وهتك أسرارهم وأنهم ارتكبوا المستحيل وخالفوا ما جاء في التوراة والإنجيل. الأصل الثالث: في بيان غلط النقلة للأناجيل وبيان تناقضها. الأصل الرابع: في ذكر النبي الأمي في الإنجيل كما أخبر عنه في محكم التنزيل. أما الأصل الأول فيتضمن سبعة فصول: الفصل الأول: في حلول الكلمة بزعمهم في مريم البتول واتحادها مع يسوع. الفصل الثاني: في سبب كون المسيح جاد بنفسه وسهل عليه سفك دمه. الفصل الثالث: في حكاية صلب المسيح بزعمهم. الفصل الرابع: في دليلهم على الثالوث من المنقول وتمثيلهم له بالمعقول. الفصل الخامس: في إشارة التوراة إلى الصليب وإلى ضرب الناقوس. الفصل السادس: في إشارة التوراة وكتب الأنبياء إلى مجيء المسيح إما بإشارة أو بتصريح. الفصل السابع: في اعتقاد كل فريق منهم في الإله من طريق المعقول وسبب وضعهم للأمانة وذكر مجامعهم العشرة. الفصل الأول في حلول الكلمة واتحادها بيسوع زعمت النصارى أن الله سبحانه لما خلق السماوات والأرض كان قد قدّر في الأزل أن آدم عليه السلام يعصي ربه عز وجل وأن الشيطان يغويه، فلما عصاه وأكل من الشجرة التي نهاه الله عنها عاقبه وذريته بورود جهنم. ولما رحم الله تعالى عباده وأشفق عليهم ألقى كلمته إلى مريم البتول فتجسدت الكلمة في جوفها فخرج منها إله تام من إله تام، نور من نور. قالوا: فخلص سيدهم يسوع المسيح العالم من حبال الشياطين التي كانوا يقودون فيها الآدميين إلى الجحيم، فما عرفته الشياطين وظنوا أنه واحد من بني آدم، فصُلب وقتل بغير ذنب، وعند ذلك تردّى إلى الجحيم فكسر أبوابها وأخرج منها أولياء الله وأنبياءه ثم صعد إلى السماء. وزعموا أنهم يرونه يوم القيامة على تلك الهيئة، أعني قاعدا على يمين أبيه يدين الأمم. الفصل الثاني في سبب كونه جاد بنفسه وسهل عليه سفك دمه قالوا أما سبب كونه جاد بنفسه وسهل عليه سفك دمه ليكون ذلك سنة في القرابين ويكون مجيئه لتنقذ الأولياء والصالحين من الذنب الذي كانوا به معاقبين، إذ كانوا بذنب آدم الذي عصى ربه معذبين، فخلصهم بالماء والدم اللذين خرجا منه عندما صلب على الصليب وطعنه يودس بالحربة. والحربة إلى اليوم مع الصليب الذي صلب عليه موجودا في الكنائس. ولأجل ذلك إشارة التوراة في القرابين التي أمر الله بها موسى عليه السلام في التثنية من ذبح الأنعام وإراقة الدماء تقربا إلى الله تعالى. الفصل الثالث في حكاية صلب المسيح بزعمهم قالوا: قال داود عليه السلام في المزمور الواحد والعشرين الذي حكى فيه صلب المسيح، قالوا: قال سيدنا المسيح وهو على الصليب: "إلهي إلهي لماذا أهملتني، كلمات بعيدة عن خلاصي، إلهي دعوت نهارا فلم تسمع، وليلا فلم أسكت، هللت في القدس: يا مادح إسرائيل، عليك توكلوا آباؤنا فأنجيتهم، إليك هجوا وخلصوا، عليك توكلوا فلم يخزوا، فأما أنا فدودة وليس إنسانا، عار البشر وزالة الشعب، وأنت يا رب رجائي، من ثدي أمي عليك ألقيت من الرحم من بطن أمي، أنت هو إلهي، لا تبعد عني فإن الشدة قريبة، أحدقت بي عجول كثيرة وثيران سمان اكتنفتني، وجعلوا المرارة طعامي، وفي عطشي أسقوني خلّا، ثقبوا يدي ورجلي، أحصوا جميع عظامي، نج نفسي من الحوبة، وخلصني من فم الأسد، لأخبر باسمك في إخوتي وفي وسط الجماعة أسبحك، يخبر بالرب الجليل ويبشرون بعدله الشعب المولود الذي اصطنع الرب. الفصل الرابع في دليل الثالوث من التوراة والإنجيل..

  الكتاب الاول الأجوبة العراقية على الأسئلة اللاهورية لأبي الثناء شهاب الدين محمود الحسيني الآلوسي البغدادي نزل اللهم يا ...